متى ولماذا تحوّل القمح إلى مادة لا يستغني عنها البشر؟

القمح المصري A farmer harvests wheat on a field in the El-Menoufia governorate, about 9.94 km (58 miles) north of Cairo April 23, 2013. Egypt's wheat crop will be close to 10 million tonnes this season, agriculture minister Salah Abdel Momen said on Sunday as the harvest gets underway, more than the supply minister's 9.5 million tonne forecast. Picture taken April 23, 2013. REUTERS/Mohamed Abd El Ghany (EGYPT - Tags: AGRICULTURE BUSINESS COMMODITIES)
حبة القمح تحولت إلى رغيف ساخن ثم خرجت من نافذة المطبخ الضيق لتدخل أروقة السياسة من أوسع أبوابها (رويترز)

منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير/شباط 2022 بين دولتين من أكبر الدول المنتجة والمصدرة للقمح عالميا؛ تضاعفت أسعار القمح على نحو كبير، وأصبح خبز العالم في خطر، وأضحت "حبة" القمح ضمن السلع الإستراتيجية المهمة في العالم، التي قد يتسبب شحها في تهديد الأمن والسلم الدوليين.

لم يكن القمح مجرد سلعة وتجارة وأرقام، أو حتى مجرد طعام، بل كان تاريخا مصبوغا بالعرق والدموع، وتجارة مغموسة بالدماء؛ فقد ملأ بطون الشعوب، وكان أيضا سببا في قطع رقاب كثير من الحكام، وشرارة أشعلت الثورات، وقادت الانقلابات في مختلف أنحاء المعمورة على طول التاريخ.

وكما يقول الجنرال شارل ديغول "لا تبحثوا عن أسباب الحرب في براميل البارود، بل في أهراء (صوامع) القمح".

متى وأين عرف الإنسان القمح؟

يقول أستاذ المحاصيل المتفرغ بجامعة الأزهر أحمد هجرس للجزيرة نت، إن "حبة القمح على صغر حجمها كانت سببا في تطور الحياة المدنية على الأرض، وعدّها المؤرخون المقدمة الطبيعية لنشأة الحضارة الإنسانية، والتحضر الإنساني يرتبط ارتباطًا وثيقًا باكتشاف الإنسان زراعة محاصيل الحبوب، وفي مقدمتها حبة القمح التي شكلت الجزء الأكثر أهميةً في النظام الغذائي للبشر منذ القدم".

إعلان

وتبدأ قصة القمح والخبز من قبل التاريخ الإنساني، ومن المرجح أن المصريين القدماء عرفوا القمح قبل الميلاد بـ 2700 سنة، وأن منشأ "حبة" القمح هو وادي دجلة والفرات كما قال المؤرخ المعروف دي كاندول في كتابه "أصل النباتات المزروعة" الذي نشره في العام 1882، واعتمد فيه على الأدلة الأثرية والتاريخ وعلى فقه اللغة لدراسة أصول النباتات، ومن العراق انتقل القمح إلى فلسطين ثم إلى مصر وأفريقيا، ثم إلى أنحاء مختلفة من العالم.

ورغم أن الولايات المتحدة الأميركية تعد من أكبر دول العالم إنتاجا للقمح في وقتنا الحالي، فإن القمح لم ينتقل إليها إلا عام 1618 بعد اكتشافها، حسب هجرس.

ولعل أول من أكل الخبز كان شخصا في أحد أجزاء سومر أو في بلاد ما بين النهرين عام 6000 ق.م، إذ قام بإعداد الخبز مثل هذا الذي نراه اليوم.

ومن المرجح أن المصريين القدماء كانوا من أوائل الشعوب التي استخدمت القمح كمكمل غذائي أساسي على المائدة، ويعتقد المؤرخون أن المصريين القدماء أول من صنعوا الخبز من بذور القمح، وطوروا أفرانا خاصة لإنتاجه على نطاق واسع، وتعلموا صنع خميرة الخبز عام 2600 قبل الميلاد، ليصبح غذاء أساسيا لكثير من شعوب الأرض.

الفضل يرجع للمصريين القدماء في تطوير القمح واستخدامه مكملا غذائيا أساسيا على المائدة (الجزيرة)

لماذا تحول القمح إلى مادة أساسية؟

وأما لماذا أصبح العالم لا يستغني عن الخبز والقمح بشكل عام في تغذيته، رغم أن هناك محاصيل أخرى يمكن للإنسان أن يعيش عليها، يرجع أستاذ المحاصيل المتفرغ بجامعة الأزهر ذلك إلى القيمة الغذائية لحبة القمح، وتكوينها الفريد من عدد من المكملات الغذائية المهمة لحاجة الجسم البشري، من نشا وماء وبروتين سيليلوز ودهون وكربوهيدرات بنسب مختلفة، ولأنها غنية بالبروتينات الدهنية والسكر والعناصر الغذائية والأملاح المعدنية الموجودة في نخالة وجنين القمح.

إعلان

وتتكون حبة القمح من مركبات غروية تسمى "الغلوتين" التي تعمل على إنتاج خبز مختمر، يجعل من الممكن تكوين عجينة تحتفظ بثاني أكسيد الكربون يساعد على إنتاج خبز مسامي.

وهذا التركيب من كل هذه العناصر يميز حبة القمح عن بقية الحبوب الأخرى كالشعير والذرة بأنواعه، حيث لا يوجد هذا التركيب بنفس العناصر الأمينية إلا في حبة القمح التي تتم زراعتها على نحو تجاري في 120 بلدا حول العالم، ولهذا نسمع السيدات في الريف يميزن بعض أنواع القمح عن غيره، بأن هذا القمح "عرقه قوي" أو "عرقه ضعيف"؛ فالقمح القوي يستخدم في صناعة المعكرونة والفطائر والحلويات، إذ إن عنصر الغلوتين مركب بروتيني موجود بشكل طبيعي في بعض الحبوب كالقمح والشعير والشوفان، ولكنه في القمح أقوى، ولهذا يستخدم في صنع بعض الأغذية، مثل المعجنات والمعكرونة لأنه يمنحها التماسك والمرونة.

وحبة القمح على صغرها، بعد أن تحولت لدقيق وعجين ورغيف ساخن، خرجت من نافذة المطبخ الضيق، لتدخل أروقة السياسة من أوسع أبوابها، فهي مجال للمضاربات ومحل للصفقات التي تتحكم في إرادات الشعوب وقرارات الأمم، حيث من لا يملك طعامه لا يملك قراره.

وحول إستراتيجية "حبة" القمح التي أقضت مضاجع العالم على مدار التاريخ، يقول الأستاذ بقسم وقاية النبات بكلية الزراعة جامعة طنطا حازم ربيع، إن "هذه السلعة تحولت إلى مادة إستراتيجية، وإلى سلاح غذائي حاد بيد الدول المصدرة له، كالولايات المتحدة الأميركية، لانتزاع مواقف سياسية، أو لتحقيق مكاسب اقتصادية تفيدها في صراعها التاريخي مع الأمم الأخرى بهدف السيطرة ومد النفوذ".

القمح في الثقافة الشعبية

امتلأت الكلاسيكيات الشعبية بميراث ضخم عن الخبز، وفي كتاب للدكتور سميح شعلان العميد السابق للمعهد العالي للفنون الشعبية بعنوان "الخبز في المأثورات الشعبية" يقول "سُمي الخُبز عَيشا لأن الحياة من دونه لا تستقيم، وصار العزيز على القلب هو من نتناول معه "عيش وملح"، ومن تقطعت به السُبل وفَقَد رزقه، قد "انقطع عيشه"، ومن نُذكّره بقيمة علاقتنا به، نؤكد له أننا أكلنا معه خبزا وملحا، وكأنه ميثاق حياة".

عاشت حبة القمح في ذاكرة الشعوب، فصارت أمثولة تاريخية وأمثلة شعبية، وتزخر الأمثال الشعبية المصرية بالكثير عن الخبز أو العيش، ومنها "اللي ياكل رغيف السلطان يحارب بسيفه"، و"الجعان يحلم بسوق العيش"، و"العيش الحاف يربي الكتاف"، و"إدي العيش لخبازه ولو ياكل نصفه"، و"رجع قفاه يقمّر عيش"، و"وشه يقطع الخميرة من البيت"، و"ده ما بيضحك للرغيف السخن"، وغيرها كثير مما يدل على تأثير الخبز في حياة شعوب المنطقة.

إعلان

وتحول الخبز من خلال التفاعل معه كغذاء إلى قيمة ذات أبعاد متعددة "اجتماعية ومعنوية وحتى روحية"، وهو ما يتضح في العديد من العبارات والجمل والأمثال الشعبية ووصف السعي والكدح بالجري وراء "لقمة العيش"، ووصف الروابط الاجتماعية بين الناس بأن بينهم "عيش وملح".

وقيل في حبة القمح نثرا وشعرا، فقد قال الشاعر محمود درويش في قصيدة "أحن إلى خبز أمي"، ويقول أيضا "أنا الأرض، يا أيّها الذاهبون إلى حبة القمح في مهدها احرثوا جسدي، أيّها الذاهبون إلى جبل النار مرّوا على جسدي".

الخبز تحول من خلال التفاعل معه كغذاء إلى قيمة ذات أبعاد متعددة اجتماعية ومعنوية وحتى روحية (بيكسلز)

الحرب والخبز

ورغم كل الحروب، فإن زراعة القمح تشهد تزايداً في جميع أنحاء العالم، ففي العام 2020 وصلت كمية القمح التي تمت زراعتها إلى 760 مليون طن، وهذا ما يجعل القمح ثاني أكثر الحبوب زراعة بعد الذرة. وتعد كل من روسيا والولايات المتحدة وكندا وفرنسا وأوكرانيا أكبر مصدري القمح عالميا. وإلى جانب استخدام القمح غذاء أساسيا للبشر يتم استخدامه في بعض المناطق علفا للحيوانات أيضا.

ورغم أن هناك خوفا شديدا من نقص الكميات المنتجة نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، فإن الواقع يختلف كثيرا، حيث يتوقع ناثان كيمب (اقتصادي في مجلس الحبوب الدولي) تسجيل رقم قياسي جديد في حصاد القمح في موسم 2021-2022 نتيجة توقع زيادة كل من المساحات المحصودة والمحصول، وتوقع أن يرتفع إجمالي إنتاج القمح -بما في ذلك القمح الصلب- بنسبة 2% مقارنة بالعام السابق ليبلغ 790 مليون طن.

المصدر : الجزيرة

إعلان