احذر أن تكون أسيرا للذكريات.. تعرف على إيجابيات وسلبيات "النوستالجيا"

عند المرور بأماكن قضيت فيها أوقاتا سعيدة في طفولتك، أو عند شمّ عطر مرتبط لديك بأوقات مضت، أو عند التعرض لأي شيء يستفز ذاكرتك، تبدأ الذكريات والمشاعر المرتبطة بها تنهمر عليك، فتشعر بالحنين لهذه اللحظات وتنتابك المشاعر ذاتها كأن اللحظة تعاد من جديد.
وهذا الحنين إلى الماضي أو ما يسمى بـ"النوستالجيا" والمشاعر التي تغمرك مع تذكر الأوقات السابقة ليس شيئا عابرا فحسب، بل له تأثير إيجابي وفعال في تحسين صحتنا النفسية.
ويتعلق الحنين إلى الماضي عادة بالذكريات المهمة، مثل الذكرى السنوية لحدث مهم، وأعياد الميلاد، واللحظات المميزة في حياتنا منذ الطفولة التي تشاركناها مع أفراد الأسرة والأصدقاء، وشعرنا خلالها بالدفء والرضا والحنان والفرح، ومع استذكارها قد تنتابك الآن المشاعر نفسها، وتشعر بدفء في قلبك ينتشر أثره في جميع أنحاء جسمك، وقد تدرك أنك تبتسم الآن مع تذكر هذه اللحظات.
ويساعد هذا الاتصال بالماضي على الشعور بالأمان والاتصال مع أحبائنا، وذلك يعزز ثقتنا لمقاومة التحديات الحالية، ويساعد في تخفيف المشاعر السلبية. فكيف يمكن أن تساعدك رحلة قصيرة بقطار الذكريات في تحسين صحتك النفسية، وما الآثار السلبية للحنين إلى الماضي التي عليك الحذر منها؟

الشعور بالأصالة
خلصت دراسة حديثة نُشرت في مجلة "علم النفس الاجتماعي التجريبي" (Journal of Experimental Social Psychology) العلمية إلى أن رحلة قصيرة في ذكرياتنا يمكن أن تزيد شعورنا بالأصالة والألفة، وذلك يعزز الرفاه النفسي، وعرفت الدراسة الأصالة بأنها شعور المرء بالاتساق مع ذاته الحقيقية.
ووجد فريق البحث هذا التأثير الإيجابي عبر ثقافات مختلفة في البلاد التي تضمنتها الدراسة، ومنها الولايات المتحدة الأميركية والصين والمملكة المتحدة، وبلغ عدد المشاركين أكثر من 2400 مشارك، تراوح أعمارهم بين 18 و78 عاما.
وتحسن الأصالة الناتجة عن الحنين إلى الماضي من صحتنا النفسية، إذ تؤثر إيجابيا على العلاقات الاجتماعية، ومستوى النشاط والحيوية، والكفاءة، وتزيد من التفاؤل، وتساعد على امتلاك معنى للحياة، وكل ذلك ينعكس على الحالة النفسية.
تقوية الروابط الاجتماعية
وفقًا لدراسة نُشرت في "المكتبة الوطنية للطب" (National Library of Medicine) في الولايات المتحدة، فإن الحنين إلى الماضي هو عاطفة توثق علاقتنا بالآخرين، وتعزز الترابط الاجتماعي.
ويساعدك استدعاء الذكريات وأنت برفقة أهلك وأصدقائك، ومشاهدة مقاطع الفيديو لطفولتك وصورك القديمة على الشعور بأنك أقرب وأكثر اتصالا مع من يشاركونك هذه اللحظات، ويقوي ارتباطك بهم.
تحسين المزاج
وفقًا لدراسة نُشرت في مجلة "الوعي والإدراك" (Consciousness and Cognition) يساعد الحنين إلى الماضي في تحسين المزاج وتعزيز المشاعر الإيجابية، فإذا كنت مغمورا بالمشاعر السلبية يمكن لاستدعاء الذكريات السعيدة أن يساعدك في تهدئة نفسك وتخفيف حدة هذه المشاعر مؤقتا.
وأوضحت المعالجة النفسية الأميركية ديانا وودهاوس لموقع "إيفري داي هيلث" (Everyday health) أن تأثير النوستالجيا في تعزيز المشاعر الإيجابية يمكن استغلاله لمساعدة الأشخاص الذين يعانون من صعوبة في تنظيم مشاعرهم، فيمكن لاستدعاء الذكريات السعيدة أن يحوّل المشاعر السلبية إلى مشاعر حيادية أو حتى إيجابية، وهو ما يساعدهم في تهدئة أنفسهم واستخدام آليات التأقلم الصحية.
وأشارت أبحاث إلى أن الحنين إلى الماضي زاد أثناء فترة انتشار فيروس كورونا، وساعد على تهدئة الأفراد وتحسين مزاجهم خلال أوقات العزلة، وفقا لمجلة "الأمراض العصبية والعقلية" (Journal of Nervous and Mental Disease).

مقياس للتطور الذاتي
تقول وودهاوس إن الحنين إلى الماضي يمكن أن يكون مقياسا يظهر لنا مدى تقدمنا وتطورنا الذاتي والتغيير الذي حدث لنا بمرور الوقت، فلا يحدث التغيير بين عشية وضحاها. وتضيف أن "تذكّر الماضي يساعدنا على الاستفادة من التجارب السابقة ومعرفة كيف تطورنا حتى أصبحنا ما نحن عليه الآن".
اليقظة والحنين الاستباقي
أحيانا نمر بحدث ما ونشعر بالحنين إليه بينما لا نزال خلاله، فهل سبق لك أن كنت في خضم لحظات سعيدة وراودتك أفكار أن هذه اللحظات بمشاعرها ستصبح ذكرى سعيدة وتود الاحتفاظ بها والتركيز في تفاصيلها لتبقى معك في المستقبل، فهذا ما يسمى بالحنين الاستباقي الذي يسمح لنا بالتوقف وإدراك سحر اللحظات الفريدة في حياتنا والاحتفاظ بها لتساعدنا في المستقبل.
ويساعدنا الحنين الاستباقي على البقاء يقظين هنا والآن، وحاضرين بعقولنا ومشاعرنا في الوقت الحالي والاستمتاع بالحدث، ويزيد شعورنا بالتقدير للأوقات الإيجابية ولمن يشاركونا هذه اللحظات، وللأماكن التي تشهد ذكرياتنا الفارقة.
وبينما قد يكون الحنين الاستباقي شعورا يركز على المستقبل، إلا أنه يحدث في الوقت الحالي ويربطنا بالحاضر.
احذر أن تكون أسير الماضي
على الجانب الآخر، قد يثير تذكر الماضي مشاعر الاشتياق لهذه الأوقات السعيدة والقيّمة، ويشعرك بالحزن لأن بعض هذه الذكريات مما لا يمكن تكراره أو مما شاركته مع أشخاص فقدتهم أو عشته في أماكن لا يمكنك العودة إليها.
وحذرت سوزان ديجيس وايت، أستاذة الإرشاد النفسي في جامعة إلينوي الشمالية، في مقالها بموقع "سيكولوجي توداي" (Psychology today)، من الانغماس في الذكريات والأوقات التي مضت.
ويجعل هذا الانغماس عقولنا أسيرة للماضي وعالقة في ذكرياتنا مع أشخاص فقدناهم، أو أوقات في حياتنا كانت أفضل وأكثر رفاهية، ونفكر طوال الوقت كيف كانت الأمور سابقا، ونرفض الواقع الحالي وتحدياته، وهو ما يؤثر سلبا على صحتنا العقلية والنفسية.
فيمكنك دائما أن تفتح صندوق الذكريات وتنتقي منه ما يشعرك بالحنين والدفء، وتذكّر أنك هنا الآن في الحاضر لديك القدرة على صنع لحظات سعيدة تكون ذكريات المستقبل.