بدلا من "كسر القلة".. احتفاء واسع بظاهرة الممر الشرفي بمصر

يرى خبير تعليمي أن الممرات الشرفية ليست ظاهرة لأنه "يوم أن تصبح ظاهرة، فهذا يعنى أننا بلغنا درجة متقدمة من تقدير المعلم وعطائه ومن ثم العلم".

تكريم محالين للمعاش بمعهد الشوبك ـ مصر ـ 2022).
مدرسة في بني سويف جنوب القاهرة تكرم العاملات والعمال وسط ممر شرفي أقامه التلاميذ (مواقع التواصل)

القاهرةـ مسافة تناهز نصف كيلومتر، طالما قطعتها "أبلة سعاد سلامة" سيرا على الأقدام بعد أن تنزل من سيارة أجرة، في طريقها لمدرسة ميدوم المشتركة بمحافظة بني سويف جنوب القاهرة.

هذه المسافة المرهقة ـبالنظر لطريق غير ممهد تغوص الأقدام في ترابه- خطتها نهاية الشهر الماضي ولآخر مرة "أبلة سعاد" تجاه المدرسة، لكنها للمرة الأولى بين ممر شرفي مكون من تلاميذ المدرسة، فوجئت به بينما توشك أن تغادر عملها كمديرة للمدرسة، حيث بلغت سن التقاعد.

تقول الطالبة سندس أحمد في تعليق على فيسبوك "لم أنس لأبلة سعاد ابتسامتها الرائقة في وجوهنا ونحن نصعد للفصول، كانت تصنع يوما جديدا وجميلا لنا ببساطتها ومحبتها لنا، فتشعرنا وكأننا لم نغادر أمهاتنا في البيوت".

لم تتمالك "أبلة سعاد" -هكذا يناديها تلاميذها- دموعها من كلمات الثناء والتقدير، فانخرطت في بكاء حار، حاولت إخفاءه بدفن وجهها بين كفيها أو في أحضان تلميذاتها وزميلاتها وهن يودعنها.

رغم هذا الاحتفاء التلقائي غير الرسمي، ستتلقى سعاد ربع معاشها التقاعدي المستحق، نظرا لـ "حسابات مركبة مربكة، جعلت من المعلمين فئة غير محظوظة ماديا حين عملهم وحين تقاعدهم" بحسب عاملين في التعليم.

غير أن "أبلة سعاد" -مثل باقي المعلمين الذين جرى تكريمهم عبر ممر شرفي- لم تتوان في العطاء لتلاميذها رغم ضعف الرواتب، ورغم أن احتساب المعاشات والمكافآت يتم على أساس رواتب 2014 التي لم تشملها زيادات الحد الأدنى للمرتبات، وذلك بحسب أحمد بلال معلم للمرحلة الابتدائية بإحدى مدارس القاهرة.

وفي حديثه للجزيرة نت، يوضح بلال أن المعاش هو ربع المستحق مقارنة بفئات أخرى، مضيفا أنه يمكن أن يخفف مثل هذا التكريم المعنوي عن المعلمين بعض ما عانوه بسبب قلة العوائد من مهنتهم.

واجب وفضل

"لم نقم إلا بالواجب" عبارة رددها أكثر من معلم ومسؤول وموظف، أثناء عبورهم ممرات شرفية أقامها لهم طلابهم وزملاؤهم مؤخرا.

وبرز خلال العامين الماضيين تقليد جديد لتكريم الطلاب لمعلمي المدارس وأحيانا العاملين فيها، بل وزملائهم بالكليات، وسط ظواهر مقلقة للعنف والانفلات المدرسي في المدن.

في كل الحالات التي جرى فيها هذا التقليد المبتكر، يختار التلاميذ والطلاب آخر أيام المعلم ـأو المسؤولـ في وظيفته، ليرتبوا له مفاجأة بسيطة دون تكلف ولا تكاليف، هي "الممر الشرفي" ممثلا في صفين عن يمين وشمال الداخل، وسط تصفيق وكلمات ثناء، تثير مشاعر دافئة حد انهمار دموع الامتنان المتبادل.

وتكمن رمزية هذا التقليد، بحسب متابعين، في أنه خال من النفاق والمصلحة، فهي حالة وداع دافئة، في حين اعتاد المصريون "كسر قلة" وراء المسؤول يوم رحيله.

و"كسر القلة أو الجرة" تقليد فولكلوري مصري شهير يعني وداعه مع تمني عدم عودته للمكان مرة أخرى، نتاج سوء أدائه وسلوكه مع العاملين معه خلال خدمته.

ظواهر متناقضة

حينما حل آخر يوم عمل قبيل التقاعد للمعلم محمد عيسى، مدرس مادة الأحياء بمعهد ههيا الأزهري بمحافظة الشرقية، فوجئ بالممر الشرفي حينما هب لوداع زملائه الشهر الماضي.

أكد عيسى أن هذه الظاهرة نتاج علاقة طيبة مع الطلاب، وتابع في تصريحات متلفزة "لم أقصر في تزويد طلابي بالعلم النافع البسيط، بالتوازي مع حب جارف، هو أساس العلاقة بيني وبين تلاميذي، مما انعكس على العملية التعليمية".

من الشرقية إلى الغردقة في الجنوب الشرقي، تكرر الأمر بمدرسة شدوان، حيث نظم طلابها ممرا شرفيا بطول 500 متر تكريما لمدير مدرستهم أحمد حربي، احتفالا باختياره أفضل معلم بمحافظة البحر الأحمر.

جاءت لفتة الطلاب الإيجابية بعد واقعة مناقضة تماما لظاهرة الممر الشرفي وأكثر انتشارا منها، هي العنف بين طلاب المدارس، حيث اشتبك فيها طلاب إحدى مدارس المحافظة بالأسلحة البيضاء.

أما طلاب ومعلمو معهد الشوبك الأزهري، جنوب القاهرة، فذهبوا بعيدا في التكريم، حيث قام الطلاب بمعاونة المعلمين على حمل اثنين  من زملائهم المحالين للتقاعد بين أيديهم والسير بهم في الممر الشرفي.

لم يخل الأمر هنا من طرفة ممتزجة بالمشاعر الدافئة والحميمة، فاختلطت الضحكات بالدموع في مشهد إنساني نادر الثراء.

ولم يقتصر الأمر على تقدير المعلمين بل تخطاه للعاملين، ففي معهد التربية القومية ببني سويف، نظم مجلس أمناء المدرسة الأسبوع الماضي يوما لتكريم عمال المدرسة تقديرا لجهودهم وسط ممر شرفي أقامه التلاميذ.

التعليم العالي بدوره شهد الظاهرة، حيث نظم -قبل عام- طلاب المعهد الفني الصحي بمحافظة بورسعيد شرقا ممرا شرفيا لعميد المعهد سيد العربي "الذي تعامل مع طلاب المعهد باعتبارهم طالبي علم، لا راغبي شهادات يعلقونها على الحوائط فحسب" بتعليقات عدد منهم.

في التعليم العالي أيضا، رأى طلاب كلية الصيدلة بجامعة الزقازيق أن الأحق بالتكريم عبر ممر شرفي هو زميلهم أحمد رمضان، الذي لم يترك أحدا في دفعته إلا ساعده بالنصيحة والدعم والمساندة.

مكانة العلم

في هذا السياق، يرى خبير النظم التعليمية وتنمية القيم بجامعة الزقازيق شرقا محمد رأفت أن الممرات الشرفية ليست ظاهرة، لأنه "يوم أن تصبح ظاهرة، فهذا يعنى أننا بلغنا درجة متقدمة من تقدير المعلم وعطائه ومن ثم العلم، وهذا ما يتطلع إليه الجميع".

يوضح رأفت -في حديثه للجزيرة نت- أن انتشارها يؤكد أن "قيمة العلم والتقدير لمن يبذله بإخلاص وإتقان لطلابه لا تزال لها مكانتها عند الناس" علاوة على سبب آخر دافع لانتشارها، ألا وهو قيمة وخلق الوفاء التي يفصح عنها عطاء المعلم وإخلاصه لطلابه، وهذا من أبرز الأخلاق والقيم المطلوب غرسها عن طريق التعليم في المجتمع، بحسب وصفه.

ويطالب خبير القيم بدعم هذا التقليد المحمود والعمل على نشره، لتكون واجبا يعيه كل الطلاب والأساتذة وأولياء الأمور، احتفاء بالعلم وأهله، امتثالا لتعاليم الدين.

ويستدرك رأفت بالقول إن هذا السلوك الحميد من قبل الطلاب والأساتذة، مقارنة بالظواهر السلبية المعبرة عن تراجع منظومة التعليم، يدل على أن الخير كامن في نفوس الطالب بشكل فطري، ويؤكد براءة نفوس التلاميذ، حينما يقبلون على تكريم من أكرمهم، تماما كما أن ما برز من ظواهر سلبية راجع لتراجع المنظومة التعليمية، ورد فعل طبيعي مسيء من الطلاب تجاه الإساءات التي يتلقونها ولو بمجرد إهمال تعليمهم.

وطالب الخبير ببذل المزيد من الجهد لصالح اعتدال المنظومة التعليمية من الداخل، وتعويد الطالب على كل السلوكيات التي تغرس القيم والأخلاق النبيلة التي تبني المجتمع وتقيه من أن يكون فريسة للمفسدين عموما في الداخل أو الخارج.

قيم الأقاليم

من الملاحظ أن معظم وقائع التكريم جرت في أقاليم ومناطق ريفية، وهو ما يفسره سمير سعيد مدرس مادة علم الاجتماع بإحدى المدارس الثانوية بمحافظة الغربية شمالا بأنه مستمد من تقاليد الريف التي لا تزال تحتفظ بالتقدير للكبار، وتكافئ المعروف بالمعروف.

ويؤكد سعيد أن في ظاهرة ممرات الشرف بعض التعويض لمدرس يعيش على حد الكفاف، لو لم يقم بالعمل بالدروس الخصوصية، لكنه "سيستمتع بالتأكيد بأشياء مدعاة للفخر".

وتابع -في حديثه للجزيرة نت- أن هناك لحظة نجاح متجدد للمعلم، حينما يثمر عمله في تعليم الناس، فهي صدقة جارية وعلم يُنتفع به.

ويلاحظ سعيد في مهنته التي امتدت قرابة عشرين عاما توارث التقدير من دفعة لأخرى تالية، إذ تصبح المحبة شرطا ملازما للمعلم المخلص، ويصبح شهيرا بمحبته لطلابه، وموضع تقدير بينهم. ويسهل على المعلم بهذه السمعة الموروثة ـحينهاـ التواصل مع الدفعات اللاحقة، حتى يصل للحظة تتراكم فيها السمعة الطيبة مثل جبل من التقدير، يترجمه الطلاب المعاصرون للحظة خروجه في صورة أقصى تقدير يصل إليه خيالهم، وهو ما حدث مؤخرا بفكرة الممر الشرفي.

ويلخص المتحدث السر في كل هذا التكريم بقدرة المعلم على الاحتواء والاستماع لطلابه، في وقت خلفت التطورات فجوة بين الأجيال إن لم يتداركها الحكماء من المعلمين والمديرين، فستسود ظاهرة التنمر والسخرية والاعتداء على المدرسين في المدارس.

وطالب سعيد بأن تتبنى الوزارة هذا التقليد لتعميمه، والالتفات لمثل هذه النماذج النادرة لتقديرها معنويا وأدبيا أثناء الخدمة لتعظيم الاستفادة منها في عملها لا الاكتفاء بوداع كريم لها.

المصدر : الإعلام المصري + الجزيرة + مواقع التواصل الاجتماعي