خوفا من نسيان فلسطين.. شاب يحول منزله في مخيم البقعة إلى قصة متحفية
عيسى أبو الراغب يقول إن جدار بيته الخارجي ودواخله "يحمل ألف ذكرى وألف سؤال، وهو يتنفس ويتحدث عن تاريخنا بكل واقعية الزمان، والمخيم يتسع رغم ضيقه للحياة".
مخيم البقعة الذي أنشئ في ربيع 1968، يمثل الخريطة الجغرافية لمختلف القرى والمدن الفلسطينية التي اجتمع فيها اللاجئون والنازحون باختلاف لهجاتهم وعاداتهم وأصولهم ومستوياتهم الثقافية والاجتماعية.
المخيم الذي يقع على الطريق الدولي بين عمّان وجرش ضمن محافظة البلقاء، ويبعد عن العاصمة الأردنية نحو 20 كم، يمثل حوضا ثقافيا متنوعا ممثلا للفنون والثقافة الفلسطينية في زيها، وأنماط طعامها وأغانيها وحكاياتها، وأحزانها أيضا، وهو من بين 6 مخيمات طوارئ أنشئت بعد نكسة العام 1967.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsنائبة الكونغرس رشيدة طليب تطل باللباس الفلسطيني لأداء اليمين الدستورية
أم صالح.. لبنانية تقود العمل النسوي في القدس منذ 70 عاما
بالفيديو- 72 عاما بمخيمات انتظار العودة.. فلسطينيات يروين حكايات النكبة في تطريزة
وهو بالمناسبة مخزن لعدد من المخيمات التي نقلت أثناء حرب الاستنزاف من مخيمات الأغوار، الكرامة والشونة والمثلث المصري ومعدي وغور نمرين، ويقع على مساحة 4.1 كم مربع قبل التوسع وشبكة الامتدادات التي تفرعت لعدد من القرى المجاورة في عين الباشا وأبو نصير والحنو والمضمار وصويلح وعمان.
ويبلغ عدد سكان المخيم بامتداداته وتفريعاته نحو نصف مليون نسمة. وفي 3 أجيال كان المخيم مسقط رأسهم، ولم يعرفوا مدنهم وقراهم الأصلية إلا بالصور التي تتناقلها وسائل الإعلام، وأحاديث أجدادهم، أو ممن تسنى له أن يحظى بزيارة لفلسطين المحتلة.
دفنوا ذكرياتهم
الطريف أن المخيم الذي شهد نصب أول خيمة تحول في "3 أنماط من العمارة" بين الخيام والصفيح والإسمنت، ويضم 3 مقابر، و14 مدرسة، وقسمت مناطقه أو أحياؤه بأسماء المدن المحتلة، فهناك منطقة القدس، الخليل، نابلس، الكرامة، وعندما ضاقت الأرض بما رحبت أطلق على منطقة التوسع المخيم الجديد.
ومنذ العام 1968 وحتى الآن مر الكثير من المياه على سقوف البيوت، وجرت الكثير من الأحداث والحكايات على تراب المخيم، التي راكمت في الذاكرة الأحزان والأفراح.
وعلى اتساع الذاكرة فإن الكثير من أبناء المخيم الذين ولدوا في قرى ومدن فلسطين وافاهم الأجل، ودفنوا معهم ذكرياتهم، ومع الوقت بدا أن المخيم يطور نمطا لهجيا ومنظومة قيمية تتصل بشرط المعاش الطارئ وحاجاته وضروراته، ونسي الكثير من معارف الأجداد وقيمهم، وأدى إلى ذوبان الهوية.
يشار إلى أن مخيم البقعة قدم الكثير من الأدباء والفنانين والرياضيين والأكاديميين والروائيين والنقاد والإعلاميين والنواب والوزراء والأمناء العامين، والشهداء أيضا، وهي ذاكرة أخرى جديرة بالاهتمام والدراسة، والتي صنعت تاريخًا يرتبط بطبيعة النسيج الاجتماعي والثقافي للمخيم.
الخوف من النسيان
هذه الذكريات لعيسى المولود في البقعة عام 1971 هي التي لفتت إلى توثيق ذاكرة المخيم لرمزيات الوطن السليب الذي يقول إنه "يخشى عليه النسيان"، ويتفق مع إدوارد سعيد في أن "على كل واحد من أبناء فلسطين تدوين روايته"، لاستعادة الرواية الفلسطينية من خلال التراث المادي وغير المادي.
وذلك بجمع كل الأدوات التي تتعلق بحياة الإنسان الفلسطيني في قراه ومدنه التي لا يتوقف ضياعها ومحاولات المحو والتشويه والسرقة، ممثلا بالزي الفلسطيني الذي سرقته "شركة العال كزي لمضيفاته"، وكثير من الأكلات التي يقول "إنها جزء من الثقافة الفلسطينية".
ولحرص عيسى -الذي درس العلاج الطبيعي وتعديل السلوك- على حماية الهوية وتراثها ومكوناتها والأدوات التي ترتبط بها، بدأ بجمع الأزياء وملابس الرأس وأدوات المنزل، والحراثة والزراعة والقطاف التي رافقت الإنسان الفلسطيني في حياته، وشكلت نمط حياته وملامح هويته، وأساليب تعبيره الفنية والثقافية من خلال المطرزات والأدوات الموسيقية والتكنولوجيا الشعبية، ومنها الطابون والغربال ومطحنة القهوة وغيرها.
يقول عيسى أبو الراغب "جدار بيتي الخارجي ودواخله يحمل ألف ذكرى وألف سؤال، وهو يتنفس ويتحدث عن تاريخنا بكل واقعية الزمان، والمخيم يتسع رغم ضيقه للحياة".
ويقول الكاتب الصحفي وليد حسني "إن عمل عيسى أبو الراغب لا يتعلق بجمع التراث الفلسطيني لغايات بناء متحف للفرجة فقط، وإنما لتكريس فكرة أبعد من هذه بكثير ترتكز في الأساس على مبدأ تكريس الهوية الوطنية الفلسطينية، ثقافيا وفنيا، والمحافظة عليها بعد أن أصبح التراث الوطني الفلسطيني (الشعبي) عرضة للنهب والضياع، والسرقة".
ويضيف حسني أن المشروع يبدو أوسع من مجرد حلم فردي لشخص استطاع جمع المئات من الأثواب الفلسطينية التي تمثل في مجملها كامل خطوط التطريز الفلسطيني من أقصى الشمال الفلسطيني إلى أقصاه جنوبا، مؤكدا القيمة الوطنية والفنية للباس الشعبي الفلسطيني باعتباره أحد أكثر التمايزات في الثقافة الوطنية الفلسطينية، ومن هنا تبدأ فكرة أبو الراغب من معادلة الامتداد الثقافي الحضاري من التطريز الكنعاني، وانتهاء بالتطريز الحديث.
مرض الغربة
يقول أبو الراغب إن الكثير من الأجيال "أصيبت بمرض الغربة"، وابتعدوا عن صورتهم، أو لم يعودوا يعرفون شيئا عن قراهم ولهجتهم وأزيائهم، وتاهوا في التعبير عن هويتهم، و"هذا محزن".
والشيء الذي زاد المشكلة أن الشتات والتوزع في البلدان العربية والمدن وضرورات العمل "ذوبت الهوية"، فالفلسطيني في العراق يتحدث اللهجة العراقية، وفي سوريا وفي لبنان نسوا اللهجة التي تعبر عن الهوية.
كل شيء يعبر عن الهوية
ويزيد كل شيء يعبر عن الهوية الطعام والأزياء والأدوات والأغنية والحكايات وطقوس الفرح من أعراس ووسائل التعبير عنها، ومواسم الحصاد واللقاط تشكل وسيلة التعبير عن الهوية، وهذه تعرضت بسبب الحداثة واللجوء وحياة الشتات إلى التلاشي والإهمال.
من هنا بدأت الفكرة، من النسيان الذي يعادل الغياب عن المكان، وجمع الأدوات هو استعادة للذاكرة وتنشيطها وإبرازها.
ويقول بدأت الفكرة منذ 15 عاما، بمجهود شخصي، لإيماني بـ"أحقية القطعة قبل الرغيف" انطلاقا من إحساس ومسؤولية وطنية أن "يكون في كل مكان وكل جدار وحائط وكتاب نقرؤه، شيء يرتبط بالهوية الحقيقية الفلسطينية".
كلما حاولت جمع ما كتبت عن المخيم وتوثيقه على ورق وجمعه في كتاب شعرت أن الحكاية اكبر من اي كتاب قد يكون وان كل حكاية تنجب…
Posted by عيسى أبو الراغب on Sunday, 14 March 2021
آلاف القطع التراثية
جمعت مئات وآلاف القطع التي تتصل بالزي والأدوات -يقول أبو الراغب- وجمعت نحو 1800 ثوب لمختلف القرى من شمال فلسطين إلى جنوبه، ومنها أثواب يصل عمرها إلى 100 عام، ولباس رأس المرأة (الشاشة) بعضها عمره 40 عاما، وبعض العقل باختلاف نسيجها وأشكالها والحطات (الغترة) باختلاف ألوانها وقماشها، وكثير من الأدوات، منها الغرابيل والأواني.
ومنها أيضا صحن يصل عمره إلى 120 عاما ورثته سيدة عن والدها الذي ورثه عن والده، وبواطي (أوعية طعام كبيرة جدا) ومعالق من المعدن والخشب، ووسائد وقرطع مطرزة، وصواني القش، الجاروشة والمهباش، والمنسوجات والحرامات، لحافات وفرشات الصوف والبراويز، والأباريق والطناجر، دلال القهوة والمهابيش، والبوابير، والفوانيس، والصوبات والكوانين، والموازين، ومدقات الأبواب، وبعض اللوحات التي تصور اللجوء وحياة المخيم والشخصيات.
ويقول إن نحو 90% من المقتنيات تم شراؤها، والباقي إهداءات من أصدقاء تحمسوا للفكرة، وإن كان "ثمنها السوقي يبلغ عشرات الآلاف بالدينار الأردني،" فإنها "لا تقدر بثمن"، لافتا إلى أن بعض الأثواب تقدر بالآلاف.
قصة متحفية
هذا الهاجس الذي يسيطر على عيسى أبو الراغب حول بيته إلى متحف دائم لمئات المقتنيات التي رتبها على جدران غرف البيت، والساحة الداخلية والجدار الخارجي للبيت، يقول إن "بيتي مفتوح للجميع، وهو بيت الفلسطيني والعربي والإنسان لمعرفة الحضارة الفلسطينية".
وينوي أبو الراغب تحويل الطابق الثالث من البيت بمساحة 72 مترا مربعا إلى 3 أجنحة للمعروضات، منها اللوحات والصور الفوتوغرافية التي تؤرخ للشتات، والكتب التي تتناول القضية الفلسطينية وتاريخ فلسطين، وبعض الأدوات التي تروي القصة الفلسطينية وتشهد على اللجوء وحياة الشتات.
ويقول الصحفي حسني للجزيرة نت إن المخيم أصل الحكاية، وهو يدون تاريخ المخيم وشخصياته وتحولاته الاجتماعية، ضمن أوراق "ذاكرة وطن"، كوسيلة توثيقية لحياة الشتات والمنفى، ويضيف أن تاريخ المخيم لم يكتب، باستثناء بعض الكتب الإحصائية التي لا تسبر غور المكان وتأثيره على الإنسان، مشيرا إلى أن "المكان هو المعنى".
ويشير حسني إلى أن عمل أبو الراغب يعني وبالضرورة امتداد رحلة الكتابة بالإبرة إلى تكريس الأبجدية الفلسطينية منذ الكنعانيين الأوائل وامتداداتها الفنية وتجلياتها الثقافية والروحية في عقل وبدن الفلسطيني. وهو ما يحمله عادة الثوب الفلسطيني من دلالات وقيم ثقافية ودينية وحضارية قادمة من عمق التاريخ.
وإذا كان لكل أمة هويتها فإن الثوب الفلسطيني في تنوع رسوماته يمثل أعلى منسوب التنوع الثقافي والحضاري الفلسطيني، وهذا ما يريد أبو الراغب تكريسه كحقيقة ثابتة لا تقبل القسمة أبدا على اثنين.
استعادة تقاليد العرس
لا يتوقف عيسى أبو الراغب عند تجسيد الهوية في المقتنيات التي جمعها قطعة قطعة، بل يعيش طقوس التراث في المناسبات الاجتماعية التي تذكر الناس بتقاليدهم الأصيلة التي ارتبطت بالأرض، وحول زفاف ابنه البكر، وكذلك ابنته عند زواجهما إلى مهرجان للعرس الفلسطيني بكل تفاصيله.
بدءا من الأزياء التي ارتدى فيها العروسان والمدعوان الثوب الفلسطيني، والقمباز والروزا والحطة والعقال، وتوزيع الحلوى في صرر، وحتى الزفة جوار الجدار الذي حمل صورا من القدس وغزة، والطعام الذي تنوع بين الكشك والمفتول وخبز الشراك والطابون، ومشاركة الفرق التراثية، استعاد كل تقاليد العرس القديم… الأغاني والحلويات واللباس، وشاركت فيه فرق فلسطينية تقدم الأغاني التراثية والدبكات المنوعة بين الطيارة وحبل مودع.
وعن طموحه، يقول "أتمنى إنشاء متحف يحتوي التراث المادي وغير المادي، على شكل قصة متحفية تؤرخ للقضية الفلسطينية من خلال شواهد الأدوات، والأفلام والصور والمدونات، والوثائق، ضمن أجنحة وخط سير وديكور وإضاءة تلخص تاريخ فلسطين، والنكبة، والشتات".
وما زال في الكون فسحة وما زال للان على الجدار اتساع سنكمل واجهة الحكاية … عيسى ابو الراغب
Posted by عيسى أبو الراغب on Thursday, 25 February 2021
فلسطين مصغرة
لم يتوقف نشاط عيسى أبو الراغب عند عرض المقتنيات في البيت الذي تبلغ مساحته نحو 300 متر مربع، بل حمل المتحف إلى تونس والمغرب والجزائر، ووثق محتوياته من خلال التلفزيون الأردني، وقناة اليرموك الفضائية، وفضائية رؤيا، وعرض جزءا من المقتنيات في الزرقاء والرصيفة والمدارس والجامعات والمركز الثقافي الملكي بعمان.
يقول إن المتحف يمثل الذاكرة، وهو يخاف ذوبان الهوية في داخلنا، ونسيان الجيل الجديد للمنبت الحقيقي لهم. لقد كان مدعاة لهذا المتحف، وأن "أحول بيتي لفلسطين مصغرة".