رمضان زمان في نابلس.. من "السوق نازل" إلى "التوحيشة" بالفيديو- هكذا تحيي نابلس الشهر الفضيل
"السوق نازل" تقليد تراثي ينفرد النابلسيون بإحيائه، وهو بمنزلة مكافأة للأطفال بالسماح لهم بالخروج بعد المغرب لتشجيعهم على الصيام.
كأنها عروس تستعدّ ليوم زفافها، هي نابلس هذه الأيام، فالعشر الأواخر من شهر رمضان توصف بأنها الأجمل في المدينة المحافظة على تقاليد وعادات عمرها عشرات السنين، تحييها تزامنا مع هذه الأيام في "السوق نازل" و"التوحيشة".
وحالت جائحة كورونا العام الماضي دون إحياء هذه التقاليد وتنظيم الفعاليات الملائمة لها لا سيما "السوق نازل"، ولكنها حضرت هذا العام وإن بدرجة أقل ومتفرقة.
هناك عند باب الساحة في شارع النصر وسط نابلس القديمة أو في أي من حاراتها السبع العتيقة توقد في هذه الليالي جذوة الحكاية، ويجتمع الناس صغارا وكبارا يرقبون بعين المشتاق شعائر وفعاليات قضوا عمرا يعيشونها.
وللسوق نازل حكاية يعرفها النابلسيون صغارا وكبارا، وإذا ما ذكرت أمامهم فاضت أعينهم مستذكرين طفولتهم ولحظات جميلة عاشوها، فالسوق هي المكان والنازل هو كل زائر للسوق من صغير وكبير "ومقمط بالسرير" (الرضيع).
حكواتي مدينة نابلس
يروي طاهر باكير حكواتي مدينة نابلس قصة "السوق نازل" للجزيرة نت، ويقول إن السوق تقليد تراثي ينفرد النابلسيون بإحيائه ويبدأ عند الأطفال الذي كانوا يهابون الخروج في "العتمة" (الظلمة) حيث لا كهرباء بالمكان.
وعند دخول رمضان يكسر الصبية خوفهم ويستأنسون بالمارّة بعد الإفطار وأداء صلاة التراويح، فيخرجون إلى السوق نازل جماعات ذكورا وإناثا "قبل سن البلوغ" في الحارات والأزقة.
وتقودهم الفتاة الأكبر الموصوفة "بالطويلة والعاقلة"، وقد حملوا بأيديهم مصابيح صنعوها بأيديهم من البطيخ أو القرع بعد إماطة اللب عن القشر، أو بإناء فارغ يعرف بـ"الكيلة" وضعوا الشمع بداخلها.
وتنشد لهم أغنية "السوق نازل" وهم يرددون خلفها "ونزلت ع السوق نازل، لاقيتلي (وجدت) تفاحة، حمرا حمرا لفاحة، حلفت ما باكلها لا يجي (حتى يأتي) خيِّي وبيِّي، واجا خيِّي وبيِّي وأطلعني (أصعدني) ع العلية، والقيت شاب نايم غزيته غزيته واشربت من زيته وزيته تمر حنا معلق باب الجنة".
"يا بنياتي يا بنياتي"
ومن ثم تنشد الصبيّة بلهجتها النابلسية "يا بنياتي يا بنياتي"، فيرد الأطفال "نعم يما نعم يما"، "لأجوزكن (سأزوجكن) لأجوزكن"، "لمن يما لمن يما"، "للحلواني للحلواني" وهو بائع الحلوى الذي يعطيهم من حلواه، فيأخذها الأطفال ويرددون "ما نريدوا ما نريدوا" وكذلك مع باعة القضامة و"النقارش" (المسلّيات) والفاكهاني وغيرهم.
فيتجمع الأطفال ويتقاطرون أمام بائع للحلوى أو المسلّيات والنقارش (المكسرات)، ينشدون له فيغرف لهم غرفة بحجم كف يده ويعطيهم مما لذّ وطاب، ومن بائع إلى آخر يجمعون أغراضهم في "تحويجة" وهي كيس من قماش الكتان، ليأكلوها لاحقا.
هؤلاء الأطفال لا يكتفون بما جمعوا بل يذهبون للشراء من مصروفهم الخاص حلوى أخرى كغزل البنات.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsرمضان زمان “مال لول” في قطر.. تجهيز بيت الله لاستقبال المصلين ونثر القواقع البحرية بيضاء اللون في ساحات المسجد
رمضان زمان في المغرب.. سبع حراير وكحل ليلة 27 وحناء طقوس الشهر الفضيل
رمضان زمان في لبنان.. مسحراتي وأسواق ولمة العائلة.. أجداد يتذكرون الأيام والجيران ويتحسرون
يقول باكير "السوق نازل بمنزلة مكافأة للأطفال بالسماح لهم بالخروج بعد المغرب لتشجيعهم على الصيام".
زي تقليدي وطربوش
وإلى الآن لا يختلف المشهد كثيرا، فالأطفال يخرجون مع ذويهم إلى أزقة البلدة القديمة وحاراتها يتبضعون ويستمعون لفرق الإنشاد الديني والعراضة الشامية والطرب الشعبي والحكواتي.
يحافظ طاهر باكير على هذا التقليد ويرفض تحت أي ظرف التخلي عنه حتى في ظل جائحة كورونا، فالعام الماضي سرد حكاياته من فوق أسطح المنازل وكان الناس يستمعون إليه من النوافذ.
ويقول باكير الذي استعدّ جيدا وارتدى زيّه التقليدي والطربوش لإحياء "ليلة حكواتية" فوق سطح مقهى شعبي، إن "نكهة" السوق نازل تكون بحضور البلدة القديمة وبالحكواتي الذي في قصصه العبرة والحكمة للكبار والاستمتاع للصغار "فالأسرة بكاملها تأتي اليوم لتسمع وتشاهد".
"السوق نازل"
اللافت أن أجواء "السوق نازل" لا تقتصر على أهالي المدينة، فالقرويون يأتون كي يعيشوا الأجواء ويتسوقوا في الوقت نفسه.
يُعلّق الشاب صالح أبو عزيز القادم من ريف نابلس بالقول إنه عاش آخر تقاليد السوق نازل قبل 3 سنوات، إذ عجّت المدينة بفرق الإنشاد الديني والمدائح النبوية والحكواتي والمهرجين.
ويضيف أن تنظيم الفعاليات بصورة موسعة ممنوع الآن بسبب جائحة كورونا.
في المقابل يقول المواطن النابلسي قصي عيران إن "السوق نازل" هذا العام رغم الإغلاق حضرت بقوة أكثر من السنة الماضية وبأنشطة مختلفة ومتنوعة.
ويعزو ذلك إلى "الضغط الكبير" الذي يعيشه الناس والأطفال خصوصا بفعل الإغلاقات المتكررة لمناطق ترفيههم من المتنزهات والحدائق العامة.
"التوحيشة" النابلسية
ومثل "السوق نازل" ترطب نابلس ألسنة أهلها قبيل أذان الفجر من كل يوم في العشر الأواخر أيضا "بالتوحيشة" وهي موشحات دينية تقال تذكيرا بما تبقى من الشهر الفضيل وتوديعا بحزن وأسى على أيامه الجميلة.
ويردد الموشحون وهم أشخاص يتناوبون على أداء التوحيشة عبر شبكة الأذان الموحد بعد ترانيم وصلوات على النبي محمد عليه الصلاة والسلام:
"لا أوحش الله منك يا رمضانا.. يا معدن الخيرات والإحسانا
أسفا على أيامه ولياليه.. كانت ليالي الذكر والقرآنا
يا هل ترى هل نعود فنلتقي.. في مثل هذا الشهر يا إخوانا".
هذه التوحيشة تأسر قلوب كثيرين وعقولهم في نابلس، وإلى سماعها يتسابقون، ومنهم الشابة لبابة ذوقان التي سارعت إلى توثيق "أول توحيشة" عبر الفيديو بهاتفها النقال من ثم لتنشرها على صفحتها بمواقع التواصل.
تقول لبابة -للجزيرة نت- إن للتوحيش رونقا خاصا بنابلس كما لرمضان جو خاص أيضا "ولطالما أيقظنا والدنا من النوم لنسمع التوحيش من أوله قبيل السحور، وكذلك نفعل اليوم مع أطفالنا أنا وإخوتي والأصدقاء".
تقليد تنفرد به نابلس
والتوحيش تقليد نابلسي أصيل عمره عشرات السنين تنفرد به المدينة دون غيرها، وهو يسبق موعد أذان الفجر بساعة، ويكون عبر مكبرات الصوت في المساجد، ولهذا جاءت شبكة الأذان الموحد لنابلس لتدعم التوحيش وتزيده حضورا، وفق الشيخ حسام أبو صالح مؤذن وموشح مسجد الحاج نمر بنابلس.
ويقول للجزيرة نت إنهم ورثوا التوحيش عن أسلافهم كعادة جميلة الغرض منها "التسبيح والتذكير واغتنام الأيام الأخيرة من رمضان".
وليس عبثا أن تحيي نابلس أو "عتبة الشام" -كما تسمى- مثل هذه العادات، فهي واحدة من أقدم مدن العالم وأم لديانات ثلاث (الإسلام والمسيحية والسامرية)، جديرة أن تحافظ على هذه التقاليد.