بالفيديو- أشجار "دير بلوط".. اقتلاع بالجملة واجتثاث إسرائيلي للأرض وأصحابها
لم تكن "أم أمير" في وعيها حين انفضت من حول الرجال، وسارعت إلى رفع شجرة زيتون ضخمة أُسقطت أرضا، وأعادتها إلى هيئتها السابقة، وتبين لنا الذي حلَّ بها وبأخواتها بعد اعتداء "همجي وعنصري" نفذه جنود الاحتلال الإسرائيلي، الذين دمروا الشجر والحجر وكل حي في أرض ختام إسماعيل (أم أمير) وآخرين من أهالي قريتها.
وقبل أيام فقط، خيَّم الحزن على أم أمير (49 عاما) وأهالي دير بلوط (قرب مدينة سلفيت شمال الضفة الغربية) حين ارتكب الجنود المدججون بالسلاح "مجزرة" هي "الأعنف" وأعدموا أكثر من 3400 من الزيتون وأشجار أخرى في أرضهم "خلة العبهر"، وسحقوا بجرَّافاتهم حجارتها وسووها بالأرض تنفيذا لأمر عسكري تسلمه الأهالي في أغسطس/آب الماضي.
صعقت أم أمير عندما تناهى إلى سمعها أن الجنود اقتحموا الأرض واقتلعوا الشجر، فلم تكمل حصتها في مدرسة القرية التي تُعلِّم بها منذ ربع قرن، وانطلقت مسرعة إلى هناك؛ فتخطت أول حاجز للجيش، لكنها لم تتمكن من اختراق الحاجز الثاني؛ فالجنود كانوا "عنيفين" ويقمعون كل من يقترب.
ذرائع واهية
ولنحو 6 ساعات ظلت 7 جرافات إسرائيلية تجتث كل ما فوق سطح الأرض على مرأى من أصحابها الذين تسمروا في مكانهم حزنا وخوفا، لكن أم أمير حاولت اقتحام حواجز الجنود، صارخة بصوتها المبحوح، مكبرة وداعية الله أن يزيل "الاحتلال وظلمه"، والناس يُؤمّنون من ورائها.
تتذرع سلطات الاحتلال بأن الأرض عسكرية وقريبة من الجدار العازل، وتقع بمناطق "سي" (ج) الخاضعة لسيطرتها الأمنية، كما تعتبرها "أرض بور"، ولم تزرع مدة من الزمن، وهو قانون عثماني تستغله إسرائيل لتهويد الأراضي الفلسطينية، وهو ما ينفيه المواطنون ويقولون إن لديهم أوراقا ثبوتية تؤكد زراعتهم وملكيتهم لها "أبا عن جد".
وعلى امتداد أرضها المقدرة بـ35 دونما (الدونم يساوي ألف متر مربع) من أصل 200 دونم استهدفت بالاعتداء الأخير كانت أم أمير تزرع 750 شجرة من الزيتون والتين واللوزيات، وكلها أصبحت أثرا بعد عين، واختفت معها معالم الأرض.
وطفنا مع أم أمير بأرضها لنرى عن قرب مأساتها وحكايتها مع كل شجرة، فهي تعرفها كما تعرف أبناءها، وتعتني بها منذ 15 عاما قضتها بين استصلاح للأرض وزراعة تكلَّفت أكثر من 60 ألف دولار أميركي، مع سنين من عمرها وجسد لا تزال تشكو أوجاعه.
تدمير وسرقة
وأخذت أم أمير تُقلِّب التراب والحجارة لتعثر على جذر شجرة فتغرسه ثانية، لكنها كانت تحاول عبثا؛ فالاحتلال لم يكتف بالقلع والتدمير، بل "سرق حتى الجذوع ونقلها عبر شاحناته العسكرية"، وتضيف -والزَّبدُ يحاصر شفتيها من شدة التعب والحزن- "قلعوا الأشجار من جذورها ثم قطعوها ورشوا جذورها بمواد سامة لقتلها نهائيا".
وكان "الإعدام جماعيا" -حسب وصف أم أمير- ليس للأشجار فحسب، بل لحلمها الذي بدأت تتذوق حلاوته قبل عامين فقط، حين قطفت زيتونها وراحت تخطط لتحسين مستوى معيشتها وتعليم أولادها والبناء لهم، واستبشرت خيرا بعطاء الأرض، فدعت زوجها لترك العمل داخل الخط الأخضر والالتفات لأرضه.
وليست تلك المرة الأولى التي يمارس فيها الاحتلال صلفه ويدمر الأرض في دير بلوط، لكنها "الأعنف والأكبر"، وتأتي تحت حجج واهية يسوقها الاحتلال، والحقيقة هي اجتثاث الناس من المكان برمته، وتوسيع مناطق سيطرته ونفوذه.
ويقول أمير (نجل ختام الأكبر) للجزيرة نت إنه لم يشهد "حقدا" على الأرض وزيتونها مثل ذلك، حتى أنه ومن هول المنظر أغلق صفحته في فيسبوك لتجنب رؤية مشاهد الدمار ثانية، ويضيف "كدنا نفقد والدي الذي أغمي عليه ونقل للمشفى من شدة المصيبة".
إعادة التشجير
ومنذ أكثر من 10 أعوام لم يتلق أهالي دير بلوط أي إخطار بعدم العمل في أرض "خلة العبهر" ومحيطها، وهو ما شجعهم على زراعتها بالزيتون وأشجار أخرى، وليس القمح والشعير، حيث كانت تزرع به لزمن طويل.
ومثل أم أمير، واجه ناجي دار موسى وشقيقه غانم عملية اقتلاع طالت المئات من أشجارهم، وتلقوا فوق ذلك إخطارا بهدم غرفة زراعية يدعي الاحتلال أنها غير قانونية، في حين يقول ناجي (56 عاما) للجزيرة نت مستغربا إنهم يضربون جذورهم في الأرض منذ الأجداد، وإن 5 حقب (الأتراك والإنجليز والأردن وإسرائيل والسلطة الفلسطينية) مرت عليهم وهم يعملون بها.
ولا يذكر الشقيقان إذا كانت هذه المرة السابعة أو الثامنة التي تُقلع فيها أشجارهم، ويقول ناجي -وهو متعب من العمل- إنهم يعيدون زراعتها ثانية "كما نفعل الآن" غير آبهين بالاحتلال وإجراءاته التعسفية.
قلع 800 شجرة
أما مؤمن نصفت وعائلته فربما كانوا أوفر حظا بعدما اكتفت قوات الاحتلال بقلع 800 من أشجارهم المزروعة قبل 10 سنوات، ولم تفعل ذلك مع أشجار لا تبعد سوى أمتار فقط، كونها زُرعت قبل احتلال الضفة الغربية عام 1967.
ويقول مؤمن -وهو يشير بيده إلى أرض صادرها الاحتلال لجده عام 1948 تزيد على 400 دونم- هذا الزيتون غير مستهدف "على الأقل حاليا"، لكن الخطر يظل يحدق به، فإسرائيل تريد تهجيرهم من المكان برمته.
فقدت دير بلوط أكثر من ثلثي أراضيها البالغة 36 ألف دونم عبر احتلال إسرائيل لها منذ عام 1948، وبإقامة 3 مستوطنات عليها، وتشييد الجدار الفاصل عام 2004، ليتبقى لها 11 ألف دونم، يصنف الاحتلال معظمها بأنها مناطق "سي" (ج)، ويخضعها لسيطرته الأمنية.
استباق للحكم
وهذه التصنيفات يرفضها يحيى عودة رئيس المجلس البلدي، خاصة أن أكثر من 400 من منازل القرية "تقع ضمن مناطق (سي)"، وتخطر إسرائيل بعضها بالهدم وأخرى بوقف البناء، ويقول -وهو يصطحبنا إلى "مكان المجزرة"- إنهم كجهة مسؤولة يدعمون البناء في مناطق "سي" بأكثر من 70% من الخدمات لتعزيز صمود المواطنين وتثبيتهم فيها، "فهم أصحابها الحقيقيون".
ويستهجن عودة إجراء الاحتلال بقلع هذه الأشجار رغم "عدم صدور أي قرار من المحكمة الإسرائيلية بذلك"، ويقول للجزيرة نت إنهم اعترضوا عبر مؤسسات حقوقية وقانونية للمحكمة الإسرائيلية بعد تلقيهم إخطارات في أغسطس/آب الماضي، ولم يتلقوا أي رد حتى الآن.
صامدون على الأرض
تعد سلفيت المدينة الوحيدة التي تزيد فيها عدد المستوطنات (25 مستوطنة سكنية وصناعية) على تجمعات الفلسطينيين البالغة 18 قرية وبلدة.
وعلى الفور باشرت أم أمير والمواطنون زراعة الأرض مجددا، وعلى الملأ أخبرت جنود الاحتلال بذلك، ورددت قصيدتها الشعبية "والله وصامد على الأرض لما بعطش تروينا.. وقهر المحتل عن دربي ما يثنيني.. وعن الأوطان ما تخلى ولو أتزحزح حتى لو سال دمي من شراييني".