شاهد.. فلسطيني ثمانيني وقصة صمود في أرض تسرق يوميا
يضرب بقدم فوق أخرى بخطى الواثق، ويسير ملكا نحو أرضه في "كرم الخلة" غير آبه بكبر سنّه أو بعثرات الطريق التي حفظ الحاج الفلسطيني فريد بدران (أبو نواف) معالمها غيبا وهو يروح منها كل مساء ويغدو إليها كل صباح حاملا شتلة صغيرة وبضعة بذور حالفها الحظ بأن وقعت بيده وستزرع في أرضه.
على هذا الحال قضى المزارع الثمانيني أبو نواف جلّ عمره في عمارة أرضه وزيارتها يوميا مشيا على قدميه مصطحبا ما خفّ وزنه من عدته الزراعية، وعصا صنعها من شجره يسند إليها جسده النحيل وتعينه على قضاء حاجته وقتل كل زاحف يشكل خطرا عليه.
صورة عبر الفيسبوك
وصدفة تلك التي عرفنا بها العم أبا نواف، فالمشهد الذي يعيشه يوميا أحدث أثرا لدى أحد المواطنين في قريته دير الغصون قرب مدينة طولكرم شمالي الضفة الغربية، فنشر صورة له عبر الفيسبوك وعلَّق بالقول إنه مشهد يومي يعيشه أبو نواف طوال عمره دون كلل أو ملل.
وحظيت صورة أبي نواف باهتمام المواطنين الذين علّقوا عليها عبر الفيس بوك معبرين عن إعجابهم وتقديرهم.
أعلّم ملة آبائي لأبنائي وأحفادي
تتبّعنا حكاية أبي نواف وسرنا معه إلى أرضه على الطريق ذاته؛ نحمل عدّة التصوير في حين تأبط هو شيئا من أدواته الزراعية وشتلة لوز صغيرة تحت ذراعه، ثم راح يروي -للجزيرة نت- قائلا "اتبعت ملة آبائي خطوة بخطوة في رعايتها، واليوم أعلّم ذلك لأبنائي وأحفادي".
وهذا التعليم للأطفال الصغار لا يقتصر على التعريف بالأرض بمكانها ومكانتها، بل بتقليم الأشجار وزراعة أخرى جديدة خاصة اللوزيات "المجدية اقتصاديا"، وتنظيفها من الأعشاب الضارة طوال الموسم.
من غرس يده
ويخبر الجدُّ أحفاده الذين تراكضوا من حوله بموضع عدّته الزراعية التي لم يقو على حملها فأخفاها تحت زيتونة "رومانية" (نسبة لحقبة حكم الرومان) حماية لها من أي عابث، ليحضروها له ويُباشر بدوره بإنهاء مهمته في أرضه "كرم الخلة" قبل أن ينتقل إلى أخرى، فهو يمتلك 4 قطع ويحفظ اسمها ورسمها؛ "كرم الخلة، وبدورة، والخلة، والحريقة" ويُقسِّم أيامه بالعمل فيها.
ولها نصيب من اسمها دير الغصون (نسبة لدير مسيحي تدلّت فوقه غصون الزيتون)؛ فالقرية التي يسكنها نحو 10 آلاف نسمة توصف بأنها زراعية، ويعمل نحو 40% من سكانها في زراعة الزيتون والخضار.
وما إن يطأ أبو نواف أرضه حتى يرمقها بنظرات عامة ليعرف أين سيبدأ عمله وكيف، فحينما التقيناه في "كرم الخلة" كان يبحث عن أشجار اللوز القديمة اليابسة ليزرع الشتلات الجديدة مكانها، ويجدد بذلك حيوية الأرض ويبقيها مزهوة بلونها الأخضر.
هرم الغرسة الحجري
وهناك أخذ يمسك غرسته ويدسّها في الأرض ثم يلفّها بحجارة صغيرة بشكل هرمي ليحميها من اعتداء أي إنسان أو حيوان، وليستدل على مكانها بين الأشجار الكثيفة، فيواصل رعايتها وسقايتها.
وجدنا أبا نواف بجسده النحيل الذي يخفي عزيمة جبَّارة وقد باشر عمله بتقليم شجرة نخيل ليميط أذاها عن الأرض، ثم اتكأ على جدار حجري وراح يقول إنه يعمل بيده ويشتل (يستنبت البذور) أشجارها بنفسه، ثم يزرعها بأرضه ويسقيها من ماء بئره الذي بناه جده ورمَّمه هو قبل 50 عاما.
ويبقى على وصل أرضه فلا يطول بعده عن أي منها ولا سيما هذه الأيام حيث تكثر الحشائش، ولا يحبسه عن زيارتها إلا المطر، فهو يصلي الفجر حاضرا ثم ينطلق إلى الأرض ولا يعود منها إلا بعد العصر، فصارت أرضه مميزة بين نظيراتها.
ويغدو أبو نواف خماصا إلى أرضه ويروح منها بطانا بفضل النباتات البرية التي يتناولها خاصة هذه الأوقات كالشومر و"الخبيزة" و"الزعمطوط"، ومما يزرعه بيده من الفول والزعتر فضلا عن حبات لوز نضجت وتساقطت بين الحشائش، بعضها يأكله والآخر يدّخره للزراعة.
سرّ المشي إلى الأرض
فقدت دير الغصون 18 ألف دونم (الدونم يساوي ألف متر مربع) من أراضيها المقدرة بـ36 ألف دونم بعد النكبة الفلسطينية عام 1948 ليتبقى للمواطنين 18 ألف دونم.
ثم أعاد الاحتلال الإسرائيلي عزل أكثر من ألفي دونم بتشييده الجدار الفاصل عام 2002، وأحدث فيه بوابات لدخول المزارعين إلى أراضيهم عبر آلية قهر وإذلال أهم صفاتها تحديد الوقت والأشخاص المسموح لهم بالعبور وأعدادهم.
ولا يريد أبو نواف تجرَّع الحسرة بفقد أرضه مرة أخرى كما حاله في قرى بثان وبئر السكة داخل الخط الأخضر عام 1948، ولهذا تجده بكامل نشاطه وحيويته وهو يتنقل من أرض إلى أخرى ويسابق الزمن إلى زراعتها قبل نزول المطر.
والمشي إلى الأرض هدف بحد ذاته عند أبي نواف، فهو رياضة يُخفِّف بها آلامه الصحية وتبقيه بكامل حيويته، ولذلك تجده بعكس مزارعين آخرين يرفض امتطاء أي دابة، كما يرفض أي دعوات من المركبات المارة لإيصاله إلى منزله؛ حتى إنه أهدى حماره الذي كان يستخدمه للحراثة إلى أحد أصدقائه.
قالوا عنه
وهذا ما جعله محط أنظار أهالي قريته دير الغصون واهتمامهم ومَثَلهم في الحفاظ على الأرض، وهنا كتب أكثم بدران وهو الذي التقط صورة لأبي نواف وهو في طريقه إلى أرضه عبر صفحته على الفيس بوك "لم أكتب عن شخص أبي نواف وإنما عن مدرسته وأسلوبه في عشق الأرض وديمومة الموارد، وعلّمني تخضير فلسطين وكيف تزرع الغراس وأن ملايين الشتلات التي ماتت بمهدها لم تمر بمدرسته".
عشّاق الأرض وحرّاسها
وبعضهم كالمواطن عامر غانم كتب يقول إن هناك أيقونتين في دير الغصون، أبو نواف وأم زهير وهي فلاحة تقارب أبي نواف بالسن وتزور أرضها يوميا "عشّاق الأرض وحرّاسها".
ويقول عاهد زنابيط مدير الإغاثة الزراعية في طولكرم -للجزيرة نت- إن أبا نواف مثال "مقدس" على تجذير قيم الانتماء للأرض والهوية الفلسطينية، ويضيف أن "أبا نواف يعكس معنى تنمية الأرض والصمود فيها، وهو محل احترام وتقدير الجميع"، ويتابع أنه سبق لهم أن كرّموه ومزارعين آخرين على مجهودهم.
ولا يفكر زنابيط مرتين في دعم أي احتياج لأبي نواف وأمثاله خاصة بتقديم الشتلات والبذور، وقد قدموا العام الماضي إغاثة زراعية 600 ألف شتلة منوعة دعما للمزارعين، في رسالة للعودة إلى الأرض والثبات فيها.
ونحن نغادر المكان تبعنا خطى أبي نواف، لم تزلّ قدمنا فوصلنا إلى الطريق العام بأمان، وهناك وقفت إحدى المركبات لتقلّنا رحمة بالرجل العجوز فأخبرنا السائق أن هذا ديدنه منذ 7 عقود وترجَّل من سيارته وأخذ صورة مع أبي نواف وتمتم قائلا "هؤلاء أصبحوا عملة نادرة".