آخر صانع قوارب في غزة يجاهد للحفاظ على إرثه
عبد الرؤوف زقوت-غزة
غارق بالعمل يقص الأخشاب بحرفية عالية لتأخذ أشكال وزوايا محددة، في حين تهب نسمة عليلة من البحر تعيد للستيني عبد الله النجار هدوءه وتركيزه، وتفتح المجال لفيض من الذكريات التي يكتنزها آخر صانع قوارب في قطاع غزة.
أربعون عاما من العمل، ظهرت جليا في دقة وحرفية النجار وهو يقص جذوع الأشجار الطويلة، ليحيلها شيئا فشيئا مركبا قويا يصارع الأمواج، لكن المُحزن بالنسبة له أنه بقي وحيدا في هذه المهنة التي شارفت على الاندثار في قطاع غزة، بسبب نقص المعدات وارتفاع أسعار الأخشاب وقلة الطلب.
مهنة متوارثة
منذ صغره لم يضيع النجار فرصة لمرافقة والده لكسب الخبرة والمهارة في صناعة القوارب الصغيرة الخاصة بالصيد، يوم أن كانت الصناعة مزدهرة، وكل ما يحتاجونه متوفر، والصيد وفير، والصيادون في أحسن حال اقتصادي.
انتقل النجار للعمل مع عمه بعد أن أتقن فنون الحرفة، وبدأ يشعر بمردود جهده حينما تقاضى أول راتب له، ورغم أنه كان زهيدا لكنه غمره بالسعادة وقتها، وبدأ في عمر الـ15 يراعي احتياجات العائلة ويساعد في مصروفات المنزل.
من يومها إلى الآن بقي متشبثا في الصناعة التي يصفها بأنها تدخل البهجة إلى قلبه، وتشعره بالسعادة، رغم أنه يفتقد إلى الكثير من زملائه الصيادين والحرفيين، الذين ابتعدوا عن البحر والميناء، بسبب صعوبة العمل ومردوده الضعيف وخطورته كذلك.
يعوض فقدُ النجار تكاتف أولاده من حوله وعزمهم على مساعدته وأخذ الحرفة من يد متقنها، فوجد بهم السند والقوة للاستمرار فيما يحب، ووجدوا هم متنفسا لهم هربا من شبح البطالة الذي يطارد جميع الشباب في غزة.
حصار وفقر
وعن أسباب رحيل زملائه يقول النجار "كانت مهنة صناعة القوارب مزدهرة لأن غزة كانت غنية بالأسماك والمطاعم والسياح، لكن منذ بداية الحصار الإسرائيلي لم يعد أحد قادرا على دفع ثمن مركب جديد، وانتشر الفقر في أوساط الصيادين وصُناع القوارب".
استمر الحرفيون بالانسحاب شيئا فشيئا لعدم توفر المعدات اللازمة للعمل بسبب منع الاحتلال الإسرائيلي من إدخالها، وأهمها مادة "الفايبر غلاس"، إضافة لارتفاع أسعار الأخشاب اللازمة لصناعة القوارب، الأمر الذي لا يستطيع أي صياد تحمله في الوقت الحالي.
ليس ذلك فحسب فالصيادون في قطاع غزة يتعرضون بشكل يومي إلى انتهاكات إسرائيلية في البحر، تتمثل بالاعتقال وإطلاق النار ومنع الصيد ومصادرة المراكب، إضافة إلى تحديد مساحات محددة في البحر للعمل فيها، مما جعل مهنتهم مغموسة بالدم منذ بداية الحصار.
الجدير بالذكر أن القوات الإسرائيلية قتلت 13 صيادا فلسطينيا في قطاع غزة، واحتجزت 30 قاربا تتنكر لوجودها، بعدما أفرجت عن 60 قاربا معطوبا، بحسب نقابة الصيادين.
وفرضت "إسرائيل" حصارا مشددا على قطاع غزة منذ عام 2007، منعت خلاله دخول العديد من المواد الأساسية والأدوات والاحتياجات الخاصة بالصناعات المختلة، وتخلل تلك الأعوام ثلاث حروب قاسية أعوام 2008 و2012 و2014، أدت إلى تدهور الحالة الإنسانية والاقتصادية في القطاع بشكل كبير.
تجديد القوارب
ويستخدم النجار أخشاب "شجر الكينا" في صناعة المراكب، وتمتاز تلك الأخشاب بالجودة العالية مع ارتفاع ثمنها، ويصل طول قارب الصيد إلى 20 مترا، ويحتاج إلى أسابيع من العمل الجاد والدقيق، ليخرج في النهاية بجودة عالية وقوة تسمح له بالعمل سنوات طويلة في البحر.
ارتفاع أسعار القوارب مقارنة بدخل الصيادين الضعيف أدى إلى العزوف عن شرائها، والاضطرار إلى إصلاح القوارب القديمة، أو استبدالها بأخرى مستخدمة في أسوأ الأحوال، وهو ما يعتبرونه أقل تكلفة من اقتناء قارب جديد قد تصل تكلفته إلى أكثر من 12 ألف دولار أو أكثر.
شكوى وآمال
ويشكو آخر صانع قوارب في القطاع من عدم دعم المؤسسات المعنية لحرفته، وعدم وجود مشاريع تدعمه للحفاظ على ما يقوم به، مطالبا أيضا بفتح المجال لتعليم الجديد مهنة صناعة وصيانة القوارب، كون البحر من أهم أسباب الرزق الذي يجب استثمارها في غزة.
رغم كل ما سبق لا يزال النجار ممسكا بمنشاره الكهربائي وعازما على العمل حتى الرمق الأخير، ومحاولا في الوقت ذاته نقل خبرته وتجربته إلى أبنائه من بعده، حتى تبقى هذه الصناعة حية، آملا أن تعود الحياة إلى قطاع غزة من جديد، لتتحسن أوضاع الناس والعمال على حد سواء.