بؤس "الاختيار" بين العسكر والإسلاميين في مصر

البوستر الرسمي لمسلسل الاختيار

لم أستطع إكمال مشاهدة عدة حلقات من مسلسل "الاختيار" الذي تبثّه إحدى القنوات الفضائية المصرية، وذلك نظراً لرتابتها وفجاجة الرسائل التي ينطوي عليها هذا المسلسل، الذي سبقت عرضَه حملةٌ دعائية كبيرة من أجل حثّ الجمهور على مشاهدته خلال شهر رمضان.

لست متخصصاً في الدراما التلفزيونية أو في غيرها من الأعمال الفنية كي أتناولها بالكتابة والتعليق. ولست مهموما بالحُكم على مدى نجاعة هذا العمل فنياً، ولكن ما يهمني هنا هو تناول الجوانب والرسائل السياسية التي يحملها المسلسل وهي عديدة، لعل أهمها وأخطرها تعميق وتكريس الانقسام السياسي في مصر.

وهي رسالة تبدأ من عنوان المسلسل ذاته، الذي يسعى -بمَكر وخُبْث- إلى تكريس حدّية الثنائية السياسية في مصر ما بين عسكر وإسلاميين. وهي الثنائية التي سمحت للنظام الحالي -ولا تزال- بالبقاء في السلطة منذ انقلاب 3 يوليو/تموز 2013.

كما أنها تضرب أية محاولة للخروج من بؤس هذه الثنائية، سواء برفع القبضة الأمنية عن المجال العام وإعادة الحياة السياسية، أو بالدخول في مصالحة يمكنها وضع حد للشرخ السياسي والمجتمعي المتزايد منذ الانقلاب على ثورة 25 يناير. كما أن "المسلسل" يعكس منطق اللعبة الصفرية التي تمارسها وتجيدها كافة الأنظمة السلطوية، والتي تقوم على مبدأ: إما نحنّ وإما همّ.

يحاول المسلسل "أسْطَرَةَ" العسكر، وترسيخ صورتهم الذهنية لدى العوام، وذلك من خلال استعراض "أسطوري" لشخصية ضابط الصاعقة المقدم أركان حرب أحمد صابر منسي، الذي لقي مصرعه في إحدى هجمات تنظيم "ولاية سيناء" عام 2017.

وذلك في مقابل زميله ضابط الصاعقة السابق هشام عشماوي المتورط في قضايا عنف وإرهاب بعد تقاعده من الخدمة العسكرية في عام 2011، والذي تم إعدامه في 4 مارس/آذار 2020، على ذمة قضايا عديدة أبرزها قضية "هجوم الفرافرة" الذي وقع في يوليو/تموز 2013، وراح ضحيته عشرات القتلى والمصابين من ضباط وجنود الجيش.

يحاول المسلسل "أسْطَرَةَ" العسكر، وترسيخ صورتهم الذهنية لدى العوام، وذلك من خلال استعراض "أسطوري" لشخصية ضابط الصاعقة المقدم أركان حرب أحمد صابر منسي، الذي لقي مصرعه في إحدى هجمات تنظيم "ولاية سيناء" عام 2017. وذلك في مقابل زميله ضابط الصاعقة السابق هشام عشماوي المتورط في قضايا عنف وإرهاب بعد تقاعده من الخدمة العسكرية في عام 2011، والذي تم إعدامه في 4 مارس/آذار 2020، على ذمة قضايا عديدة أبرزها قضية "هجوم الفرافرة"

ليس الهدف من المسلسل منحصرا في تشويه المحسوبين على التيار الإسلامي -وخاصة جماعة الإخوان المسلمين الخصم اللدود للنظام الحالي- من خلال الخلط المتعمد بينه وبين الانتماء الفكري والإيديولوجي لعشماوي المحسوب على تيار السلفية الجهادية، التي ترفض نهج الإخوان القائم على الانخراط السلمي؛ فذاك التشويه أمر بديهي، كما أنه ليس جديداً على الدراما المصرية التي تمارس ترويج نفس السردية منذ أوائل التسعينيات، ولكن دون جدوى.

إن الهدف الأساسي للمسلسل -في رأينا- هو محاولته إعادة الاحترام والهيبة لصورة المؤسسة العسكرية، خاصة فيما يتعلق بـ"حربها على الإرهاب"، وحملتها المتواصلة ضد المتطرفين في سيناء منذ عام 2013. وهي الحملة التي لا يبدو أنها تؤتي ثمارَها، خاصة في ظل الهجمات المتكررة التي يشنها أتباع تنظيم "ولاية سيناء" والمتعاطفون والمتعاونون معه على مواقع الشرطة والجيش هناك، ولا سيما في مدن رفح والعريش والشيخ زويد ومؤخراً في بئر العبد، وكانت آخر هذه الهجمات -ويا للمفارقة- قبل أيام مع بدء عرض المسلسل.

يبدو أن صنّاع المسلسل في أجهزة الدولة ومؤسساتها قد وجدوا ضالتهم في الضابط أحمد منسي الذي كان قائداً للكتيبة 103 صاعقة، التي تساهم في العمليات العسكرية ضد المتشددين في سيناء، وذلك من أجل تحسين صورتها. فالمقدم منسي كان قائداً للكتيبة المذكورة حين تعرضت لواحدة من أكثر الهجمات التي شنّها تنظيم "ولاية سيناء" دموية، حيث قُتل خلالها ما يقارب 22 من أعضاء الكتيبة وأصيب نفس العدد تقريباً، وذلك في 7 يوليو/تموز 2017، في المنطقة المعروفة بـ"مربع البرث" جنوب مدينة رفح.

كما يأتي المسلسل أيضا في وقت تتهم فيه منظمات دولية عاملة في مجال حقوق الإنسان النظامَ الحالي بارتكاب جرائم -قد تصل إلى حد جرائم الحرب- ضد أهالي سيناء. فمثلا؛ يشير تقرير أصدرته منظمة هيومان رايتس ووتش في مايو/أيار 2019 إلى تورط عناصر من الجيش والشرطة المصرية في جرائم تشمل الاعتقالات الجماعية التعسفية، والإخفاء القسري، والتعذيب، والقتل خارج نطاق القضاء، وهجمات جوية وبرية قد تكون غير قانونية ضد المدنيين.

كما تبدو "أسطرة" الضابط منسي مهمة من أجل تحسين صورة النظام الحالي وقياداته العسكرية، خاصة بعد فضائح الفساد التي كشفها الممثل والمتعاقد محمد علي قبل شهور، والتي دفعت الجنرال عبد الفتاح السيسي للرد عليه مباشرة.

كذلك تبدو محاولات "أسطرة" منسي واضحة سواء من خلال الجهات التي تقف وراءه، وأنفقت أموالاً باهظة على إنتاج وإخراج مسلسل "الاختيار"، الذي تفيد تقارير إخبارية بأنه تم تحت رعاية وإشراف جهاز المخابرات العامة، وذلك عبر ذراعه الفنية والسينمائية المتمثل في شركة "سينرجي للإنتاج الفني" التابعة لمجموعة "إعلام المصريين"، التي استحوذت عليها شركة "إيغل كابيتال للاستثمارات المالية"، وهي صندوق استثمار مباشر مملوك لجهاز المخابرات، ويشرف عليها المنتج تامر مرسي الذي احتكر معظم الأعمال الدرامية الكبرى في مصر خلال السنوات القليلة الماضية.

أو من خلال الحملة الدعائية الضخمة المصاحبة لعرض المسلسل، والتي وصلت إلى حد تخصيص مواقع إلكترونية صفحات كاملة لتغطية أحداثه، ومن بينها قيام أحد المواقع بعمل "استوديو تحليلي" خاص له، على غرار ما يحدث مع مباريات كرة القدم.

الاحتفاء بضباط وجنود الجيش والشرطة -الذين يدفعون أرواحهم ثمناً لتحقيق الأمن- لا يكون من خلال عمل درامي مصطنَع ومبالَغ فيه، أو بإطلاق اسمه على مدرسة أو كوبري أو شارع، ولكن بمحاسبة المسؤولين عن مقتله ومقتل بقية زملائه، فضلاً عن ضمان عدم تكرار المأساة مع غيرهم من الضباط والجنود، وهو ما لم ولن يحدث

إن
ما سبق لا يقلل قطعاً مما قد يكون المقدم منسي فعله أثناء تصدّيه للهجوم على كتيبته، أو عن علاقته بجنوده التي يصوّرها المسلسل على أنها كانت علاقة استثنائية نتيجة لحسن معاملته لهم (وكأن الأصل في هذه العلاقة هو العكس!!). كما أنه لا يقلل أيضا من تضحيات ضباط وجنود آخرين لقوا حتفهم بسبب الإرهاب سواء في سيناء وخارجها.

نقول هذا رغم عدم توافر معلومات موثوقة وذات مصداقية عن ملابسات ذلك اليوم، أو غيره من الأيام التي تقع فيها أحداث مشابهة، سوى ما يُروى ويُروّج عبر الأذرع الإعلامية للنظام التي تفتقد الحد الأدنى من المهنية والمصداقية.

كما أن الاحتفاء بالمقدم منسي وغيره من ضباط وجنود الجيش والشرطة -الذين يدفعون أرواحهم ثمناً لتحقيق الأمن- لا يكون من خلال عمل درامي مصطنَع ومبالَغ فيه، أو بإطلاق اسمه على مدرسة أو كوبري أو شارع، ولكن بمحاسبة المسؤولين عن مقتله ومقتل بقية زملائه، فضلاً عن ضمان عدم تكرار المأساة مع غيرهم من الضباط والجنود، وهو ما لم ولن يحدث.

عندما قامت ثورة 25 يناير 2011 كان من بين أهدافها إنهاء ثنائية "العسكر والإسلاميين"، وذلك من خلال الدعوة لإقامة نظام ديمقراطي مفتوح، يحترم الحريات، ويصون الحقوق، ويحقق العدالة الاجتماعية. بيد أنه منذ فشل الثورة وانتكاسها في صيف 2013؛ سقطت مصر مجدداً في فخ استقطاب وانقسام سياسي عميق. ولا يُعدّ مسلسل "الاختيار" -مهما قيل فيه وعنه- سوى حلقة جديدة من حلقات ترسيخ وتعميق هذ الانقسام، الذي يبدو ضرورياً ومهماً لبقاء النظام على قيد الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.