عن ضرورة المراجعات الموجعة

مخاوف من تحول أميركا بؤرة لكورونا وترامب يقلل من المخاطر

من حوار شيّق للمفكّر الأميركي الكبير ناعوم شومسكي: "كل من يحلم بالعودة إلى الوضع الطبيعي الذي كان سائدا قبل جائحة كورونا مخطئ، أساسا لأن ذلك الوضع لم يكن طبيعيا في شيء".

ما أظهرته الجائحة هو حجم هشاشة ذلك الوضع "الطبيعي" الذي يحلم البعض بالعودة إليه حال اكتشاف الدواء الناجع واللقاح الواقي. ولا يعني هذا -كما يتصور البعض الآخر- أنه ما إن تنتهي الجائحة حتى ننتقل فجأة لعالم لا علاقة له بالذي كنا نعيش فيه قبل كورونا.

المؤكد أن خطورة الأزمة ستجبرنا جميعا على إعادة نظر جذرية في كل الأسس التي بُنِي عليها العالم المعاصر، وأن الأمر سيؤدي -طال الزمن أو قصر- إلى تغيير جذري في طرق تفكيرنا وعيشنا، والأمر بدأ وإن لم يتفطن له كثيرون.

هذه الجائحة مثل الزلزال الذي يجبر المهندسين على ابتكار بنايات قادرة في المستقبل على مقاومة زلازل قد تكون أقوى وأشد فتكا؛ ضرورةً بعْد فهْم نقاط الضعف في البنايات القديمة. وبنفس الكيفية؛ ثمة مراجعات موجعة سنضطر لها كأفراد وشعوب ودوَل، لتبيُّن كل نقاط الضعف فيما بنَيناه من منظومات فكرية ومادية وسياسات، واستعمال ما علّمتنا إياه التجربة الرهيبة لبناء أفضل.

خذ أول منظومة خضّها زلزال كورونا وهي النظام الصحي؛ فأن ينهار نظام صحي في بلدان فقيرة أمام جائحة بمثل هذه الخطورة أمر غير مستغرب، لكن أن تعطي كبرى الدول الغربية -مثل أميركا وبريطانيا وإيطاليا- الصورة الكارثية التي رأيناها لها وهي تنقل المساعدات الطبية من الطائرات العسكرية الصينية، فهذا أمر سيضطر كلَّ هذه الدول إلى مراجعات أكثر من موجعة بخصوص إعادة تأهيل أنظمتها الصحية.

في الحقيقة لم أستغرب انهيار النظام الصحي الأميركي الذي حاول باراك أوباما إصلاحه، ثم جاء دونالد ترامب ليفسد كل إصلاحات الرجل. لم أستغرب أيضا خلخلة النظام الصحي البريطاني وهو يدفع -ويجعل المرضى الأبرياء يدفعون- ثمن ليبرالية فقدت كل الضوابط الأخلاقية.

أذكر أنه كان لي في بداية الثمانينيات -في إطار وظيفتي كأستاذ للطب الوقائي بكلية الطب في سوسة- درسٌ لطلبة السنة الخامسة عن الأنظمة الصحية في العالم، اعتمادا على المقارنة بين النظام الصحي في بلد شيوعي مثل الاتحاد السوفياتي وبلد رأسمالي مثل أميركا نموذجا، وبين بلدان مثل السويد وبريطانيا تأخذ أحسن أفكار الرأسمالية والاشتراكية.

هذه الجائحة مثل الزلزال الذي يجبر المهندسين على ابتكار بنايات قادرة في المستقبل على مقاومة زلازل قد تكون أقوى وأشد فتكا؛ ضرورةً بعْد فهْم نقاط الضعف في البنايات القديمة. وبنفس الكيفية؛ ثمة مراجعات موجعة سنضطر لها كأفراد وشعوب ودوَل، لتبيُّن كل نقاط الضعف فيما بنَيناه من منظومات فكرية ومادية وسياسات، واستعمال ما علّمتنا إياه التجربة الرهيبة لبناء أفضل

كنت أبيّن للطلبة -انطلاقا من حجم التمويل بالنسبة للإنتاج الوطني الخام، والنتائج على صعيد الصحة العمومية- أن أسوأ نظام صحي هو الأميركي. كانت تكلفته باهظة ومردوديته ضعيفة على مستوى مقاومة الأمراض وتخفيض نسب الموت، سواء لدى الرضّع أو الشيوخ. كل ذلك لأنه لم يكن مبنيا لمصلحة المرضى وإنما لمصلحة ليبرالية متطرفة تعتبر الصحة سلعة، ككل السلع تباع وتشترى، والهاجس بالنسبة للمستشفيات أو شركات التأمين هو الربح فوق كل اعتبار.

كنت دوما أظهر للطلبة -انطلاقا من الأرقام المتوفرة من الدراسات العلمية- أن أفضل نظام صحي هو النظام البريطاني، لأنه يمزج بين حرية المرضى والعدالة والتخطيط، ولأنه مموّل من قِبَل الدولة عبر الضرائب. كان ذلك قبل أن تأتي مارغريت تاتشر للحكم وتمزق -في أواخر الثمانينيات- النظام الصحي البريطاني، والكلمات المفتاحية عندها هي الخَوصصة والمستشفى كمؤسسة اقتصادية لا تنفق على المرضى إلا ما تربحه منهم.

المؤكد أن الليبرالية التي كانت تحت القصف المدفعي لكبار الاقتصاديين في العالم -أمثال توماس بيكتي- ستخرج من الأزمة في وضع أكثر ضعفا، ليس نتيجة لأداء الأنظمة الصحية التي تدين بها فحسب، وإنما لتَبيُّن مدى سرعة عطب الماكينة الاقتصادية العالمية التي شكلتها، خاصة بعد اتفاقيات الرئيس الأميركي ريغان ورئيسة حكومة بريطانيا تاتشر أواخر الثمانينيات.

ما أن داهمتنا الجائحة حتى تهاوى الإنتاج نتيجة توقف التواصل بين المصانع الموزّعة في أنحاء العالم حسب رُخْص اليد العاملة هنا وهناك، مما أدى فجأة إلى تسونامي البطالة ووراءها شبح عودة المجاعات في البلدان الأكثر هشاشة. إنها أزمنة صعبة تنتظر عبَدة الليبرالية.

لقد غضّت الشعوب والنخب الطرف عن عيوبها ونواقصها وهي تدمّر الطبيعة، حيث اعتبرتها هي أيضا مجالا للإثراء من بين كل المجالات. لكنها قد لا تغفر لها مسؤوليتها في الأزمة الاقتصادية الحالية، وما قد يتبعها -بعد انتهاء الجائحة- من أزمات لن تسكت عليها لا الشعوب، ولا حتى أكثر الدول خضوعا للشركات العالمية الكبرى.

الوطنية والقومية؟ أظهرت الجائحة تقادم المفهوم بصفة تكاد تكون كاريكاتورية، فهذا الفيروس يلقننا أبلغ درس ألا وهو أن البشرية واحدة والعالم واحد؛ فأيُّ معنى اليوم لمفهوم مثل استقلالية القرار الوطني وأنت في عالم مترابط متشابك متلاحم، كل وطن فيه بمثابة خلية من نسيج مشترك، تحيا بما يُحييه وتمرض بما يصيبه وتموت بما يميته؟

أيّ معنى للحدود اليوم في عالم فيه -نتيجة شَرَه صينيين للحم الخفافيش- يتساقط آلاف الإيطاليين والإسبان والفرنسيين قتلى، ويخرج لمظاهرات الجوع لبنانيون، وتكثر عمليات السطو على شاحنات السميد في تونس، ويدخل قسمَ العناية المركزة رئيسُ حكومة بريطانيا، ويصبح رئيس أول قوة عسكرية في العالم مصدر سخرية الجميع، لاقتراحاته "العبقرية" حول كيفية علاج المرض؟

ماذا عن الديمقراطية؟ كانت قبل الجائحة في وضع صعب بين مطرقة الشعبوية وسندان الفساد، الذي نخر كل دعاماتها من صحافة وأحزاب وانتخابات. وها هي تخرج بعد الجائحة أكثر إنهاكا من أي وقت مضى، والاستبداديون القدامى والجدد يفركون أيديهم، يقارنون بين الأداء الهزيل للديمقراطيات الغربية وأداء النظام الصيني، فيقدمونه كالنظام السياسي الأمثل للمستقبل.

لا جدوى أن تذكّرهم بأن كوريا الجنوبية الديمقراطية هي من قدمت أحسن أداء ضد الوباء. وتبقى الأنظار اليوم مشدودة للصين والنظام الذي ربما يرى فيه العرب تحقيق واحد من أقدم وأعمق وأخطر أوهامهم: نظام المستبد العادل.

خذ الآن حقوق الإنسان؛ ثمة بالطبع الإشكالية الضخمة الناتجة عن التهديد المتفاقم للحريات الفردية والجماعية، بما أصبحت التكنولوجيا توفره من إمكانيات المراقبة والتتبع، وقد مثّلت الجائحة فرصة ذهبية لتجريبها على نطاق غير مسبوق. لقد وضعتنا الجائحة أيضا كحقوقيين أمام تحدٍّ لم يكن مطروحا أبدا.

نعلم اليوم أن جلّ من يقتلهم فيروس كورونا هم كبار السن من المصابين بأمراض مزمنة؛ فهل نُضَحي -للحفاظ على حياة شريحة صغيرة نسبيا من الناس لبضع سنوات إضافية من عمرهم المنتهي بطبيعته- بحقوق مئات الملايين في العمل والغذاء عبر إيقاف العجلة الاقتصادية والحجر الصحي؟

كانت الديمقراطية قبل الجائحة في وضع صعب بين مطرقة الشعبوية وسندان الفساد، الذي نخر كل دعاماتها من صحافة وأحزاب وانتخابات. وها هي تخرج بعد الجائحة أكثر إنهاكا من أي وقت مضى، والاستبداديون القدامى والجدد يفركون أيديهم، يقارنون بين الأداء الهزيل للديمقراطيات الغربية وأداء النظام الصيني، فيقدمونه كالنظام السياسي الأمثل للمستقبل

كيف نتجاوب كحقوقيين مع خبر السباق بين أصحاب الثروات الطائلة لشراء جزر صغيرة في المحيط الأطلسي أو الهادي، للتحصن فيها هم وعائلاتهم وحراسهم، بانتظار أن تنتهي الجائحة، لا يهمهم هل ستقضي على جزء من البشرية أم على الناس أجمعين؟ هل الحق في الملكية -كما ورد في الفصل السابع عشر من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان- إطلاقي شامل لا يمكن المسّ به تحت أيّ ذريعة، كما هو الحال بالنسبة للفصل الخامس الذي يحرّم التعذيب والمس بالحرمة الجسدية؟ أم إنه حق نسبي له حدود معيّنة؟

أليس من حق الدولة -في مثل هذه الظروف- تعليق هذا الحق لأصحاب الثروات المجحفة حتى تموّل -بما كدسوه ويفوق حاجياتهم- مشاريع إنقاذ مئات الملايين من الجوعى، وهم أيضا ينتمون لفصيلة الإنسان ولهم حق الحياة إن طال أمد الجائحة؟ ماذا لو كان الإعلان العالمي نفسه بحاجة لمراجعة ليس على مستوى هذا الفصل فحسب، وإنما على مستوى فصول أخرى، تنقيحا وإضافة؟

**

القضية ليست أن نكفُر بكل ما عبدناه من نظريات، ولا أن نلطم صدورنا بحثا عن تكفير لجريِنا وراء أوهام كلفت شعوبنا الكثير. الطرح السليم هو أننا نفكر دوما بمعطيات عصرنا، بمفاهيمه ولغته وصوره، وأننا في كل مرحلة من مراحل تطور المجتمع ومشاكله اجتهدنا كلٌّ من موقعه لإيجاد حلول. نجحت بعض هذه الحلول، وهي التي سمحت للمجتمعات بالتطور ولو نسبيا؛ وهناك حلول اتضحت حدودها ويتطلب الوضع تحسينها؛ ومنها حلول أثبتت التجارب فسادها أو تقادمها، وحُقّ علينا البحث لها عن بدائل.

هذا بالضبط ما نحن مطالبون اليوم به، والجائحة تفضح كل الشروخ القديمة التي كانت موجودة في أقدس المقدسات الفكرية لهذا الجزء أو ذاك من مجتمعاتنا، أي الوطنية (والقومية كشكل أوسع للوطنية) والتقدمية والديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان والإسلام السياسي.
ومثل هذه المراجعة ستكون مكلفة وموجعة أشد الوجع؛ إذ ستَلقَى بالضرورة صدّا واسعا من حرّاس المعابد التي ضربها زلزال كورونا في الصميم.

في شبابي ألّفتُ كتابا نقديا -شديد اللهجة كما يقولون- عنوانه "في سجن العقل" (وهو متوفر على موقعي) لِوصف عقلية قوم قال فيهم غاليلي إنهم "يفضلون تكذيب حقائق تراها أعينهم في السماء على تكذيب ما يقرؤونه من أخطاء في كتب أرسطو". ثم تعلمتُ بالتجربة أن أفهم -بل وحتى أن أتفهّم- موقف العقائديين، لأنهم في الواقع يؤدون وظيفة لا بدّ منها.

إن أشدّ ما تخافه المجتمعات هو الفوضى، ولذلك من أهم مطالبها الاستقرار؛ ومن ثَمّ فهي بحاجة لفرامل المحافظين. لكن أشد ما يُضعف المجتمعات هو الجمود، ولذلك من أهم مطالبها التطور؛ ومن ثم فهي بحاجة دوما للإصلاحيين والثوريين. وفي النهاية؛ لا المحافظون قادرون على التخلص من الإصلاحيين والثوريين، ولا بِوسع هؤلاء التخلص من أولئك، والعقل الجماعي بحاجة إلى كليهما لإيجاد التوازن الضروري بين السكون والحركة.

معنى هذا أنه يجب عدم تضييع الوقت والجهد في مناقشة من اضطلعوا -بوَعي أو لا شعوريا- بالمحافظة أطول وقت ممكن على المفاهيم والممارسات القديمة. الزمان كفيل بهم، فمآل أحسنهم البحث عن حلول وسطى، ومآل أسوئهم التعفن وسط بناء يتداعى يوما بعد يوم، إلى أن يسقط على هياكلهم العظمية. نموذجا قومية الخمسينيات التي تحافظ للعروبة على رؤية تجاوزها الزمن، وتُدافع إلى اليوم عن ممارسات مستبدين ارتكبوا في حق هذه الأمة المنكوبة من الجرائم ما لم يتجاسر لا الاستعمار ولا الصهيونية على ارتكابها.

ويبقى أن يقوم الجزء الحراكي من العقل الجماعي بوظيفته والحال على ما هو عليه من خطورة استثنائية. يجب أن نخلق لنا إذن -على وجه السرعة- منظومة فكرية قِيَمية تكون البوصلة، مثلما يجب أن نخلق الأدوات السياسية الفعّالة لترجمة الأفكار والقيَم إلى أفعال تنقذ الأفراد والشعوب والجنس البشري.

لا توجد -إلى حدّ الآن- ولا حتى بداية معالم لهذه المنظومة. مَن يستطيع اليوم القول إن له رؤية واضحة لما بعد الليبرالية وما بعد الوطنية وما بعد الديمقراطية وما بعد الإسلام السياسي وما بعد التقدمية وما بعد حقوق الإنسان؟

لا توجد -إلى حدّ الآن- ولا حتى بداية معالم لهذه المنظومة. مَن يستطيع اليوم القول إن له رؤية واضحة لما بعد الليبرالية وما بعد الوطنية وما بعد الديمقراطية وما بعد الإسلام السياسي وما بعد التقدمية وما بعد حقوق الإنسان؟ الشيء الثابت الوحيد هو أنه علينا التفكير من خارج الصندوق في صراع مع جهلنا، مع التعقيد الهائل للمشاكل ومع الجزء المحافظ من العقل الجماعي

الشيء الثابت الوحيد هو أنه علينا التفكير من خارج الصندوق في صراع مع جهلنا، مع التعقيد الهائل للمشاكل ومع الجزء المحافظ من العقل الجماعي. لا خيار غير إعلان "النفير الفكري"، وتجميع كل طاقاتنا لبلورة مثل هذه الرؤية.

كيف؟ انظر كيف تصرف الباحثون العلميون في هذه الأزمة؛ إذ لم يحتفظ الصينيون باكتشافاتهم بخصوص التركيبة الجينية للفيروس، بل سارعوا لوضعها تحت تصرف كل الباحثين في العالم أجمع، وكذلك فعل زملاؤهم من كل البلدان. ثمة اليوم تجربة أخرى تتواصل في هذه اللحظة؛ إنها مبادرة إحدى الجامعات الأميركية لجمع أكبر عدد من الحواسيب في العالم، حتى تتمكن الشبكة من طاقة حسابية هائلة تسَرّع بوضع تصوّر شكل بروتين يمنع الفيروس من الحطّ على سطح الخلايا ثم دخولها.

من غير المطلوب أن تكون أنت نفسك باحثا أو خبيرا بالبروتينات، كل المطلوب منك أن تعير جهازك في وقت فراغه، ليضيف إمكانياته لإمكانيات بقية الحواسيب. أما القضايا العلمية فيَتولّاها الباحثون المختصون. هذان مثالان يفتحان لنا الطريق.

نحن بحاجة إلى وضع خبراتنا جميعا في نفس السلة، وأن نربط أدمغتنا ببعضها البعض. إنهما شرطان أساسيان لبلورة النظام الفكري الجديد الذي نحن بأمسّ الحاجة إليه، علّنا ننقذ به أنفسنا، وربما نعود لضخ أفكار جديدة في عقل عالمي جماعي جبّار نراه يتشكل تحت أعيننا، ونحن لا نساهم فيه بشيء، وذلك منذ زمن ابن خلدون. وللحديث بقية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.