"مجتمع النخبة العربية".. قراءة في أزمة الفاعلية والأيديولوجيا

اللبنانيون يواصلون التظاهر متمسكين بمطالبهم برحيل النخبة الحاكمة

تنعكس حقيقة مجتمع النخبة من خلال قربه وبعده من العموم، واستطاعته الاقتراب من آلام الناس وتطلّعاتهم ومحاولته الجادة لإيجاد حلول لها، وقدرة المثقف أو المفكّر على بناء مشروعٍ يترجَم إلى ثقافة فاعلة، تكون علامة في الناس ودائرةً لتفكيرهم واهتماماتهم.

يذكر الفيلسوف الألماني هربرت مركيوز -في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد"- أن الإنسان الحديث مؤدلَجٌ بطبعه، وأن دعوى الحرية التي تتغنى بها الرأسمالية والليبرالية ليست حقيقةً، وإنما هي لعبة تمارَسُ ضدّه فتسوّر إرادته الحرّة، وتوجّه أفكاره نحو ثقافة وطريقة تفكير ماديّة محددة، حتى صارت سمة العالم أنه يفكّر بطريقة "أحاديّة البعد".

أزمة النخبة وتبدّلات التاريخ: تعتمد مدارس فلسفة التاريخ تفسيرات مختلفة لظهور واختفاء الأطوار التاريخية، فقد اعتمد ماركس نظريّته في تغيّر وسائل الإنتاج وانعكاساته سببًا أساسيًّا في تبدّل الدور التاريخي على نحو حركي دائم، إلا أن هذه الفكرة انهارت نظريًّا قبل انهيار الاتحاد السوفياتي عمليًّا، وذلك بتغيّر الحكم الاشتراكي إلى شكلٍ جديدٍ من طبقات ومسؤولي الدولة والاستبداد والمنتفعين.

وفي المقابل؛ رأى أرنولد توينبي تفسيرًا أن تبدّل الحضارة يكون بدايةً بسبب ضعف النخبة التي توجّه الحضارة وانقلابها إلى سلطةٍ تعسفية، إضافة إلى انفضاض الشعب عن تأييد النخبة ورفض محاكاتها، ليؤدي الانشقاق وتفتّت المُجتمع دوره في السقوط الأخير.

وبهذا؛ فإن توينبي يرى في فشل النخبة في توجيه المجتمع وصنع آرائه سببًا في السقوط الحضاري، ويؤكّد أن انفكاك النخبة عن إلهام المجتمع أحد أسباب هذا الفشل.

إن ترسيخ الوعي العام والدعوة إلى تحقيق الديمقراطية والعدالة، والدفاع عن قيم الحرّيّة وحقوق الإنسان، وربط المجتمع بعمليّة النهوض الفكري والحضاري؛ من أهم أدوار النخبةِ في واقعنا المعاصر، إلا أننا نلاحظ أن النخب العربية ما زالت تخفق في الدعوة المجرّدة إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي، ونجد أيضًا أن الأزمات العربية تتفاقم عقداً تلو آخر جارفة معها آمال الشعوب في التغيير.

إن غالبية المحسوبين على النخب العربية عجزت -بمختلف أوجهها- عن تحقيق اندماجٍ مؤثّر لها مع النسيج الاجتماعي والفكري، بل إنها -على النقيض من ذلك- آثرت الانعزال في دوائر بشريّة وثقافيّة خاصّة بها؛ فأصبحت بذلك طبقة تعيش بمعزل عن التحولات العنيفة التي أفرزها الربيع العربي، وآثرت اتخاذ مواقف نخبويّة بناءً على رؤى معيّنة وأفكار مسبقة أيديولوجيّة منفصمة عن الواقع.

العلاقة بين الأيديولوجيا والنخبة: إن الأيديولوجيا أداةٌ لغويةٌ ومعنويّة تنطوي على تحفيزات مختلفة موجَّهةٍ للمؤمنين بها، ولذا نرى أن الأشخاص المؤدلَجين ينجحون دائمًا في إقلاق الآخرين، رغم فشل أيديولوجياتهم في البقاء أو الانتشار، فتدخل الأدلجة بذلك في التمحور حول الماضي وجعله أداة لفهم الواقع وطريقًا للمستقبل.

إن ترسيخ الوعي العام والدعوة إلى تحقيق الديمقراطية والعدالة، والدفاع عن قيم الحرّيّة وحقوق الإنسان، وربط المجتمع بعمليّة النهوض الفكري والحضاري؛ من أهم أدوار النخبةِ في واقعنا المعاصر، إلا أننا نلاحظ أن النخب العربية ما زالت تخفق في الدعوة المجرّدة إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي، ونجد أيضًا أن الأزمات العربية تتفاقم عقداً تلو آخر جارفة معها آمال الشعوب في التغيير

لقد تمركزت نخبنا الثقافية ردحًا طويلاً من الزمن حول الماركسية بشكلها السوفياتي المعادي لكل أشكال الدين، وثمّة فريق نخبويٌّ آخر موازٍ لها تمركز حول الارتباط بالغرب باعتباره الجنّة الحضاريّة التي يملك أصحابها التفوّق والفكرَ التنويريّ، بالتوازي مع رفض ونقد جميع ما جاءنا عبر تاريخنا الديني والقومي والفكري. كما نلاحظ أن فئة واسعة من اليسار ارتحلت نحو الوجه الليبرالي للأيديولوجيات الجديدة، إلا أن سمة الإقصاء والنظرة الفوقية هي سمةٌ مشتركة لدى المؤدلَجين على العموم.

لا ينطلق السؤال الصحيح في فهم الأيديولوجيا وتفكيكها من "هناك" بل من "هنا"؛ كما يقول المسيري رحمه الله. ويتطلب تفكيك الأيديولوجيا إلى مسارٍ نظريٍّ يفهم تاريخ الأفكار في السياق الغربي، ومسارٍ عمليّ يظهرُ العوامل الخفيّة التي تعمل على ترسيخ الأيديولوجيا.

وبحسب هيغل؛ فإن دورة التاريخ محكومة بقانون الحركة والتناقض المستمر، فالروح الكُلّيّة تحركه إلى الأمام دومًا. وحين صدح فرانسيس فوكوياما بنظريته حول "نهاية التاريخ"؛ فإنّه كان مرتبطا في ذلك بفحوى مدرسة هيغل التي ترى في التقدم الغربي ووعيه الحضاريّ والفكري السقفَ الأخير للتقدم الإنساني. كما أكّد فوكوياما مقولة انتصار الليبرالية التي هي جوهر أيديولوجية هيغل الكبرى في فهم مسار التاريخ.

إن مشكلة الليبرالية ومستلزماتها هي أنها تفرض حريّة مختلفة بين المؤمنين بها، وجوهر هذه الحرية هو الإتاحة العشوائية، ولذا نرى اختلافًا واضحًا بين حريّة الطبقات الوسطى والفقيرة والغنية، كما أن هذه الإتاحة مختلفة في البلاد المسلمة عن البلاد غير المسلمة.

لكن ما السبيل لفرض هذه الإتاحة؟ إنها العولمة التي تقضي بفتح الحدود وجعل العالم سوقًا واحدةً للأفكار والسلوكيات، وأي شيء خارج نطاق الليبرالية -كالدين مثلًا- لا اعتبار له، وهذا بالضرورة داخل ضمن الأدلجة، إلا أنه مختلف في ظاهره عن التمسك بأيديولوجيا الأنساق الكبرى المفروضة من قبل أشخاص أو سلطات بعينها.

لقد اختلف مفهوم الصراع حالياً؛ فأصبحت تأتينا صراعات الرجال والنسويّة، وأخرى بين المثليّة والغيريّة، وبين المعرفة والسلطة، وبين تأويل النص الديني بانضباط وتفتيته إلى ما لا نهاية من الآراء.

لم تختفِ الأيديولوجيا إذن؛ إلا أن طبيعتها والمستهدفين منها هم الذين اختلفوا، ولم يبقَ مُتّسَعٌ -والحال هكذا- للتمحور حول فرضيّات ثنائية، بل توجّهت أفكار العالم كله للدفاع عن معتقداتها أو التماهي مع متطلبات السوق الكبرى. فالبشر اليوم أبعد ما يكونون عن الحرية، بدءًا من اختيار اللباس وانتهاء باختيار الرؤساء؛ فالإعلام اليوم يوجّه الفرد ويصنع خياراته.

أيديولوجيا النخبة أم أزمة النخبة: بعيدًا عن الجدل الدائر حول دور النخب في إطلاق الربيع العربي ودعمه توجيهيًّا وسياسيًّا؛ فإننا نرى أن طبقات النخبة ذهبت إلى الانكماش على ذاتها لجملةٍ من العوامل بعضها وثيق الصلة بالنخب نفسها، كتكلّس أفكارها حول قضايا جامدةٍ رغم ضرورة تجديد تناولها لمختلف القضايا.

جدير بمختلف النخب أن تنخرط في التأثير المباشر في صناعة الواقع الحضاريّ، باستقطاب مزيد من الشباب المثقف لتحقيق نهوضٍ فكريٍّ مستمرّ لا ينبتُّ عن ماضيه وقواعد فكره، وأن تقترب النخبة من الشارع، وتنقّب في التراث الروحي والفكريّ الذي يؤمن به؛ لتفهم أطره الفكرية أولاً، وتلتمس طريق نهضته بما يناسبه ثانيًا، وإلا فإننا سنظل مرهونين للتبعية وطغيان الإقصاء على الدوام

طمح الشباب العربي لتجديد النخبة المثقفة خاصة النخبة من طبقة الظهور الإعلامي، إلا أن درجة الإقصاء والتقوقع على الذات، وتوسيع العصبة بناءً على توافق الأفكار ومتانة العلاقات، والإصرار على الرفض المسبق بناء على عموميات التصنيف؛ كل ذلك يؤكد أن حصيلة النخبة المستجدة كانت متواضعةً للغاية.

لقد انعكست الصورة إذن بانضواء أعداد كبيرة من الشباب المؤثر تحت تأثير النخب القديمة التي استغلت علاقاتها وقدراتها التمويلية، ومشاعر الخوف والإحباط التي فتّت شرائح الشباب؛ لتخرج من الأزمة المعاصرة بفوائد تعزز انفصالها عن واقع الناس وهمومهم.

أين هي النخب الجديدة المؤثرة في الوعي؟ ما زالت النخب القديمة تنتج عصبتها وجماعاتها مرةً تلو مرة، ونرى -من ناحية أخرى- نُخبًا مضادّة تعقد صفقاتها مع الاستبداد وأغصان الخرافة، لتستمد مشروعية البقاء في هذا الزمن المأزوم.

إن وجود النخبة أمر طبيعي في المجتمع الإنساني، فهي القائد المفكر والموجه لعمليات التحوّل وحركات التأثير، ومن ثمّ فإن تأزمها يؤدي إلى انحلال التأثير في المجتمع شيئًا فشيئًا، وظهور بدائل غير صحّية من تياراتٍ وأفكار لا يمكن ضبطها، وإنما تنشر وعيًا زائفًا كما هو حال ظاهرة "مشاهير مواقع التواصل" الذين يتحدثون لمجرد الوصول لمتعة الظهور والشهرة.

جدير بمختلف النخب أن تنخرط في التأثير المباشر في صناعة الواقع الحضاريّ، باستقطاب مزيد من الشباب المثقف لتحقيق نهوضٍ فكريٍّ مستمرّ لا ينبتُّ عن ماضيه وقواعد فكره، وأن تقترب النخبة من الشارع، وتنقّب في التراث الروحي والفكريّ الذي يؤمن به؛ لتفهم أطره الفكرية أولاً، وتلتمس طريق نهضته بما يناسبه ثانيًا، وإلا فإننا سنظل مرهونين للتبعية وطغيان الإقصاء على الدوام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.