المشرق العربي.. ساحة معركة إقليمية ودولية (2-5)

U.S. President Donald Trump and Russia's President Vladimir Putin shake hands as they meet in Helsinki, Finland July 16, 2018. REUTERS/Kevin Lamarque TPX IMAGES OF THE DAY

الاشتباك الأميركي الصيني
الاشتباك الأميركي الروسي

الاشتباك الأميركي الصيني
أعطت الولايات المتحدة أولوية لمواجهة التحدي الصيني باعتباره التهديد الداهم والخطير، ووضعت "إعادة التوازن في آسيا والهادئ" على رأس سلّم أولوياتها لوقف تمدد الصين واحتوائه، قبل أن يكسر التوازن القائم في الشرق الأقصى عبر فرض تصوراته وخياراته على دول الجوار (اليابان، كوريا الجنوبية، الفلبين، إندونيسيا، أستراليا) التي ترتبط بعلاقات تحالف معها.

جاء إعطاء الشرق الأقصى أولوية قصوى في وثيقة "إستراتيجية الأمن القومي 2015" تنفيذا لمبدأ كان الرئيس الأميركي جيمي كارتر (1977-1981) أعلنه أثناء ولايته، ومفاده "استعادة ميزان القوى الإقليمي في أي إقليم من الأقاليم لصالح المصالح الأميركية"، وقد زاد في أهمية المنطقة -وخطورتها كذلك- تحرك الصين عسكريا للعب دور سياسي يتناسب مع حجمها الاقتصادي (الاقتصاد الثاني عالميا بناتج وطني يقدر بنحو 14 تريليون دولار أميركي).

وذلك عبر تمديد حدود مياهها الإقليمية، وبسط سيطرتها على جزر متنازع عليها مع عدد من دول الإقليم (الفلبين وفيتنام وماليزيا وبروناي وتايوان) في بحر الصين الجنوبي، يقدر أنها تحتوي على مخزون كبير من النفط والغاز. هذا إضافة إلى بنائها جزرا صناعية فوق صخور وجزر مرجانية وشعاب غارقة، يعبر منها نصف تجارة العالم سنويا، وحجم بعض هذه الجزر الصناعية يتسع لمطارات ومنشآت عسكرية، نشرت على إحداها مدفعية ثقيلة، فضلا عن قيامها بتوسيع حدود مياهها الإقليمية ومجالها الجوي وتعزيز قدراتها البحرية ونشر صواريخها متوسطة المدى في عمق أراضيها، مما جعلها بعيدة عن الصواريخ الأميركية البحرية والجوية من طراز كروز المجنّحة، في إطار إستراتيجية منع وصول.

هذا بالإضافة إلى احتكاكها مع اليابان حول جزر متنازع عليها في بحر الصين الشرقي، ودعم كوريا الشمالية في مواجهة كوريا الجنوبية لمنع انهيارها وابتلاعها من الأخيرة، فتصبح القوات الأميركية على ضفة نهر يالو، ناهيك عن رفع موازنتها العسكرية إلى 141 مليار دولار، وبدئها بناء حاملتين للطائرات وغواصات وسفن حربية وزوارق حربية سريعة وصواريخ بعيدة المدى متعددة الرؤوس الحربية "استعدادا لصراع محتمل في مضيق تايوان"، وفق وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون).

استدعى ذلك ردا أميركيا بإعادة تأهيل القواعد العسكرية في الفلبين واليابان وهاواي، وإرسال تعزيزات بحرية وجوية إلى قواتها في الإقليم، والمباشرة بدوريات بحرية وجوية خاصة في محيط الجزر الصناعية، وتعزيز القدرات العسكرية لحلفائها فيه، وإيفاد وزير خارجيتها إلى بكين لإقناعها بتهدئة التوتر والتوقف عن إقامة الجزر الصناعية في بحر الصين الجنوبي؛ وبالعمل على حل النزاع حول الجزر المتنازع عليها بالطرق الدبلوماسية، لكنه ووجه بموقف صيني متصلب.

كانت الصين قد عملت على تحصين موقفها عبر إقامة تحالفات وتشكيل تكتلات سياسية واقتصادية مع الدول المتضررة من الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي، فشكلت عام 1996 مع روسيا وكزاخستان وأوزباكستان وطاجيكستان وقرغيزيا "منظمة شنغهاي للتعاون"، التي أصبحت ركنا من أركان التوازن الإستراتيجي في شرقي آسيا، وقوة مضادة لـحلف شمال الأطلسي (الناتو) والولايات المتحدة، وعملت على تفعيلها لتحقيق أهدافها الأساسية المتمثلة في تحقيق الأمن الإقليمي في آسيا الوسطى عبر منهج اقتصادي يقوم على تنمية التعاون الاقتصادي والتجاري بين دولها، وآخر سياسي أمني من خلال التعاون في مواجهة التحديات الأمنية غير التقليدية: الإرهاب الدولي والنزعات الانفصالية وتجارة السلاح والمخدرات.

وقد أتاح لها ذلك التحرك في المحيطيْن الإقليمي والدولي تحت راية التصدي للأحادية القطبية وفتح الباب لاجتذاب دول رافضة لهذه الأحادية، فاتفقت مع روسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا على تشكيل مجموعة "البريكس" لاحتواء القوة الاقتصادية الأميركية. وجاء ردها على قرار الإدارة الأميركية التوجه شرقا بإستراتيجية مركبة، أساسها التوجه غربا وتأمين أسواق آمنة وكافية للطاقة والتبادل التجاري.

Hلصين -وهي المستورد الأكبر للنفط في العالم- بحاجة إلى طرق طاقة برية بعيدا عن الممرات البحرية والأساطيل الأميركية ذراع واشنطن الطويلة، لتحاشي مخاطر الاعتراض البحري، ولذلك بدأت بناء أنبوبين لنقل النفط والغاز وتشغيلهما في عام 2006 وأواخر عام 2009. وسعت إلى إيجاد ممرات برية عبر بناء خط سكك حديد لقطارات فائقة السرعة تسمح ببسط السلطة من ساحل الصين الشرقي إلى قلب أوراسيا، لموازنة التفوق البحري الأميركي وتشكيل جدار حماية بري في حال وقوع اضطرابات بحرية

فالصين -وهي المستورد الأكبر للنفط في العالم- بحاجة إلى طرق طاقة برية بعيدا عن الممرات البحرية والأساطيل الأميركية ذراع واشنطن الطويلة، لتحاشي مخاطر الاعتراض البحري، ولذلك بدأت بناء أنبوبين لنقل النفط والغاز وتشغيلهما في عام 2006 وأواخر عام 2009. وسعت إلى إيجاد ممرات برية عبر بناء خط سكك حديد لقطارات فائقة السرعة تسمح ببسط السلطة من ساحل الصين الشرقي إلى قلب أوراسيا، لموازنة التفوق البحري الأميركي وتشكيل جدار حماية بري في حال وقوع اضطرابات بحرية، وبدأت عام 2013 بمشروع "حزام طريق الحرير الاقتصادي".

ولأنها قررت تجنب الوصول إلى المياه المفتوحة بالمرور بالأراضي الروسية؛ فقد اختارت الوصول عبر إيران باعتبارها الطريق الأكثر أهمية للوصول إلى أسواق أوروبا والخليج، وركيزة جيواستراتيجية للوصول البري إلى الغرب، الذي تعده الصين ضروريا لمواجهة استدارة واشنطن نحو الشرق والتفوق البحري للولايات المتحدة، وتبنت موقفا في الصراع في سوريا وعليها ينسجم مع هذا التوجه، وهذا جزء من انعكاسات العلاقات الصينية الإيرانية القوية، بفعل الموقع المتميز الذي تحتله إيران في الإستراتيجية الصينية، وهو موقع يتجاوز أهميتها سوقا ومزودا للطاقة.

وهكذا أنشأت خط سكة حديد تركمانستان إيران (يربط مشهد بتيجين طوله 300 كيلومتر) وخط سكة حديد كزاخستان تركمانستان إيران الذي يمتد من أوجين (جانازون)، مرورا بجرجان ووصولا إلى موانئ إيران على الخليج، وقد بدئ في إنشائه 2014. كل هذا باعتبار أن المواجهة بين الطرفين تجارية/اقتصادية بحتة، وينطوي على بديل لنموذج التنمية الغربي "يصلح للدول التي ترغب في تحقيق التنمية مع الحفاظ -في الوقت نفسه- على استقلالها السياسي"، وفق تشانغ شوهوا مدير معهد دراسات الإعلام في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية.

الاشتباك الأميركي الروسي
واجهت روسيا -التي اعتبرتها إستراتيجية الأمن القومي الأميركي 2015 مع الصين عدوة للولايات المتحدة- التمدد الغربي/الأميركي نحو حدودها -عبر ضم دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو- بإجراءات عسكرية مباشرة، عبر العمل على تعزيز الوجود العسكري الروسي في الساحة السوفياتية السابقة من خلال قواعد عسكرية في طاجيكستان وقرغيزيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وأرمينيا، ومن خلال تقوية منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تضم حالياً ست دول (روسيا وبيلاروسيا وكزاخستان وقرغيزيا وطاجيكستان وأرمينيا).

كما شكلت اتحادا جمركيا يضم دول الاتحاد السوفياتي السابق تحت اسم الاتحاد الأوراسي، كإطار مواز ومنافس للاتحاد الأوروبي يمثل برأيها عالماً بديلاً قائما على رفض القيم الغربية؛ وعلى تصور يلزم دوله بسياسة جماعية يتفق عليها، ووضعه تحت سيطرتها بالكامل، وأطلقت عام 2000 برامج اقتصادية مستفيدة من تحسن سعر النفط والغاز الذي مكنها من تجاوز حالة العجز التجاري والمالي وحوّلها إلى وضع إيجابي مع احتياطي نقدي كبير؛ ورفعت الموازنة العسكرية لإعادة التوازن لوضعها الداخلي وزيادة قدرتها على التحرك الإقليمي والدولي.

ثم سعت إلى فرض تصوراتها ومصالحها على الغرب عبر خوض حربٍ في جورجيا (2008) واقتطاع مساحات من أرضها، وإقامة جمهوريتين مستقلتين: أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. وقد زاد هذا -مع تحولات الربيع العربي والتصرف الغربي في ليبيا، وانفجار الثورة السورية على الضد من هوى الكرملين- سخونة المواجهة مع الغرب، في ضوء خشية موسكو فقدان آخر معاقلها في المتوسط، فتبنت موقفاً منحازاً للنظام السوري في محاولة لتحقيق هدفين: الأول حماية مصالحها ووجودها في المتوسط (قاعدة طرطوس)، والثاني الانتقام من حرمانها من الكعكة الليبية الذي دفعها إلى الرفع من نبرة التحدي والتوسع في عرض العضلات واستخدام القوة ضد خصوم النظام الداخليين والخارجيين.

وقد أغراها غياب الرد الغربي المباشر على اجتياح جورجيا باقتحام جزيرة القرم وضمها بعد استفتاء منسق، واللّعب بورقة حماية الروس والناطقين بالروسية في أوكرانيا بالإقدام على دعم قوى محلية موالية وإقامة جمهوريتين مستقلتين شرقي البلاد: لوهانسك ودونيتسك بعد استفتاء شعبي مسيطَر عليه يوم 11/5/2014، للضغط على كييف والغرب للتخلي عن مساعي ضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي؛ تلاه تدخل عسكري مباشر في الصراع السوري دفاعا عن نظام مستبد وفاسد ثار عليه الشعب.

كما قامت بنشر صواريخ بانتسير المتوسطة المدى في كالينينغراد، وأسست عام 2015 "القوات الجوية الفضائية"، وحدّدت مهمتها -وفق وزارة الدفاع الروسية- في رصد الأجسام الفضائية والتهديدات الموجهة ضد روسيا في الفضاء ومنه، وصد هذه التهديدات عند الضرورة، وتزويد الإدارة العليا بالمعلومات الموثوقة عن رصد إطلاق صواريخ بالستية؛ والتحذير عند وقوع أي هجوم صاروخي؛ وتنفيذ عمليات إطلاق المركبات الفضائية في المدار؛ وإدارة أنظمة الأقمار الصناعية للاستخدام المزدوج (العسكري والمدني)، واستخدام بعض منها في إمداد القوات الروسية بالمعلومات المطلوبة؛ والحفاظ على التشكيل المقرّر للأقمار الصناعية، وعلى استعداد الأقمار العسكرية والمزدوجة؛ بالإضافة إلى وسائل إطلاقها والتحكّم فيها.

لم يدفع الهجومُ الروسي في أوكرانيا الغربَ للكف عن السعي للتمدد نحو الحدود الروسية ومحاصرتها، والإقرار بوزنها الجديد والاعتراف بدور لها في صياغة القرار الدولي؛ فنقلت موسكو التنافس والضغوط إلى ساحة الشرق الأوسط: سوريا، العراق، مصر، وأخيرا لبنان وليبيا، بالإضافة إلى تحركات أوسع وسط أفريقيا وفنزويلا. عاضدت الصين الموقف الروسي هناك، خاصة دبلوماسيا من خلال المشاركة في استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي لإفشال قرارات عربية وغربية ضد النظام السوري

وأرسلت في يوليو/تموز 2015 أسطولا بحريا ضخما -شمل كاسحة جليد نووية- باتجاه القطب الشمالي، لتعزيز الوجود العسكري والإعلان عن الهدف من ذلك: "فتح الطريق أمام البواخر والسفن التجارية والعسكرية الروسية، للوصول غير المقيد إلى المحيطيْن: الأطلسي والهادئ، ولتأمين وصول البلاد إلى موارد الطاقة في المنطقة القطبية الشمالية"؛ وطالبت بالسيطرة على مليون كيلومتر مربّع من أرض القطب الشمالي، ناهيك عن استخدامه ممرا تجاريا مع دول شمال أوروبا والأميركتين.

وأعلنت موسكو عن إنتاجها الجديد من الأسلحة التقليدية والنووية والصواريخ المجنحة: صاروخ ثقيل جديد من طراز "سارمات" مداه مفتوح، وصاروخ كروز يعمل بالطاقة النووية، وصاروخ من طراز "الخنجر" أسرع من الصوت، الذي يطير بسرعة عشرة أضعاف سرعة الصوت على مدى أكثر من ألفي كيلومتر، ويستطيع المناورة في جميع مراحل الرحلة، وصاروخ كروز من طراز "أفانغارد" أسرع من الصوت يطير محاطا بشرنقة من البلازما.

ودعت إلى تشكيل نظام دولي جديد بدل النظام الحالي الذي تعتبره نظاما غربيا تجاوزته الظروف، وفق دعوة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مؤتمر الأمن بميونيخ الألمانية يوم 18 ديسمبر/كانون الأول 2017، والترويج لمقولة الدولة/الحضارة في مواجهة المقولة الغربية الدولة/الأمة، وإعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن "الفكرة الليبرالية المزعومة استنفدت غايتها".

لم يدفع الهجومُ الروسي في أوكرانيا الغربَ للكف عن السعي للتمدد نحو الحدود الروسية ومحاصرتها، والإقرار بوزنها الجديد والاعتراف بدور لها في صياغة القرار الدولي؛ فنقلت موسكو التنافس والضغوط إلى ساحة الشرق الأوسط: سوريا، العراق، مصر، وأخيرا لبنان وليبيا، بالإضافة إلى تحركات أوسع وسط أفريقيا وفنزويلا.

عاضدت الصين الموقف الروسي هناك، خاصة دبلوماسيا من خلال المشاركة في استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي لإفشال قرارات عربية وغربية ضد النظام السوري، لأن إضعاف الولايات المتحدة في أي بقعة من العالم يخدم مصالحها؛ ولعبت دورا تجاريا واستثماريا في دول المشرق العربي وجوارها -بما في ذلك إسرائيل- لتوسيع وتعزيز دورها ونفوذها في مواجهة الدور والنفوذ الأميركييْن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.