الجهاد في العالم المعاصر.. جمالية التعامل مع المجتمع الإنساني والمنتظم الدولي

epa07966966 A woman wearing a tricolore veil holds a poster reading 'Muslims but not scapegoat' as protesters gather in front of Cnews TV headquarters to protest against the French polemist and writer Eric Zemmour in Boulogne, near Paris, 02 November 2019. Zemmour was convicted by the courts for racist remarks and is regularly accused of spreading an anti-Muslim speech. EPA-EFE/CHRISTOPHE PETIT TESSON

اليوم بعد أن أصبح العالم ومواثيقه تضمن حرية الاعتقاد للأفراد كما تضمن للشعوب تقرير مصيرها، وأصبحت حرية السفر والتجول في الأرض حقا من حقوق الإنسان، وتتجه الحدود الجغرافية إلى التلاشي، وتراجع هامش تدخل الدولة القُطرية أو الوطنية في حياة الأفراد، ويتم الاتجاه إلى إقرار مفهوم جديد للمواطنة هو المواطنة العالمية؛ يبدو هذا الوضع أقرب إلى مطلب الإسلام الأول الذي عرضه محمد (ص)، أي ضمان حرية الدعوة والتبشير بتعاليم الدين الجديد حين قال: «خلوا بيني وبين الناس».

كما أن الشرعية الدولية والمواثيق والاتفاقيات والإعلانات الدولية تتجه -في الغالب الأعم- إلى إقرار عدد من الأحكام والمبادئ والمقاصد التي جاء من أجل تحقيقها هذا الدين. ويكفي بالنسبة للمسلمين اليوم أن يكونوا في مستوى مسؤوليتهم التاريخية كي يكتشفوا أن أمامهم فرصة غير مسبوقة للإسهام في إسعاد البشرية، وتقديم جمالية الإسلام بل وجمالية الجهاد.

يقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتاب ‘في فقه الجهاد‘: "إننا في عصرنا هذا لم نعد محتاجين إلى قتال الطلب إطلاقًا، لأن الأبواب مفتحة أمامنا للدعوة العالمية، ولسنا في حاجة إلى أن نذهب بالجيوش إلى أوروبا أو إلى أميركا أو إلى الصين أو إلى الهند، فالفضائيات موجودة، والإذاعات الموجَّهة موجودة، والإنترنت موجود، وتستطيع أن تغزو العالم بها".

الشرعية الدولية والمواثيق والاتفاقيات والإعلانات الدولية تتجه -في الغالب الأعم- إلى إقرار عدد من الأحكام والمبادئ والمقاصد التي جاء من أجل تحقيقها هذا الدين. ويكفي بالنسبة للمسلمين اليوم أن يكونوا في مستوى مسؤوليتهم التاريخية كي يكتشفوا أن أمامهم فرصة غير مسبوقة للإسهام في إسعاد البشرية، وتقديم جمالية الإسلام بل وجمالية الجهاد

ويضيف "نحن الآن لسنا في حاجة إلى جيوش تقاتل بالسيف والمدفع، نحن في حاجة إلى جيوش جرارة تجاهد بالقلم والعلم والفكر والدعوة، إلى آلاف وعشرات الآلاف من الإعلاميين والدعاة والمعلمين الذين يخاطبون الناس بلغتهم، وبألسنتهم حتى يبينوا لهم. قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، (سورة إبراهيم/ الآية: 4).

ويقول القرضاوي في الكتاب نفسه: "وهكذا نرى أن ما كان يظنه الكثيرون ]من[ أن جهادَ الطلب وغزو العدو مرةً كل سنة فرضُ كفاية على الأمة، وأنه أمرٌ مجمع عليه؛ ليس كما ظنوا، وإنما المجمع عليه في هذا المقام أمران لا خلاف عليهما: الأول: ما ذكره ابن رشد: أن ينزل العدو ببلد من بلاد المسلمين فيجب عليهم جهاده، ويجب على الجميع إعانتهم حتى يُهزَم.

والثاني: تجهيز الجيوش وإعداد العدة اللازمة للدفاع عن الحوزة، من القوة العسكرية الكافية لردع العدو، والقوة البشرية المدرَّبة بما يقتضيه العصر في البر والبحر والجو. استجابة لقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾، (سورة الأنفال/ الآية: 60).

ومما سبق؛ يتأكد أن على المسلمين اليوم مسؤوليات كبيرة، منها:
– التمثُّل الصحيح للإسلام ومقاصده في العدل والمساواة وتكريم بني آدم، ثم القدرة على إعادة تقديم الإسلام للبشرية كما قدمه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، باعتباره دينا ينزع نحو الحرية ونحو العدل ونحو السلم، وهو ما جعله يقدم مشروعا إصلاحيا "تقدميا" ومتقدما على عصره، مما جعل أعناق الشعوب تشرئبّ إلى رحمته وعدله.

– الانخراط ضمن المنظومة الأممية لحقوق الإنسان باعتبار أن المسلمين أولى بها، وأن يكونوا عنصرا فاعلا في المجتمع الدولي، مسهمين في صياغة المعايير الحقوقية، وفي العمل على فرض الالتزام بها من قبل دول العالم.

ولقد رأينا كيف مدح النبي صلى الله عليه وسلم حلف الفضول، وأكد أنه لو دُعي به في الإسلام لأجاب؛ حيث قال: «لقد شَهِدتُ مع عمومَتي حِلفًا -في دارِ عبدِ اللَّهِ بنِ جُدعانَ- ما أُحِبُّ أن لي بهِ حُمْرَ النَّعَمِ، ولَو دُعيتُ بهِ في الإسلامِ لأجَبتُ».

– تعزيز التضامن بين الدول الإسلامية، وبناء قوة عسكرية على غرار حلف شمال الأطلسي (الناتو) قادرة على تحقيق الردع الإستراتيجي، تطبيقا لقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ، وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، (سورة الأنفال/ الآية: 60)؛ على أن يتولَّوْا بأنفسهم صناعة أسلحتهم وتطوير تكنولوجياتها، وهم قادرون اليوم على ذلك إن توفرت عندهم الإرادة السياسية.

فالقوة في إطار مفهوم الردع الإستراتيجي يتم إعدادها في الأصل ليس للاستخدام، وإنما لردع الأعداء وجعلهم يفكرون ألف مرة قبل الإقدام على مواقف وتحركات غير محسوبة. إنه الإعداد للقوة من أجل تحقيق السلام، وهو باختصار إعداد قوة الردع من أجل ألا تقع الحرب.

وواهم اليوم من يعتقد أنه يمكن أن ينتصر في حرب معاصرة، أو أن يفرض سيطرته العسكرية مهما بلغت قوته؛ فإن ما تختزنه الأرض من ترسانة من الأسلحة الكلاسيكية والنووية والبيولوجية، ومن تطور تكنولوجي جعل العالم يتجاوز الحديث عن الصواريخ العابرة للقارات إلى الحديث عن حرب النجوم؛ إن ذلك كله كافٍ لتدمير كامل للبشرية ولمعالم الحضارة التي بنتها منذ أن ظهرت على وجه الأرض.

هل المسلمون اليوم في تخلفهم واختلافهم، وفي فقرهم وفرقتهم، وفي فهمهم "البدوي" للإسلام، وفي استمرار عيشهم أسارى حروب التاريخ وجدالات المتكلمين، واستمرار تدريس العقيدة عبر منظومات جوفاء، وفي الغيبوبة الكبرى للعقل الذي أيقظه الإسلام بالوحي، وفي استمرار الكرامة مهدَرة من أنظمة الاستبداد؛ هل هم مؤهلون للقيام بهذه المهمة؟ إنه السؤال الأكبر الذي يتعين البحث له عن جواب!!

بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وهزيمة اليابان فيها بعد أن ألقت القوات الأميركية قنبلتين نوويتين؛ أدركت هاتان الدولتان أن هناك طريقة أخرى لممارسة الحرب، وهي الامتناع عن الدخول في منطقها، فجنحتا إلى السلم لتتحولا -في أقل من أربعة عقود- إلى الواجهة وتصبحا قوتين اقتصاديتين عُظمييْن، علما بأنهما قد تخلتا عن كل طموح لقيادة العالم على مستوى القِيم.

واليوم؛ فإن عددا من دول العالم الإسلامي -إن لم تكن كلها- مشغولة بتوسيع خردتها من الأسلحة التي توجد شفراتها الإلكترونية لدى خصومها، وهو ما يضمن استمرار تجار السلاح وبارونات تجارة الحرب في الاستيلاء على مقدراتها، وهي مشغولة عن ذلك لأنها مشغولة بمخاطر موهومة من دول الجوار من إخوة الدين واللغة والعقيدة والاشتراك في التخلف عن ركب الحضارة، وفي العجز عن القضاء على المرض والفقر والجهل والأمية بين صفوف شعوبها!

ماذا لو جربت الأمة الإسلامية ودولها هذا الطريق؟ ماذا لو استطاعت أن تحرر الإسلام المختطَف والجهاد المختطَف، وأن تقدم الإسلام في جماليته وتجتهد في ذلك في الوقت الذي خلّى العالم بينها وبين الناس، ويكفي فقط أن تكون في مستوى القدرة على البلاغ المبين وإقامة الحجة؟ ماذا وهي تملك ما لا تملكه ألمانيا واليابان؟

ماذا لو استطاعت أن تحرر الإسلام والجهاد المختطَف من مجموعات متعطشة إلى الدم تُمارس القتل والذبح والتفجير في الآمنين في بلاد المسلمين وبلدان أوروبا وأميركا بدعوى الجهاد في سبيل الله؟ أي دولة إسلامية هذه التي تختصر "الدولة" في لباس أسود وأعلام سوداء ومجانين حرب يجوبون مدن العراق والشام ويقدمون أنفسهم على أنهم "جيش الخلافة" و"جند الله" الذين سيعيدون فتح العالم؟!!

هل المسلمون اليوم في تخلفهم واختلافهم، وفي فقرهم وفرقتهم، وفي فهمهم "البدوي" للإسلام، وفي استمرار عيشهم أسارى حروب التاريخ وجدالات المتكلمين، واستمرار تدريس العقيدة عبر منظومات جوفاء، وفي الغيبوبة الكبرى للعقل الذي أيقظه الإسلام بالوحي، وفي استمرار الكرامة مهدَرة من أنظمة الاستبداد؛ هل هم مؤهلون للقيام بهذه المهمة؟ إنه السؤال الأكبر الذي يتعين البحث له عن جواب!!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.