مقاومة هادئة للرئيس ترامب فمتى تتحول إلى صاخبة؟

epa06999775 US President Donald J. Trump responds to a question from the news media after delivering remarks during a meeting with sheriffs from across the country in the East Room at the White House in Washington, DC, USA, 05 September 2018. President Trump responded to questions about the anonymous oped in the New York Times. EPA-EFE/SHAWN THEW

فجرت صحيفة نيويورك تايمز في الخامس من أيلول/سبتمبر 2018 قنبلة من العيار الثقيل عندما نشرت مقالا مجهول الكاتب يتحدث عن مقاومة هادئة للرئيس دونالد ترامب داخل البيت الأبيض من قبل مجموعة من كبار موظفيه. وقد أحدث المقال حالة من الهستيريا داخل أروقة البيت الأبيض وفي واشنطن التي انقلبت رأسا على عقب في محاولة للتنقيب عن اسم الكاتب لمعرفة هويته ومن ثم الوصول إلى باقي المجموعة التي اتهمها الرئيس بالخيانة.

وتدل بعض المؤشرات على أن كاتب المقال ينتمي إلى التيار المحافظ من الجمهوريين في البيت الأبيض، أي من الدائرة المقربة من الرئيس، حيث أبدى المصدر دعمه لسلسلة من سياسات الرئيس ترامب خصوصا تلك المتعلقة على سبيل المثال بالإصلاح الضريبي، وهي السياسة التي يؤيدها الحزب الجمهوري ويتبناها منذ فترة طويلة.

ومن المثير في المقال أن صاحبه قد أشار بشكل لا لبس فيه إلى أنه ينتمي إلى مجموعة توافقت فيما بينها على أن سياسة الرئيس ترامب لا تخدم مصلحة البلاد.

وهذا يعني أن صاحب المقال لا يقف وحيدا في تيار المقاومة الهادئة هذا، بل هناك مجموعة "قد أقسمت" على القيام بكل ما يلزم من أجل إحباط سياسات الرئيس ترامب التي يرون أنها لا تخدم مصالح الولايات المتحدة، وتُعَرض نظامها الديمقراطي للخطر. فالميول السيئة للرئيس ترامب -كما يصفها المقال- ومناهضته للديمقراطية والتجارة الحرة وهجماته الشاملة على الإعلام من شأنها أن تقوض -كما يرى- مكانة الولايات المتحدة الدولية.

حالة الفوضى التي تحدث عنها المقال المجهول، وتيار المقاومة الذي بات يتشكل داخل البيت الأبيض، يعكس حالة الضرر العميق التي أصبحت إدارة ترامب تسببها للولايات المتحدة خصوصا فيما يتعلق بزعزعة الثقة في مؤسسات الدولة الديمقراطية، والإضرار بمصداقية الولايات المتحدة أمام المجتمع الدولي

ويكمن أصل المشكلة -كما يشخصها صاحب المقال- في توجهات الرئيس غير الأخلاقية. فأي شخص -حسب قوله- يعمل معه يعرف بأنه لا يركن إلى منظومة أخلاقية راسخة يمكن تميزها بشكل واضح لتشكيل الأساس المنهجي والقِيَمي الذي قد تبنى عليه قراراته السياسية. وبناء على ذلك فإن أسلوب القيادة لدى الرئيس يتسم –وفقا للكاتب- بالتهور، وإثارة الخصومة، والتفاهة، وانعدام الفاعلية. إنه رئيس لا يلبث أن يغير رأيه كل دقيقة على حد قول صاحب المقال.

ينصب التركيز في واشنطن في هذه الآونة على معرفة هوية كاتب المقال، ولكن ذلك برأيي إن تم فسوف يخدم الرئيس ترامب وبعض أفراد طاقمه على المدى القصير فقط، فالضرر الذي أحدثه المقال يتعدى بكثير معرفة هوية كاتبه ومحاسبته بعد ذلك على فعلته. من ناحية أخرى فإن المقال وبالرغم من الضرر الذي قد يحدثه على سمعة الرئيس خصوصا قبيل انتخابات التجديد النصفية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل إلا أنه ربما يسهم في تعزيز رواية الرئيس حول نظرية المؤامرة التي يدعي بأن المؤسسة السياسية في واشنطن والحزب الديمقراطي يقومون بها جنبا إلى جنب مع التيار الرئيسي من الإعلام الأميركي لإفشاله والخلاص منه وذلك من شأنه تعزيز شعبية الرئيس في أوساط داعميه من الطبقة البيضاء الأنجليكانية.

بناء على ذلك فإن المقال وبالتحديد حالة الفوضى التي يتحدث عنها، وتيار المقاومة الذي بات يتشكل داخل البيت الأبيض ضد الرئيس إنما يعكس حالة الضرر العميق التي أصبحت إدارة الرئيس دونالد ترامب تسببها للولايات المتحدة خصوصا في مجالين هما: زعزعة الثقة في مؤسسات الدولة الديمقراطية، والإضرار بمصداقية الولايات المتحدة أمام المجتمع الدولي.

إن الثقة في مؤسسات الدولة، وقدرتها على تنفيذ أعمالها الموكلة لها لطالما كانت إحدى أهم الميزات التي تتصف بها الديمقراطيات الليبرالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، غير أن هذه الثقة تشهد في الآونة الأخيرة حالة من الانحدار المتواصل. فآخر الإحصائيات تشير إلى أن ثلثي المواطنين في الدول الديمقراطية (64%) يعتقدون أن حكوماتهم نادرا أو لا تعمل أبدا لصالح الجمهور وفق تقرير مؤشر مدركات الديمقراطية "The Democracy Perception Index – DPI" لعام 2018.

إن ما يفصح عنه مقال نيويورك تايمز يوجه ضربة جديد إلى الثقة الممنوحة من الشعب للمؤسسات الحكومية خصوصا بعد أن تكشَّف أن مجموعة من الموظفين غير المنتخبين يحاولون تعطيل قرارات الرئيس المنتخب مباشرة من قبل الشعب باسم الحفاظ على الديمقراطية. إن هذا المثال يعيد السؤال التقليدي إلى الواجهة من جديد وبقوة هذه المرة والمتمثل بمن يحكم البيت الأبيض؟

في ذات السياق فإن ما يطلق عليها بـ"المقاومة الهادئة" أي تلك التي تحدث في الخفاء بعيدا عن الأعين من شأنها أن تُشيع أجواء من عدم الثقة بين الموظفين وهو الأمر الذي ينعكس سلبا على أداء المؤسسات لوظائفها المعهودة. لقد كان صادما لكثير من الأميركيين حينما صرح -على سبيل المثال- نائب الرئيس مايك بنس أثناء مقابلة له على شبكة USTV يوم الأحد 9 سبتمبر/أيلول بأنه مستعد للخضوع لاختبار كشف الكذب لإثبات براءته من كتابة المقال المجهول، أو تورطه في مناقشة التعديل 25 من الدستور الأميركي الذي يتعلق بإقالة الرئيس.

إن هذا لا يعد شيئا مألوفا في السياسة الأميركية؛ حيث إن انعدام الثقة إذا تسرب بين الرئيس ونائبه فإن ذلك يعكس حجم الضرر الذي باتت تتعرض له الثقة بين القادة السياسيين في واشنطن، حيث سارع أيضا كل من وزير الدفاع جيمس ماتيس ووزير الخارجية مايك بومبيو إلى نفي أي صلة بالمقال من قريب أو بعيد.

من جانبه لم يوجه الرئيس ترامب أصابع الاتهام لشخص بعينه بالرغم من شنه هجوما لاذعا على ما سماها بالدولة العميقة التي تحاول تقويض إدارته والنيل منه. وقد تنبه صاحب المقال سلفا إلى هذه الاتهامات التي قد تنال منه ومن أصدقائه في تيار "المقاومة الهادئة" بخصوص ما يعرف بالدولة العميقة، لذلك أبدى رفضه بأن يُعدَّ ما يقوم به ضمن ما يندرج تحت أعمال الدولة العميقة بل من أعمال "الدولة المستقرة" والتي يسعى أتباعها للحفاظ على حالة الأمر الواقع التي تضمن سير وظائف الدولة بشكل فعال ومنهجي. وهذا بطبيعة الحال يعكس إلى أي حد قد وصلت إليه حالة الاستقطاب في واشنطن بين الفرقاء السياسيين.

أما فيما يتعلق بمصداقية الولايات المتحدة أمام المجتمع الدولي فحدث ولا حرج؛ فمنذ توليه الرئاسة حرص الرئيس دونالد ترامب أن يبعث برسائل صادمة إلى المجتمع الدولي من خلال سياساته وقراراته الانفعالية. ففي الوقت الذي كان يهاجم فيه رئيس كوريا الشمالية ويهدد بحرب لا مثيل لها، إذ به يعدل عن رأيه ويقرر مقابلة الرئيس كيم جونغ أون وجه لوجه في قمة تاريخية انعقدت في سنغافورة، بيونيو/حزيران 2018.

الولايات المتحدة ليست بالدولة الهامشية، إنها الأهم في العالم، وعندما تحدث الفوضى على هذه الشاكلة داخل مؤسساتها، فمن شأن ذلك أن يثير مشاعر القلق لدى الكثيرين؛ لأن الأمر لا يتعلق فقط بالأمن القومي للولايات المتحدة بل بالأمن القومي العالمي الذي يمس كل فرد فينا

كما أنه عارض جميع وكالات الاستخبارات الأميركية التي أكدت التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية عام 2016 بينما دعم رواية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأمر الذي اعتبره العديدون في واشنطن بمثابة الخيانة. أما علاقته مع حلفاء واشنطن التقليديين فهي أقرب إلى الخصومة والنزاع منها إلى الصداقة؛ حيث "شتم" رئيس وزراء كندا جاستن ترودو، والمستشارة الألمانية أنجيلينا ميركل، وأوقف التدريبات العسكرية المشتركة مع كوريا الجنوبية، وفرض عقوبات اقتصادية على تركيا، هذا فضلا عن الانسحابات أحادية الجانب من بعض الاتفاقيات الدولية كاتفاقية المناخ، والاتفاق النووي الإيراني.

وقد تزامن نشر المقال مع التسريبات المتعلقة بكتاب جديد بعنوان الخوف Fear للكاتب الاستقصائي الأميركي المخضرم بوب وودوارد يصف فيه الفوضى التي تعتمل داخل إدارة الرئيس ترامب، ومن الأمثلة على ذلك حادثة سحب رسالة من مكتب الرئيس كانت ستفضي إلى إنهاء اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية. وقد قام بهذه الفعلة المستشار الاقتصادي السابق للرئيس ترامب غاري كوهين والذي برر ذلك بأنها محاولة منه لوضع حد لواحدة من السياسات التي كانت ستضر بالأمن القومي الأميركي، هذا فضلا عن حادثة أخرى تتعلق برفض وزير الدفاع جيمس ماتيس لاقتراح من الرئيس باغتيال الرئيس السوري بشار الأسد.

لقد أدت هذه الحوادث إلى تحول إدارة الرئيس ترامب إلى رئاسة ذات مسارين حسب تعبير صاحب المقال وهو الأمر الذي من شأنه أن يحدث حالة من الإرباك على المستوى العالمي، فالولايات المتحدة ليست بالدولة الهامشية، إنها الأهم في العالم، وعندما تحدث الفوضى على هذه الشاكلة داخل مؤسساتها، فمن شأن الجميع أن يبدي علامات كثيرة من القلق، فالأمر لا يتعلق فقط بالأمن القومي للولايات المتحدة بل بالأمن القومي العالمي الذي يمس كل فرد فينا. لذلك فإن إزاحة الرئيس ترامب عن سدة الحكم تعد مصلحة الجميع، والمقاومة الهادئة لا بدَّ أن تتحول إلى مقاومة صاخبة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.