عقاب ميركل وسوء حظ أوروبا والعالم

U.S. President Donald Trump and Germany's Chancellor Angela Merkel depart after a joint news conference in the East Room of the White House in Washington, U.S., April 27, 2018. REUTERS/Kevin Lamarque

إن أحد الأخطاء الأكثر شيوعا التي يرتكبها القادة الأوروبيون في تفسير العداء الذي أظهره الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه الحلفاء التقليديين لأميركا، ورغبة إدارته في قلب النظام الدولي؛ هو افتراض أن كل هذه الأعمال غير مسبوقة. لكن هذه ليست الحقيقة.

"فلسفتي هي أن جميع الأجانب يحاولون تدميرنا، ومن واجبنا أن ندمرهم أولاً". هكذا قال وزير الخزانة الأميركي عام 1971 جون كونالي، في محاولته الناجحة لإقناع الرئيس ريتشارد نيكسون بأن الوقت قد حان لمعاقبة أوروبا عبر تعطيل نظام بريتون وودز (وهو نظام إدارة نقدي أسس قواعد للعلاقات التجارية والمالية بين الدول الصناعية الكبرى في العالم في منتصف القرن العشرين).

وبالمثل؛ فإن ترامب يوافق بالتأكيد على أنه "من خلال موازنة متطلبات نظام دولي مستقر ضد الاحتفاظ بالحرية في العمل من أجل السياسة الوطنية"، اختارت الولايات المتحدة بحكمة "هذا الأخير".

كان ذلك قول بول فولكر (رئيس نيويورك الاحتياطي الفدراليآنذاك) بشأن تقييمه لقرار نيكسون في خطاب ألقاه بعد سبع سنوات. كما أعلن الرئيس المستقبلي للاحتياطي الفدرالي الأميركي كذلك أن "التفكك المحكم في الاقتصاد العالمي.. كان هدفاً مشروعاً في الثمانينيات".

لا يمكن فهم حجم الصعوبات التي تواجهها ألمانيا إلا بعد استيعاب العلاقة السببية بينها وبين التطورات في إيطاليا. ومثلما يهدف ترامب إلى قلب النظام العالمي الذي استفادت منه ألمانيا منذ عقود؛ يرى سالفيني ودي مايو أن تفكك اليورو يعد تطوراً اٍيجابيا، من شأنه أن يدعم حملتهما لمكافحة الهجرة

إن الفرق بين الوضع الراهن لأوروبا والأزمة التي واجهتها في السبعينيات يكمن في انهيار مركز أوروبا السياسي المماثل لذلك الذي حدث في جمهورية فايمار الديمقراطية. وفي سبعينيات القرن الماضي؛ شنت الولايات المتحدة هجوماً مالياً على ألمانيا وفرنسا وبريطانيا (بتعويم الدولار مثلا) وقد واجهته المؤسسات الأوروبية الموحدة.

وعلى النقيض من ذلك؛ يجب على المدافعين عن الوضع الأوروبي الراهن أن يناضلوا على جبهتين: خارجيا مقاومة تجاوزات ترامب؛ وأورونيًّا محاربة أمثال ماتيو سالفيني ولويجي دي مايو، النجوم الصاعدة في السياسة الإيطالية، الذين حرموا -رغم أغلبيتهم البرلمانية- من حق تشكيل حكومة من قبل رئيس الدولة المحاصر والمدافع عن المؤسسات.

كان البيان الصادر عن الولايات المتحدة حول التعريفات الجمركية على واردات الصلب والألمنيوم -والذي كان يستهدف ظاهريًا الصين– بمثابة إشارة أخيرة إلى أوروبا بأن خطاب ترامب "أميركا أولاً" يجب أن يؤخذ على محمل الجد.

ثم جاء الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الإيراني فمنح ترامب فرصة أخرى رائعة للاستفادة من عجز أوروبا، وخاصة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

فبعد تأكيدها أن ألمانيا -وهي أكبر دولة في الاتحاد الأوروبي من حيث عدد السكان والاقتصاد- ستدعم الاتفاقية النووية الإيرانية؛ شعرت ميركل بإهانة مباشرة بعد انسحاب شركةٍ ألمانيةٍ تلو أخرى من إيران.

كان الجميع غير راغبين في تحدي القوة المالية الأميركية، أو فقدان التخفيضات الضريبية التي قدمها ترامب إلى ما يقارب 5000 شركة ألمانية، بقيمة إجمالية تصل إلى 600 مليار دولار.

وقبل أن يتم استيعاب الصدمة الإيرانية؛ هددت الولايات المتحدة بفرض تعريفة جمركية بنسبة 25٪ على واردات السيارات الأوروبية، الأمر الذي من شأنه أن يخفض ما لا يقل عن خمسة مليارات دولار سنوياً من إيرادات المصدِّرين الألمان.

قد تكون هذه النكسات خطيرة للغاية، لكن لا يمكن فهم حجم الصعوبات التي تواجهها ألمانيا إلا بعد استيعاب العلاقة السببية بينها وبين التطورات في إيطاليا. ومثلما يهدف ترامب إلى قلب النظام العالمي الذي استفادت منه ألمانيا منذ عقود؛ يرى سالفيني ودي مايو أن تفكك اليورو يعد تطوراً اٍيجابيا، من شأنه أن يدعم حملتهما لمكافحة الهجرة.

قبل ما يزيد على ثلاث سنوات، عندما كنتُ أتفاوض نيابةً عن اليونان مع الحكومة الألمانية لإنهاء مجموعة من القروض غير المستدامة والتقشف الشديد الذي ما زالت تعاني منه البلاد؛ حذرتُ محاوري في اجتماع مجموعة اليورو لوزراء مالية منطقة اليورو، وكان مما قلته لهم آنذاك:

"إذا أصررتم على السياسات التي تدين شعوبا بأكملها، مع مزيج من الركود والإذلال على المدى الطويل؛ فسيتعين عليكم قريباً التعامل ليس مع اليساريين الأوروبيين مثلنا، بل مع المناهضين لأوروبا والمعادين للأجانب الذين يسعون إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي". وهذا بالضبط ما يحدث الآن.

فبعد أن استخدمت حق النقض (الفيتو) ضد إصلاحات الاتحاد الأوروبي اللازمة؛ ضمنت حكومات ميركل المتعاقبة انقسام أوروبا. وتدعو مؤسسة الإعلام الألماني الآن وزراء المالية إلى استدعاء الخبير الاقتصادي الإيطالي فاروفاكيس، الذي رفض الرئيس الإيطالي تعيينه وزيرا للمالية.

العلاقة السببية بين أزمتيْ ألمانيا السياسيتين لها أساس اقتصادي؛ إذ يدرك ترامب تماما أن ألمانيا ومنطقة اليورو تحت رحمته، وذلك بسبب اعتمادهما المتزايد على الصادرات الصافية الكبيرة إلى أميركا ودول أخرى. وقد نما هذا الاعتماد بلا هوادة نتيجة لسياسات التقشف التي جُرِّبت لأول مرة في اليونان، ثم نُفذت في إيطاليا وأماكن أخرى

هذا اللقب يحجب اختلافًا جوهريًا: كنتُ أرغب في إبقاء اليونان في منطقة اليورو على نحو مستدام، وعارضت زعماء ألمانيا من أجل إعادة هيكلة الديون التي من شأنها أن تجعل ذلك ممكنا. وبعد تدمير حكومتنا الأوروبية في صيف 2015؛ زرعت ألمانيا بذور الحصاد المرير اليوم، حيث تحلم الأغلبية في البرلمان الإيطالي بالخروج من اليورو.

إن العلاقة السببية بين أزمتيْ ألمانيا السياسيتين لها أساس اقتصادي؛ إذ يدرك ترامب تماما أن ألمانيا ومنطقة اليورو تحت رحمته، وذلك بسبب اعتمادهما المتزايد على الصادرات الصافية الكبيرة إلى أميركا ودول أخرى. وقد نما هذا الاعتماد بلا هوادة نتيجة لسياسات التقشف التي جُرِّبت لأول مرة في اليونان، ثم نُفذت في إيطاليا وأماكن أخرى.

ولفهم هذه العلاقة؛ ينبغي التذكير بإصرار ألمانيا على "الميثاق المالي" للقضاء على عجز الميزانية الهيكلية كشرط للموافقة على تقديم القروض لإنقاذ الحكومات والبنوك المتعثرة. كما نلاحظ أن حملة التقشف الأوروبية هذه تمت على خلفية وفورات فائضة ضخمة على الاستثمار.

وأخيراً؛ يجب علينا أيضًا الانتباه إلى الكم الهائل من المدخرات المفرطة والميزانيات الحكومية المتوازنة التي تمثل فائضًا تجاريًا ضخمًا، وهو ما يؤدي بالتالي إلى اعتماد ألمانيا وأوروبا -بشكل متزايد- على صافي الصادرات الضخمة إلى أميركا وآسيا.

وبعبارة أخرى؛ فإن السياسات غير المؤهلة ذاتها التي أدت إلى ظهور الحكومة الإيطالية المعادية للأجانب والمناهضة لأوروبا، عززت أيضاً سلطة ترامب على ميركل.

لقد أدى عدم قدرة أوروبا على حل مشاكلها الخاصة إلى ظهور أغلبية إيطالية جديدة تخطط لإزاحة نصف مليون مهاجر، مما سيؤدي بدوره إلى تعزيز العنصريين المتشددين في هنغاريا وبولندا وفرنسا وبريطانيا وهولندا، وبالطبع ألمانيا نفسها.

وفي هذه الأثناء، ولأن أوروبا أضعف من أن تقهر ترامب؛ ستهدف الولايات المتحدة إلى إجبار الصين على تحرير قطاعيها المالي والتكنولوجي. وإذا نجحت أميركا في القيام بذلك؛ فسيتدفق ما لا يقل عن 15٪ من الدخل القومي الصيني إلى خارج البلاد، مما يعزز القوى الانكماشية التي توّلد الوحوش السياسية في أوروبا والولايات المتحدة.

كل هذا كان متوقعا بل إنه في الواقع تم التنبؤ به؛ ولذا لا ينبغي أن يفاجَأ الناس بالوضع الذي تجد فيه ميركل وأوروبا نفسيهما اليوم. لكن المجانين الخطيرين فقط هم من سيحتفلون بذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.