التجربة التونسية بين الانتخاب وشبح الانقلاب

تحذيرات من تأجيل الانتخابات البلدية بتونس

تجربة الانتخابات البلدية
تربص الدولة العميقة
فرص المنوال الانقلابي 

تعيش التجربة الثورية التونسية -أو ما بقي منها- على إيقاع الموعد الانتخابي الأبرز، والمتمثل في الانتخابات البلدية (مايو/أيار المقبل) التي حام شك كبير حول إمكانية انعقادها، ولا تزال تشكل محور التجاذب بين القوى التي أفرزها المسار الثوري في تونس.

وتشكل الانتخابات البلدية آخر المستويات في السلم الانتخابي بعد المستويين الرئاسي والتشريعي، وتتعلق أساسا بأدوات الحكم القاعدية؛ لأنها تشكل وجه السلطة في العمق العميق للدولة على المستوى المحلي. فبعد الانتخابات الرئاسية، وبعد الانتخابات التشريعية لأعضاء البرلمان؛ تستعد تونس للموعد الانتخابي الأخطر على الإطلاق، لأنه سيحدد فعلا مصير التجربة التونسية أو جزءا كبيرا من مصيرها.

ولا تتأتى خطورة الموعد من المسار الانتقالي نفسه ولا من العودة المظفرة لرجال الدولة العميقة إلى المشهد اليوم، ولكنها تتأتى أساسا من القيمة الحقيقية للانتخابات القاعدية، بما هي أدوات الحكم المحلي المباشرة وتواجه أدوات الدولة العميقة في قاعدة البناء الاجتماعي.

تجربة الانتخابات البلدية
البلدية هي المجال الأصغر لممارسة الحكم والسلطة؛ فحاكم المدينة هو المجلس البلدي، ورئيسه هو المشرف على الجانب الإداري والتنظيمي للمدينة. قد تختلف التسميات بين المدن والقرى، فحاكم القرية أو المدينة يشبه تقريبا عمدة المدينة، أو حاكمها الإداري المدني لا الأمني ولا العسكري.

التجربة الانتخابية أقرب التجارب الانتخابية صلة بالمواطن، لأنها تتعلق بالوجه المباشر لحياته اليومية وبتطبيق القانون، وبالسيطرة على الثروات وتوزيعها، وبتطبيق العدالة ومنظومة الخدمات على المستوى الأصغر للدولة. ولذلك فإن فرز القوى القاعدية التي ستحكم المفاصل الصغرى للدولة هي في الحقيقة أمّ المعارك في كل مسار يبحث عن بناء دولة القانون والحرية والكرامة

وبناء على هذا المفهوم تكون هذه التجربة الانتخابية أقرب التجارب الانتخابية صلة بالمواطن، لأنها تتعلق بالوجه المباشر لحياته اليومية وبتطبيق القانون، وبالسيطرة على الثروات وتوزيعها، وبتطبيق العدالة ومنظومة الخدمات على المستوى الأصغر للدولة. ولذلك فإن فرز القوى القاعدية التي ستحكم المفاصل الصغرى للدولة هي في الحقيقة أمّ المعارك في كل مسار يبحث عن بناء دولة القانون والحرية والكرامة.

إن معركة الحكم المحلي هي امتلاك القدرة على تسيير الجزء الأصغر من الدولة والمجتمع، أي تثبيت قدرة الدولة على تطبيق سياستها في أصغر مكونات المجتمع. ولذا فإن الدولة الجديدة ستواجه مكونات النظام القديم على أرضها، أو ما يسمى الفساد الأصغر الذي هو أخطر أنواع الفساد، وأشدها فتكا بالخلايا الصغرى المكونة للمجتمع والدولة..

إن أخطر جولات معركة إقامة دولة القانون والمؤسسات (الحقيقية لا المزيفة) إنما تتمثل في مواجهة الفساد الأصغر، الذي يهيمن على الأجزاء الصغرى للمدن والقرى والبلدات التي تكون عادة بعيدة عن أعين السلطة المركزية.

إن بناء الدولة وتحريرها لا يتم إلا عبر تحرير الأجزاء بما هي القطع المكونة للمجموع، وبما هي فتح للمواجهة مع المشاكل الحقيقية التي تواجه المواطن يوميا، بعيدا عن الشعارات الجوفاء وبعيدا عن الإيهام بالتنمية والتطوير.

لكن هذه التجربة تواجه تحديات كبيرة؛ يتمثل أولها وأخطرها في منع إجراء الانتخابات نفسها، وهو ما قد يهدد تجربة الانتقال الدمقراطي في تونس، أو يؤدي لإجرائها في إطار تقاسم للنفوذ بين قطبيْ الائتلاف الحاكم، بشكل يعيد تشكيل المنظومة القديمة بطلاء ثوري.

هناك معطيات كثيرة تفسر هذه التهديدات؛ لعل أولها هو تمكّن قوى الثورة المضادة من تنظيم صفوفها بعد أن استطاعت امتصاص الموجة الثورية الأولى، ونجحت في التشويش على القوى الثورية مستفيدة من عوامل كثيرة داخليا وخارجيا محليا ودوليا.

اليوم يكاد النظام القديم في تونس يتجدد ويجدد حضوره في المشهد السياسي خاصة، لكن دون القدرة على إلغاء الواقع الثوري الجديد الذي فرض حرية التعبير والتنظّم خاصة. إن الثورة التونسية حاضرة في الواقع والوعي والخطاب، رغم كل الضربات القاصمة التي وجهتها لها الثورة المضادة منذ ما يزيد على سبع سنوات.

تربص الدولة العميقة
لكن قوى الدولة العميقة التي نجحت -عبر عقود- في تأسيس سلطتها ونفوذها وثروتها على طول هرم السلطة، بدءا برئاسة الدولة ووصولا إلى البلديات والأحياء والقرى الفقيرة؛ لا تزال تقاوم بشراسة بحثا عن إلغاء المنجز الثوري وطي صفحة التجربة الثورية، جريا على منوال دول عربية كثيرة أهمها المنوال المصري.

لقد امتدت منظومة الحكم الاستبدادي -في عهد الوكيلين الاستعماريين: الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي– لتشمل عمق العمق التونسي، حيث صنع المستبدان منظومة متكاملة من الوشاة والمخبرين والمسؤولين، الذين لا هم لهم إلا مراكمة الثروات ونهب المال العام وسلب أراضي الدولة.

هناك تهديدات للتجربة الثورية التونسية لعل أولها هو تمكّن قوى الثورة المضادة من تنظيم صفوفها بعد أن استطاعت امتصاص الموجة الثورية الأولى، ونجحت في التشويش على القوى الثورية مستفيدة من عوامل كثيرة داخليا وخارجيا محليا ودوليا. اليوم يكاد النظام القديم في تونس يتجدد ويجدد حضوره في المشهد السياسي خاصة، لكن دون القدرة على إلغاء الواقع الثوري الجديد الذي فرض حرية التعبير والتنظّم خاصة

كانت البلديات ولا تزال وكر الفساد الحقيقي في تونس؛ حيث كانت معايير التوظيف فيها تخضع أساسا للولاء للحزب الحاكم، والقدرة على خدمة منظومة الفساد وتكوين الشبكات التحتية لنظام القمع المحلي.  وليس خراب البنية التحية ودمار المرافق الحيوية، وانهيار كل البنى وأنظمة الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية في تونس؛ إلا بسبب الفساد الكبير الذي عشّش داخل البلديات.

لقد اندلعت الثورة التونسية في العمق التونسي العميق، وانطلقت من أمام مقرات الحكم المحلي ممثلة في البلديات والمحافظات الداخلية، لكي تؤكد طبيعة الحركة الثورية واتجاهها باعتبارها حركة عمودية، تنطلق من الأسفل إلى الأعلى حتى أطاحت برأس الهرم.

البلديات إذن هي آخر معاقل الدولة العميقة وأكثرها حصانة بحكم عمقها، وبحكم بُعدها عن الممارسة المباشرة للسلطة في صيغتها الكلية الشمولية.

البلديات في تونس وخاصة في المناطق البعيدة هي أشبه بالمحميات العائلية، وبنطاق العصابات القاعدية التي حولت السلطة المحلية فيها إلى أدوات للفساد والنهب باسم القانون، فشكلت غطاء سميكا من النفوذ الذي نسج على مدى عقود من الفساد والاستبداد ثقافةً كاملة من الموت البطيء.

أخبار كثيرة من داخل تونس وخارجها تتحدث عن مشاريع انقلابية على التجربة الوليدة، سواء بأدوات داخلية أو بأدوات دولية أو بكلا النوعين. وليست التسريبات الأخيرة المتعلقة بأموال خليجية -وتحديدا إماراتية- ضُخّت لصالح قوى وأحزاب وشخصيات تونسية بعينها، إلا جزءا يسيرا من محاولات مستمرة لإلحاق مهد الربيع العربي ببقية التجارب العربية، وجعله ساحة للموت والتدمير مثل سوريا واليمن ومصر.

إن الحملة المسعورة التي واجهتها "هيئة الحقيقة والكرامة" -بما هي إطار العدالة الانتقالية في تونس- تشكل شاهدا مهما على رغبة قوى الثورة المضادة في الإجهاز على المنجز الثوري، وإفراغ الثورة من مضامينها.

فرص المنوال الانقلابي
ومن جهة أخرى؛ يذكرنا التاريخ القريب بخطورة الانتخابات البلدية في المنظومات الاستبدادية. فتجربة الجزائر -القريبة من تونس- تذكّر بالانقلاب العسكري الدامي على الدورة الثانية للانتخابات البلدية، التي فاز الإسلاميون فيها فوزا كاسحا، ثم تحولت التجربة إلى عشرية دامية (العشرية الحمراء) قتل فيها أكثر من ربع مليون جزائري، واختفى عشرات الآلاف من الجزائريين الذين لا يزالون في عداد المفقودين إلى اليوم.

صحيح أن السياق اليوم يختلف بسبب مسار الربيع وثوراته السلمية، لكن توحش الاستبداد العربي وجرائم المنظومات الاستبدادية لم تزدد إلا دموية وعنفا.

ففي مصر؛ لم يتردد النظام الانقلابي العسكري هناك في حرق المتظاهرين في الشوارع. وفي سوريا؛ لا يزال النظام الطائفي يُمعن في قتل شعبه بمساعدة قوى دولية وبمباركة أممية وعربية، تتجلى في الصمت المطبق عن جرائم فاقت في وحشيتها كل الجرائم المرتكبة عبر التاريخ.

إذا كان من الصعب التنبؤ بمصير التجربة بسبب كثرة العوامل والمؤثرات؛ فإن الثابت الأكيد هو أنّ استعادة المنوال الاستبدادي -كما كان في عهد الرئيس الهارب بن علي- تعتبر ضربا من المحال. ولا يبقى إذن للدولة العميقة إلا السعي لاكتساح أكبر مساحة ممكنة من نطاق السلطة والمجتمع، في مواجهة موجات الوعي الثوري التي لا تزال تعمل على منع الدولة العميقة من تحقيق ذلك

كل شيء ممكن إذن في تونس، وهو ما تعيه النخب الثورية هناك لأن أعداء الثورات وعرّابي الثورات المضادة في المنطقة وخارجها لن يسمحوا بقيام نموذج سياسي عربي متوازن، يخرج عن نسق الاستبداد المعتاد في بقية حواضر الأنظمة الدكتاتورية.

خطورة المنوال التونسي ليست في نفسه بل في غيره، أي في قدرته على أن يغري غيره -مثلما أغراهم ثوريا- بالنسج على منواله، وهو ما يهدد أطماع الكثيرين ويهدد نفوذهم وعروشهم.

لكن الأخطر ليس الإطاحة بالتجربة التونسية فهذه أسهل المهمات، خاصة بعد أن أثبتت التحقيقات -في الداخل والخارج- حجم الاختراق الذي تعاني منه الدولة بسبب شبكات التجسس والتخريب، وتعاني منه القوى الداخلية التي أثبت الكثير منها -عبر منصات إعلام الدولة العميقة- أنه مستعد لبيع البلاد، وتدمير التجربة الوليدة من أجل الوصول إلى السلطة.

بل الخطر الكبير يكمن في إدارة ما بعد الانقلاب؛ فهل سيسمح العرّاب الدولي بدفن آخر التجارب الثورية العربية؟ وهل تستطيع قوى الدولة العميقة الوقوف أمام ملايين العاطلين والفقراء وجحافل المسحوقين الذين ليس لديهم ما يخسرونه؟ وهل يستطيع الانقلابيون تحمل تبعات حمام دم تونسي جديد؟ وهل ستسمح أوروبا بالعبث في حديقتها الخلفية بشكل يهدد أمنها واستقرارها؟

كل هذه الأسئلة وغيرها تجعل مجرد التفكير في تدمير الثورة التونسية انقلابيا لعبا بالنار، لا بسبب التجربة في حدّ ذاتها بل بما يمكن أن تنتجه المغامرة من عواقب وخيمة على الدولة العميقة وأعوانها.

وإذا كان من الصعب التنبؤ بمصير التجربة بسبب كثرة العوامل والمؤثرات؛ فإن الثابت الأكيد هو أنّ استعادة المنوال الاستبدادي -كما كان في عهد الرئيس الهارب بن علي- تعتبر ضربا من المحال. ولا يبقى إذن للدولة العميقة إلا السعي لاكتساح أكبر مساحة ممكنة من نطاق السلطة والمجتمع، في مواجهة موجات الوعي الثوري التي لا تزال تعمل على منع الدولة العميقة من تحقيق ذلك.

إن هذا الصراع بين شراسة القديم الساعي للعودة وتشبث الجديد في سبيل تأصيل مبادئ ثورته؛ هو الذي سيحدد وحده مستقبل أهم نماذج ربيع الشعوب التي تكاد تحقق الشعارات التي انطلقت لأجلها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.