هل يخوض الغرب حربا باردة أحادية الجانب؟

epa05755132 US President Donald J. Trump (R), with British Prime Minister Theresa May (L), delivers remarks during a joint press conference in the East Room of the White House in Washington, DC, USA, 27 January 2017. Prime Minister May is the first foreign head of state to meet with President Trump at the White House. EPA/SHAWN THEW

لم تكن التوترات المتصاعدة بين بريطانيا وروسيا سوى دليل إضافي على أن العلاقة بين روسيا والغرب -وفقا للخبير المخضرم ريتشارد ن. هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية- دخلت حالة يمكن اعتبارها "حربا باردة ثانية". وأنا أميل إلى الاختلاف معه في هذا الرأي.

صحيح أن علاقات روسيا مع الولايات المتحدة -والآن مع بريطانيا أيضا- أصبحت أسوأ مما كانت عليه في الخمسينيات من القرن العشرين، وأصبح احتمال الصراع المباشر أعلى من أي وقت مضى منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962.

ونظرا للتعقيد الذي تتسم به الأسلحة النووية الإستراتيجية والأنظمة المصممة لتحييدها اليوم؛ لا يستطيع المرء أن يستبعد احتمال استفزاز التصعيد بسبب تصرف جهة ما على أي من الجانبين، أو طرف ثالث.

وما يزيد الطين بلة هو أن الاتصالات بين قادة الولايات المتحدة وروسيا منقطعة، بسبب الافتقار إلى الثقة على الجانبين؛ فبين الأميركيين تقترب المشاعر تجاه روسيا من الكراهية، وينظر كثيرون في روسيا الآن إلى الأميركيين بازدراء.

رغم أن سيكولوجية العلاقات الثنائية بين أميركا وروسيا أسوأ حقا مما كانت عليه أثناء الحرب الباردة؛ فإن هذا لا يعني أن توترات اليوم ترقى إلى استئناف للحرب الباردة، فمثل هذه المواجهة تتطلب توفر المكون الإيديولوجي الذي يغيب تماما على الجانب الروسي. والواقع أيضا أن روسيا ليست لديها النية لشن حرب باردة أخرى

والواقع أن هذه الخلفية السيكولوجية للعلاقات الثنائية أسوأ حقا مما كانت عليه أثناء الحرب الباردة. لكن هذا لا يعني أن توترات اليوم ترقى إلى استئناف للحرب الباردة، فمثل هذه المواجهة تتطلب توفر المكون الإيديولوجي الذي يغيب تماما على الجانب الروسي. والواقع أيضا أن روسيا ليست لديها النية لشن حرب باردة أخرى.

ورغم أن درجة ما من المواجهة مع الولايات المتحدة ستساعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على توحيد الرأي العام وتصقل أوراق الاعتماد القومية للنخب الروسية؛ فإن روسيا ليست دولة تحركها دوافع إيديولوجية. فكل ما لديها من إيديولوجية يستند إلى الثقافة والحضارة الروسية، وهي غير مهتمة بتصديرها. والكرملين لا يفضل -في حقيقة الأمر- التبشير بالنيابة عن روسيا.

ولطالما تمحور النهج الروسي -في التعامل مع الشؤون الدولية- حول احترام المصالح الوطنية والسيادة، والاعتقاد بأن كل الشعوب والأمم ينبغي لها أن تتمتع بالحرية في اتخاذ قراراتها السياسية والاقتصادية والثقافية. كما تحتضن روسيا القيم الإنسانية العالمية كالثقة في الرب، والأسرة، والوطن، فضلا عن تحقيق الذات بخدمة المجتمع والأمة.

وأنا أتمنى لو كان حتى 2% من الاتهامات بشأن "التدخل" الروسي في الانتخابات الأميركية عام 2016 صحيحة؛ فإن هذا من شأنه أن يعزز من احترامي لذاتي كمواطن روسي، في حين يثقف الأميركيين -الذين دأبت حكومتهم على التدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى- بمخاطر إلقاء الحجارة من بيت من زجاج.

لكن المشكلة بين روسيا والغرب هي -في حقيقة الأمر- مشكلة بين الغربيين أنفسهم؛ إذ تستخدم المؤسسة الأميركية فزاعة التدخل الروسي لاستعادة سيطرتها السياسية المفقودة، وخاصة في عالَم وسائط التواصل الاجتماعي، حيث وجد السكان الساخطون والساسة المستقلون الأحرار صوتا لهم أخيرا.

ولكن حتى لو تمكنت النخب الأميركية من استعادة السيطرة، فسيظل المصدر الأعمق للرهبة والخوف الغربي قائما؛ فعلى مدار العقد المنصرم -على الأقل- شهد العالَم الفصل النهائي من هيمنة الغرب التي دامت خمسمئة عام.

فقد بدأ الأمر في القرن السادس عشر عندما طورت أوروبا الأسلحة النارية والسفن الحربية وبدأت توسعها الإمبراطوري. وفي القرون التالية، استخدم الأوروبيون هيمنتهم الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية -بشكل خاص- لنهب ثروات العالَم.

وعلى مدار بضعة عقود في النصف الثاني من القرن العشرين؛ تحدى الاتحاد السوفياتي والصين موقف الغرب المهيمن. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؛ برزت الولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة الوحيدة، وبدا الأمر وكأن العالَم يعود إلى وضعه الراهن التاريخي.

ولكن سرعان ما أفرطت الولايات المتحدة في التوسع والامتداد عبر الانغماس في مغامرات جيوسياسية مأساوية مثل غزو العراق. ثم جاءت الأزمة المالية عام 2008 لتكشف نقاط الضعف التي تعيب رأسماليةالقرن الواحد والعشرين.

تشير التقديرات الأولية إلى أنه حتى لو قررت الولايات المتحدة شن حرب باردة من جانب واحد؛ فإن فرصها ضد روسيا والصين والقوى الناشئة الأخرى لن تكون جيدة للغاية. فقد تحول ميزان القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية ببساطة بعيدا عن الغرب، إلى الحد الذي يجعل عكس اتجاه هذا التحول مستحيلا

وفي الوقت نفسه، دأبت الولايات المتحدة على متابعة التفوق العسكري. وفي عام 2002، ألغت من جانب واحد معاهدة الصواريخ المضادة للقذائف الباليستية (الذاتية الدفع). وفي وقت قريب؛ شرعت في تكديس كميات هائلة من القوات التقليدية، وتحديث ترسانتها النووية على نطاق واسع.

ومع ذلك، لن تسمح روسيا والصين وبقية العالَم بالعودة إلى الهيمنة الأميركية. وقد أوضح بوتين هذا الأمر مؤخرا بإزاحة الستار عن عدد من أنظمة التسليح الإستراتيجي المتطورة الجديدة، كجزء مما قد أسميه "إستراتيجية الردع الوقائي".

وكان ملخص الرسالة أن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تأمل استعادة التفوق العسكري المطلق، حتى إذا قررت استنزاف نفسها في سباق تسلح، كما فعل الاتحاد السوفياتي من قبل.

وتشير التقديرات الأولية -التي توصلتُ إليها مع زملائي مؤخرا- إلى أنه حتى لو قررت الولايات المتحدة شن حرب باردة من جانب واحد؛ فإن فرصها ضد روسيا والصين والقوى الناشئة الأخرى لن تكون جيدة للغاية. فقد تحول ميزان القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية ببساطة بعيدا عن الغرب، إلى الحد الذي يجعل عكس اتجاه هذا التحول مستحيلا.

ومع ذلك، فإن الحرب الباردة الجديدة -حتى وإن كانت أحادية الجانب إلى حد كبير- قد تكون بالغة الخطورة على البشرية. وينبغي للقوى الكبرى في العالَم أن تركز على تعزيز الاستقرار الإستراتيجي الدولي بالحوار؛ وإعادة فتح قنوات الاتصال بين المؤسسات العسكرية؛ واستعادة قدر من الكياسة والرشاقة للتفاعلات الجارية بينها.

كما ينبغي لنا أن نفكر في إقامة المزيد من التبادلات الدبلوماسية والتشريعية والأكاديمية والتثقيفية. وبأهمية أكبر، يتعين علينا أن نكف عن شيطنة بعضنا بعضا.

الواقع أن العالَم يدخل فترة بالغة الخطورة؛ ولكن إذا تحرينا الحكمة في تصرفاتنا، فإننا نستطيع أن نعمل سويا على بناء نظام دولي أكثر توازنا: نظام تردع بموجبه القوى الكبرى بعضها بعضا في حين تتعاون على حل المشاكل العالمية.

ومن ناحية أخرى؛ ستصبح الدول الأصغر حجما أكثر تحررا وقدرة على التطور، وفقا لأفضلياتها السياسية والثقافية والاقتصادية. لقد انهار النظام السابق الذي قاده الغرب؛ ولضمان مستقبل سلمي، يتعين علينا أن نبدأ العمل معا لبناء نظام جديد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.