الأستار الاصطناعية التي أسقطتها قطر بالتصدي للتحدي

Bahraini Foreign Minister Sheik Khalid bin Ahmed Al Khalifa (L) walks in to a press conference as Saudi Foreign Minister Adel bin Ahmed Al-Jubeir, Egypt's Foreign Minister Sameh Shoukri and United Arab Emirates Foreign Minister, Sheikh Abdulla bin Zayed bin Sultan Al Nahyan follow him for a joint press conference after the foreign ministers of Saudi Arabia, Bahrain, the United Arab Emirates and Egypt meeting to discuss their dispute with Qatar, in Manama, Bahrain July 30, 2017. REUTERS/Hamad I Mohammed TPX IMAGES OF THE DAY

مع تعدد الأستار الاصطناعية التي أسقطتها قطر بتصديها الناجح للحصار المتعسف؛ فإننا سنكتفي -في هذا المقال- بثلاثة منها تمثل طيفها الواسع، وسنبدأ مباشرة بالستار الأول الذي قدمته دول الحصار للرأي العام مبررا لشروعها المباغت والحاشد في التعدي على قطر وسياستها وسيادتها، ثم سرعان ما انكشف هذا الستار وواصل الانكشاف بفضل الصمود القطري.

حمل هذا الستار المصطنع لافتة ظنها من لجؤوا إليها جذابة الملامح بينما هي خاوية المضمون، كانت هذه اللافتة تقول بحماية الأمن الداخلي لتلك الدول من جماعات تريد التغيير أو التثوير.

وهو ستار أصبحت الحكومات ترفعه لمحاربة بعض المعارضين السياسيين غير المسلحين (والذين هم جزء من نسيج المجتمع) تحت دعاوى كثيرة، منها الحرص المفرط على سلامة الجبهة الداخلية، ومنها ضرورة محاربة العمالة المستترة للأعداء التقليديين… إلخ.

وقد تضخم هذا المصطلح وتغوّل ليحل محل حماية الوطن نفسه (حدودا وأرضاً)، وبات الساسة المحدثون في الأوتوقراطيات سعداء بعثورهم عليه وتوظيفه، وتمادوا فألبسوه من باب التعنت الثوب العالمي لمكافحة الإرهاب، ظنا منهم أن هذه المغامرة كفيلة بخداع مضمون و طويل المدى للغرب.

من حسن حظ قطر (وصعوبته أيضا) أنها وجدت نفسها مرة واحدة في مواجهة مع كل هذه الانفلاتات، وقد تبلورت الأزمة -لحسن الحظ القطري- في اتهام رباعية الحصار للدوحة بأنها لا تواكب المحاصِرين في انفلاتاتهم غير المنطقية التي يظنونها ضرورية من أجل الأمن، وفي تصويرهم التقاصر عن الاشتراك في هذا الانفلات على أنه قد يمثل تقصيراً خفيا في حق أمن الخليج العربي والأمن العربي عامة

لكن هذا المصطلح المبتدع اضطر نفسه -بحكم لا منطقيته- إلى أن يصور حالة من تحويل فزع السلطة على نفسها تصويرا مختلقا، يحولها إلى فزع على شيء يتعلق بالوطن نفسه؛ وهو شيء مختلف بالطبع عن الأرض والحدود.

ثم وصل الأمر -في تجليات الدكتاتورية العسكرية- بإحدى دول الحصار أن انقلبت الآية، فتم التنازل عن بعض أرض الوطن ليكون ثمنا لازما من أجل بقاء أهل السلطة في السلطة، وهكذا فاق الاهتمام بالفرع (المؤقت) الاهتمام بالأصل (الأبدي) فحل محله مضحيا ببعض الوطن نفسه من أجل الكرسي.

من المعروف أن بناء الدولة -أية دولة- يتضمن مؤسسات ثابتة ودائمة وراسخة، من أجل القيام بمثل هذه المهمة المعنية بأمن الوطن، سواء سميت هذه المؤسسات بالأمن الداخلي أو الأمن الوطني أو الأمن القومي أو أمن الدولة. وتوفر كافة الدول لهذه المؤسسات صلاحيات تشريعية واسعة لكنها ذات سقف محدد، وقد يسمح الساسة والزعماء برفعه لكن نجاحهم الحقيقي يتمثل في قدرتهم على خفضه.

يعود السبب في هذا الفهم الذكي والعميق لضرورة تحجيم سلطات الأمن -رغم توسيع نطاقها- إلى ما أثبتته التجارب التاريخية في كل الثقافات والمدنيات بلا استثناء، من خطورة تغوّل سلطة الأمن الداخلي أو توسع صلاحياتها؛ ذلك أن رفع سقف صلاحيات أجهزة الأمن الداخلي يستصحب محظورين في غاية الخطورة:

– أولهما هو نشأة ما يسمى الدولة الخفية أو دولة داخل دولة، وهي آلية كفيلة بانتقال السلطة إلى غير صاحبها على مرحلتين، الأولى انتقالها فعلا دون اسم، ثم الثانية الحتمية وهي انتقالها فعلا وقولا، بما يعني -دون مبالغة- ما يسمى في السياسة الانقلاب الداخلي.

– أما المحظور الثاني فهو الانفلات القيمي الذي يصحب السلطة المفرطة بطريقة تلقائية؛ وإذا كان الشائع في عالمنا العربي الآن هو أن هذا الانفلات يرتبط بفساد مالي، فإن الصورة الأكثر حضورا له في التاريخ المعاصر كانت قد ارتبطت بما تواتر عن التجاوزات التي اتخذت صورة الانحرافات الجنسية في المخابرات المصرية.

وكذلك الانحرافات السيكولوجية المرتبطة بالسادية في المخابرات السورية، أو المغامرات المنفلتة التي سجلها التاريخ المعاصر باسم القذافي. ولا تختلف كل هذه التجاوزات في كينونتها المتمركزة، ولا في سببها الجوهري وهو إفراط السلطة، كما أنها لا تختلف في هدفها النهائي وهو إثبات الأنا: الأنا السفلية (لا العليا) خصوصا.

من حسن حظ قطر (وصعوبته أيضا) أنها وجدت نفسها مرة واحدة في مواجهة مع كل هذه الانفلاتات، وقد تبلورت الأزمة -لحسن الحظ  القطري- في اتهام رباعية الحصار للدوحة بأنها لا تواكب المحاصِرين في انفلاتاتهم غير المنطقية التي يظنونها ضرورية من أجل الأمن، وفي تصويرهم التقاصر عن الاشتراك في هذا الانفلات على أنه قد يمثل تقصيراً خفيا في حق أمن الخليج العربي والأمن العربي عامة.

بل وصل الأمر إلى حد القول بأن سماح قطر بالرأي الآخر هو في حد ذاته فتنة، وأن إجارتها لبعض المظلومين يمثل خروجا على نص كتالوج الظلم الكامل المستوعب، الذي تريد له دول الحصار أن يكون تاما ومحكَما حتى لا تكون فيه أية ثغرة لمظلوم.

كانت نتيجة الصمود القطري أن عقليات الشعوب العربية أدركت للمرة الأولى -بكل وضوح- أن الشعار الذي ترفعه بعض الدكتاتوريات الجمهورية -متحدثة عن حماية الأمن القومي- لا يعني في مفهومها العملي إلا شيئا واحدا هو حماية فساد السلطة الوطنية العسكرية أو المتعسكرة، أما الأمن القومي والأمن الوطني فإنهما شعاران يُستدعَيان كساتر يستر أسرار ومظاهر فساد ا

صمدت قطر في وجه هذه الاتهامات صمودا باهرا لم يكن متوقعا بالحسابات المادية، لكنه لم يكن غريبا على صاحب المبدأ الذي آمن بمبدئه. ومع أن هذا الصمود لم يكن متوقَّعا عند الذين تورطوا في تأييد السماح بالحصار من قبيل الرئيس الأميركي؛ فإنه لم يكن مخالفا لتاريخ قطر الحديث والقديم على حد سواء.

لكن الأهم من هذا كله أن هذا الصمود الإيجابي -غير المنفعل وغير المتشنج- كان مفاجئا للذين اعتقدوا في غفلة من الضمير (ولا نقول في غفلة من الزمن) أن نفوذهم المالي قادر على تغيير المبادئ، بعدما أثبت نجاحا متكررا في تغيير بل وبناء بعض المواقف.

كانت نتيجة الصمود القطري أن عقليات الشعوب العربية أدركت للمرة الأولى -بكل وضوح- أن الشعار الذي ترفعه بعض الدكتاتوريات الجمهورية -متحدثة عن حماية الأمن القومي- لا يعني في مفهومها العملي إلا شيئا واحدا هو حماية فساد السلطة الوطنية العسكرية أو المتعسكرة، أما الأمن القومي والأمن الوطني فإنهما شعاران يُستدعَيان كساتر يستر أسرار ومظاهر فساد السلطة.

ننتقل سريعا إلى الساتر الثاني الذي تمكّن التصدي القطري الناجح للحصار الظالم من كشفه، وهو ستار أعقد مضمونا لأنه رفع شعارا مهيبا له وهو القول بدعوى حماية العقيدة، وهي دعوى لعبت بنجاح ساحق دورا اجتماعيا ومجتمعيا جوهريا وباهرا، وكان هو دورها -طيلة عشرات السنين- في حماية نظام قابض على السلطة، محققا الاستقرار بفضل تطبيقه لكثير من حذافير مذهب فقهي إسلامي.

لا شك في أن حظ هذه الدعوى من النجاح -فيما قبل الحصار وما واكبه- كان مؤنقا وموثقا، وكان نجاحها كفيلا بأن يحمي منظومة دولة شاسعة الأرجاء من انتشار الجريمة بفضل تطبيق الحدود الرادعة.

وكان نجاحها كفيلا بأن يحمي تلك الدولة من فقدان السيطرة المركزية مع اعتمادها التام على ما توفره هذه الخاصية، وقد ظل نظام هذه الدولة الكبيرة محافظا تماما على صورته الملتزمة بالدين، رغم ما كان هذا الحفاظ الصارم والجاد  على تجليات الصورة الملتزمة يسببه لها من انتقاد هنا أو نفور هناك.

كان هذا الساتر (ساتر الالتزام الديني) قويا مانعا محصنا وغير قابل للاختراق،  فإذا به -في ظل الهوى الجامح الموجّه ضد قطر- يصاب باهتزازات قيمية ونوعية وكمية.

وإذا بهذه الاهتزازات تتوالى وتتكرر لسبب أو هدف واحد، وهو الاندفاع المحموم إلى الرغبة في نجاح حصار قطر بأي ثمن، وما تتطلبه هذه الرغبة من الحرص على تلبية ما تفرضه متطلبات الحصار بداية من غض للبصر عن التآمر، وحتى المشاركة الخفية أو المخفية فيه.

وحين بدأت قطر تحقق نجاحا مبكرا في تفعيل سياسات التصدي للحصار؛ وجدت الدول المحاصِرة أنها لا بد لها من أن تزيد المساحة التي  تتنازل بها عن بعض سمات هويتها، لتبدو إلى اليسار من قطر فيما يتعلق بقضايا التحديث والتطوير والحداثة.

ومع وضوح عنصر الافتعال في هذا التوجه الطارئ؛ فإن حركة الجماهير العربية على الأرض العربية وغيرالعربية لم تتوافق بالقدر الكافي مع ما كان مطلوبا لإثبات تنامي مظاهر حداثية  للمحاصِرين، أو تطورهم الفكري في القضايا المجتمعية في مقابل ما زعموه عن جمود قطر وتفريخها للإرهاب.

سرعان ما أثبتت الأيام عنصر المبالغة في تصوير إعلام السعودية لحقيقة الدوافع التي دفعت بها إلى ممارسة سياسة عقيمة كسياسة الحصار، وقد جاء هذا الإثبات متخذا صورة التثبيت ليمثل نتيجة حتمية للإلحاح الإعلامي، الذى هو سمة من سمات العصر التي لم تستوعبها السياسات العربية بالقدر الكافي حتى الآن

وإذا بالنتيجة النهائية تتلخص -بل وتتبلور- في تبديد متسارع لكل مقومات الاستثمار الديني الذي مارسته دول الحصار على مدى عشرات السنين الماضية، مع ارتباط ذلك بنتيجة عكسية لم تكن متوقعة مع أنها حقيقة: وهي الإقرار لقطر -دون غيرها- بالحداثة الاجتماعية والسياسية على حد سواء، جنبا إلى جنب مع حفاظ قوي على سلامة العقيدة واعتدال الالتزام الديني.

أما الساتر الثالث الذي انهار بسبب التصدي القطري الناجح للحصار، فكان هو ساتر الحاجة الخليجية إلى الأمومة السعودية، وقد انهار هذا الساتر بطريقة عجيبة وغير متوقعة؛ فقد تنازلت المملكة بطوع إرادتها عن هذه المكانة حين قبلت أن تترك موقع الحكَم لتكون طرفا.

وهو ما حدث تلقائيا حين قبلت بأن تنضم إلى الإمارات فيما كانت الأخيرة قد تبنته وخططت له من  انتهاج  سياسة عقاب جمعي لشعب عربي كريم، تحت دعوى الخوف من شق الصف والعمل على منع المضي في سياسات يمكن وصفها بهذه التهمة المفتراة.

بدا الأمر -في منظوره الفكري والسياسي- غريبا في مقصده، وملتبسا في تصوره، وكأن الخوف -الذي قد يكون مشروعا- من شق الصف لا يعالَج إلا بقطع النسيج كله، لا بشقه ولا برأبه. وهي سياسة لا يمكن وصفها إلا بأنها قصيرة النظر ولم تستكشف الأفق ولا التاريخ جيدا، ومن ثم فإنها لجأت -في عجلة من أمرها المبيّت للتآمر- إلى البدائل الخرقاء.

وسرعان ما أثبتت الأيام عنصر المبالغة في تصوير إعلام المملكة لحقيقة الدوافع التي دفعت بها إلى ممارسة سياسة عقيمة كسياسة الحصار، وقد جاء هذا الإثبات متخذا صورة التثبيت ليمثل نتيجة حتمية للإلحاح الإعلامي، الذى هو سمة من سمات العصر التي لم تستوعبها السياسات العربية بالقدر الكافي حتى الآن.

لكن هذا الإثبات سرعان ما تطور في اتجاهه الطبيعي غير المتوقع، وهو التوجه إلى حرمان المملكة مما كانت خاصية القصور الذاتي في السياسات العربية تتيحه من الاحتفاظ التقليدي بالدور الأبوي (أو الأمومي)، الذي ظلت حفية بأن تمارسه بوضوح منذ نشأ مجلس التعاون الخليجي، على نحو ما كانت تمارسه أيضا بودّ معلن ومشوب بالتودد الصادق فيما قبل ذلك طيلة سبعينيات من القرن الماضي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.