إعادة تعريف أوروبا والأوروبيين

File photo of a migrant taking a selfie with German Chancellor Angela Merkel outside a refugee camp near the Federal Office for Migration and Refugees in Berlin, Germany, September 10, 2015. Time magazine named German Chancellor Angela Merkel its 2015 "Person of the Year" on December 9, 2015, noting her resilience and leadership when faced with the Syrian refugee crisis and turmoil in the European Union over its currency this year. REUTERS/Fabrizio Bensch/Files

عندما يسافر المرء عبر ألمانيا خلال فترة التحضير السابقة للانتخابات الفدرالية في 24 سبتمبر/أيلول الجاري، لا يملك إلا أن ينتبه إلى علامات الصدمة العميقة الناتجة عن أزمة اللاجئين في عام 2015.

على نحو مفاجئ ودون سابق إنذار تقريبا، تدفق ما يقارب مليون شخص يائس -أغلبهم من السوريين الفارين من المذبحة في وطنهم- إلى ألمانيا. ورغم أن ألمانيا ربما تكون الدولة الأفضل إدارة بيروقراطياً في أوروبا، فإنها لم تسلم من الارتباك.

كانت استجابة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للأزمة قبل عامين هي التخلص من دليل القواعد وفتح حدود بلادها. وفي مناسبة شهيرة قالت ميركل للشعب الألماني: "نستطيع أن نفعل ذلك".

ستهيمن قضايا الهجرة واللاجئين على السياسة الأوروبية في السنوات المقبلة على نحو أو آخر. فأوروبا تحاول ببطء بناء القدرة على الصمود في مواجهة مثل هذه الصدمة التي شهدتها 2015. إنها القارة التي صدّرت ذات يوم الحرب والاضطرابات، ولكنها الآن راغبة في حماية نفسها من مشاكل جيرانها

لكن الرأي العام الألماني اليوم يشير إلى أن ألمانيا أصبحت أكثر تحفظا بشأن مثل هذه الإشارات الجريئة. صحيح أن ألمانيا فعلت ذلك، لأنها لم يكن لديها بديل؛ والعديد من الألمان فخورون ببلدهم لارتفاعه إلى مستوى الحدث. ولكن أغلبهم يأملون ألا تتكرر مثل هذه الأزمة مرة أخرى أبدا.

ورغم أن العديد من الألمان تقبلوا ما حدث قبل عامين، فإن أقلية صغيرة لا تزال تشعر بأنها كانت ضحية خيانة. وقد استجابوا بدواعي الغضب والقومية الكارهة للأجانب، وستنعكس هذه المشاعر على تصويتهم بلا أدنى شك.

ولكن ينبغي لنا أن نضع الصدمة التي أحدثتها أزمة اللاجئين بألمانيا في منظورها الصحيح. فقد كانت أعداد اللاجئين الذين بحثوا عن الحماية ووجدوها في دول مثل لبنان وتركيا أكبر كثيرا من أعدادهم في ألمانيا.

وبالحسابات النسبية، لو أرادت ألمانيا مضاهاة لبنان عام 2015 فإنها كانت ستضطر إلى قبول 20 مليون لاجئ. وفي تركيا، تستضيف إسطنبول وحدها الآن عددا من اللاجئين أكبر من مجموعهم في ألمانيا بالكامل.

بطبيعة الحال، ألمانيا ليست الدولة الأوروبية الوحيدة التي تظل غير مستقرة بسبب أزمة اللاجئين. ففي بلدي (السويد) من المرجح أن يحقق أي حزب سياسي يريد عزلنا عن بقية العالَم مكاسب قوية في الانتخابات العامة خلال العام المقبل. وفي العديد من دول أوروبا الوسطى -التي استعادت مؤخرا فقط حس السيادة- يُنظَر إلى اللاجئين على نطاق واسع باعتبارهم تهديدا للهوية الوطنية.

ستهيمن هذه القضايا على السياسة الأوروبية في السنوات المقبلة على نحو أو آخر. فأوروبا تحاول ببطء بناء القدرة على الصمود في مواجهة مثل هذه الصدمة التي شهدتها 2015. إنها القارة التي صدّرت ذات يوم الحرب والاضطرابات، ولكنها الآن راغبة في حماية نفسها من مشاكل جيرانها.

من الدروس المستفادة من عام 2015 أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى وضع سياسة خارجية وأمنية مشتركة وأقوى كثيرا. ويتعين على الاتحاد الأوروبي أن يستعيض عن الخطابة النبيلة بإجراءات ملموسة، في حين يتقبل أيضا مسؤولياته الإقليمية والعالمية.

فالأسلاك الشائكة بين المجر وصربيا لن تحمي أوروبا من آثار الحرب في أوكرانيا، أو الانقلابات والإرهاب في الأناضول، أو الدمار العنيف في بلاد الشام وبلاد الرافدين. ولن تساعد أوروبا في إدارة التحول الدرامي الجاري الآن في أفريقيا، التي ستصبح موطنا لنحو 40% من سكان العالَم الذين هم في سن العمل خلال بضعة عقود من الزمن.

من دروس 2015 أيضا أن الدول الأوروبية لا بد من أن تتعلم إعادة تعريف هويتها الوطنية. فقد بنيت الولايات المتحدة وأستراليا وكندا على الهجرة، وأغلبنا ننحدر من نسل أناس أتوا من أماكن أخرى. وفي الواقع، لم يتبق الكثير من "الأمم الأولى" في هذه البلدان. والآن بات ممكنا تماما أن يكون عدد السكان من أصل سويدي في شيكاغوأكبر من عددهم في ستوكهولم.

إذا كان لأوروبا أن توجد لنفسها مكانا في عالَم سريع التغير، فيتعين على مواطنيها أن يتعلموا كيف يستفيدون من الهويات المتعددة. فبوسع المرء أن يكون سويدياً فخورا وأوروبياً فخورا في نفس الوقت؛ وبوسع المرء أن يكون ألمانياً وتركياً في آن، وأن يستمد القوة من هذه الازدواجية

من المؤكد أن أوروبا تختلف عن نظيراتها الغربية؛ فقد ظلت قبائلها تتقاتل في ما بينها آلاف السنين. وعلى مدار القرنين المنصرمين، كان الأوروبيون حريصين على بناء الدول القومية والهويات الوطنية المتزايدة القوة، على أساس تجارب تاريخية طويلة ومعقدة.

وبطبيعة الحال، بُني الاتحاد الأوروبي ذاتُه بواسطة دول قومية. ولكن مواطني هذه الدول أرادوا أن يتغلبوا على إرثهم الطويل من القَبَلية والحرب. وإذا حكمنا على الأمر بهذا الهدف، فبوسعنا أن نقول إن نصف القرن الأول من عمر الاتحاد الأوروبي كان نجاحا هائلا.

غير أن التوترات بادية للعيان، وسواء كان ذلك مبررا أو لم يكن فإن الغرائز القَبَلية تعود إلى الظهور عندما يستشعر الناس تهديدا لهويتهم الوطنية. وفي نظر قِلة مرتعبة حقا، أصبحت كل من بروكسل ومكة تمثل تهديدا قاتلا.

إذا كان لأوروبا أن توجد لنفسها مكانا في عالَم سريع التغير، فيتعين على مواطنيها أن يتعلموا كيف يستفيدون من الهويات المتعددة. فبوسع المرء أن يكون سويدياً فخورا وأوروبياً فخورا في نفس الوقت؛ وبوسع المرء أن يكون ألمانياً وتركياً في آن، وأن يستمد القوة من هذه الازدواجية.

فليس من قبيل الغدر والعقوق أن يرى المرء نفسه مواطنا للعالَم. بل هو -على العكس تماما- موقف مشرف. والحق أن مثل هذا التحول في المواقف من شأنه أن يوفر الأساس لأوروبا مختلفة تماما؛ فبهذا نتحول بعيدا عن الصراعات والمخاوف القَبَلية القديمة، ونعتنق مستقبلا رقميا متشابكا.

قالت أنجيلا ميركل -التي من المرجح أن تُنتخَب مستشارةً لألمانيا في ولاية أخرى مدتها أربع سنوات يوم 24 سبتمبر/أيلول الجاري- للمواطنين الألمان إنهم "يستطيعون أن يفعلوا ذلك". ولكن هل تفعلها ألمانيا وبقية أوروبا؟ ما علينا إلا أن ننتظر ونرى؛ فالمهمة صعبة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.