السلوك السياسي السعودي تجاه العراق بين إدراكين

Saudi Arabia's King Salman bin Abdulaziz Al Saud (R) receives Iraqi Prime Minister Haider al-Abadi in Jeddah, Saudi Arabia, June 19, 2017. Bandar Algaloud/Courtesy of Saudi Royal Court/Handout via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS PICTURE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY.

ارتهان للرؤى الأميركية
عقبات الحضور الإيراني
مقتضيات الإدراك اللاحق

ارتهان للرؤى الأميركية
ارتهن السلوك السياسي الخارجي للسعودية -في السابق- للرؤى الأميركية بشأن قضايا المنطقة بشكل عام والعراق بشكل خاص؛ فكانت الاستعانة السعودية بالقوات الأميركية عشية أحداث أغسطس/آب 1990 بزعم صد اندفاعات عراقية "محتملة" صوب الرياض.

ثم فُتحت الأجواء السعودية وأراضيها ومياهها للقوات الأميركية في ما عُرف بـ"عاصفة الصحراء" مطلع عام 1991، وصولا إلى السكوت الواضح المقترن بدعم غير محدود للغزو الأميركي للعراق واحتلاله عام 2003.

كل ذلك شكّل دلالات واضحة لحقيقة التوافق السعودي الأميركي، فكانت التحركات السعودية الإقليمية تسير إلى حد كبير وفق هذا الارتهان، فضلا عن حقيقة أخرى هي أوضح دلالة وأعمق زمنا؛ وهي أن المصالح السعودية الإقليمية غير متعارضة بالأساس مع المصالح الأميركية، سواء الأمنية منها أو الاقتصادية.

كانت العلاقات السعودية العراقية بعد أحداث أغسطس/آب 1990 غير ودية واستمرت الحالة بعد الاحتلال الأميركي للعراق 2003، رغم تغيير النظام السياسي العراقي ومساهمة الرياض في ذلك. وبقي العراق بعيدا عن اهتمامات معظم الدول العربية ومنها السعودية، رغم حالات الدمار التي شهدها العراق، والانفلات الأمني الذي بات يهدد المنطقة برمتها

وهذه الحقيقة لم تغب حتى في حالات التماثل السلوكي إقليميا مع العراق الطرف العربي الأكثر تعارضا مع الإدارات الأميركية ومصالحها في المنطقة. ورغم القرار العربي بحظر النفط عن الدول التي تدعم الكيان الصهيوني في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، فإن السعودية اشتركت في الحظر شكليا ولم تلتزم به التزاما صارما كالعراق.

وعلى العموم، كانت العلاقات السعودية العراقية بعد أحداث أغسطس/آب 1990 غير ودية واستمرت كذلك بعد الاحتلال الأميركي للعراق 2003، رغم تغيير النظام السياسي العراقي ومساهمة الرياض في ذلك. وبقي العراق بعيدا عن اهتمامات معظم الدول العربية ومنها السعودية، رغم حالات الدمار التي شهدها العراق، والانفلات الأمني الذي بات يهدد المنطقة برمتها.

وتعود هذه المواقف إلى الإدارة الأميركية التي استأثرت بالشأن العراقي، وحظرت على الأطراف الدولية والعربية التدخل فيه، واستمر الحال كذلك حتى جاءت نصائح أنتوني كوردسمان للإدارة الأميركية بضرورة فتح المجال أمام أطراف أخرى (دولا كانت أو منظمات المجتمع الدولي)، لتجرّب حظّها بالعراق لعلهم يشاركون الإدارة الأميركية فشلها في تحقيق ما وعدت به هناك.

ورغم هذه الفسحة فإن السعودية لم تقدم للعراق شيئا وكذلك العرب عموما، فلا علاقات أعيدت ولا مصالح مشتركة بُنيت، ولم تبدد أوهاما ساقتها بعض القوى العراقية ضد السعودية بكونها ترعى أطرافا عراقية تمارس الإرهاب.

وفي المقابل؛ كانت الإدارة العراقية -التي أسسها الحاكم المدني الأميركي بول بريمر– قد تشكلت من القوى السياسية التي روجت للاحتلال وعملت في ظله، فصاغت عمليتها السياسية وفق معايير طائفية كانت قد تأسست عليها كأحزاب وربت في ضوئها.

هذا إلى جانب محاصّة مذهبية ومناطقية وعرقية كان للأطراف الإقليمية غير العربية دور كبير فيها، وهي محاصّة التزمت بها القوى السياسية العراقية التزاما صارما، سواء لمصلحتها الشخصية أو امتثالا لمصالح القوى الإقليمية. فتعززت ارتباطات أطراف العملية السياسية -وخصوصا الائتلاف الوطني- بتلك الأطراف الإقليمية غير العربية -لا سيما إيران– على حساب العمق العربي للعراق، فتوسعت الهوة بين العراق والدول العربية عموما والسعودية خصوصا.

ولأجل تأصيل ابتعاد العراق عن عمقه العربي وتوسيع القناعات الشعبية بذلك؛ فقد حرصت القوى السياسية العراقية -لا سيما تلك المرتبطة منها بإيران- على تعميق حالة الاختلافات بين بغداد والرياض، وتغليف مساعيها بالبعد الطائفي والتقاطعات القيمية. ثم تطور هذا النهج مع تصاعد اتهامات عراقية للسعودية بدعم مفترض للإرهاب الذي ضرب العراق بعد الاحتلال.

ورغم محاولات الأطراف السياسية العراقية في الخندق الآخر الذي لا يتوافق مع إيران -مثل "القائمة العراقية" و"تحالف القوى" و"جبهة الحوار"- تقليلَ مساحة القطيعة بين العراق والعرب عامة والسعودية خاصة؛ فإن تلك المحاولات جاءت بنتائج عكسية وسلبية، لأن تلك القوى هي طائفية المنطلق أساسا وانحيازية التوجه، ولذا كانت دعواتها مردودا عليها سلفا بل كانت حجة لخصومها، وإن كانت دعواتها تحمل جانبا من المنطق والحجج الواقعية.

عقبات الحضور الإيراني
وبعد الانسحاب الأميركي من العراق عام 2011، توسع هامش الفعل الإيراني في العراق، ولم تعد أطراف العملية السياسية العراقية تخفي تفاهماتها مع طهران التي تنوعت مصالحها وتعززت في العراق وسوريا.

مقابل التحالف الدولي ضد "داعش" الذي لم يضم إيران بالكيفية التي ضم بها السعودية؛ استشعرت إيران أن فرصتها في العراق ستحدد، باعتبار أن الحسم العسكري لوجود "داعش" عبر التحالف قد لا يقف عند دلالات الفعل العسكري بل سيشمل البعد العقائدي أيضا، ولذلك سعت لاستثمار عدة متغيرات لتكون حاضرة في مشاهد محاربة "داعش" وما بعدها

وبعد تنامي الإرهاب و"داعش" بعد يونيو/حزيران 2014، واحتلاله مناطق واسعة في العراق والشام؛ تشكل تحالف دولي بإدارة أميركا وكانت السعودية أحد أطرافه المشاركة. وأخذ التحالف الدولي على عاتقه محاربة الإرهاب بالتنسيق مع العراق، فكان ذلك أحد المتغيرات التي مهدت لنوع من التفاهم -ولو كان شكليا- بين العراق والسعودية، وإن جاء ضمن تفاهمات متفاوتة المستوى مع أطراف التحالف.

وفي مقابل هذا التحالف الذي لم يضم إيران بالكيفية التي ضم بها السعودية؛ استشعرت إيران أن فرصتها في العراق ستحدد، باعتبار أن الحسم العسكري لوجود "داعش" عبر التحالف قد لا يقف عند دلالات الفعل العسكري بل سيشمل البعد العقائدي أيضا، ولذلك سعت لاستثمار ثلاثة متغيرات لتكون حاضرة في مشاهد محاربة "داعش" وما بعدها، وهذه المتغيرات الثلاثة هي:

1- الأطراف السياسية العراقية المتوافقة -بشكل شبه كلي- مع إيران.
2- التركيز على البعد الطائفي في وجود "داعش" ومحاربته، واعتبار الأطراف الإقليمية -التي لا تماثلها في الطائفية- داعمة لـ"داعش" أو مستفيدة من وجودها.
3- اقتران جانب من العمل العسكري العراقي بالبعد الطائفي كـ"الحشد الشعبي"، وفصائل مسلحة مرتبطة بإيران ارتباطا واضحا عبر ما يسمى "ولاية الفقيه"، أو بمساعدات عبر ما يسمى "فيلق القدس" وليس الجيش الرسمي الإيراني.

هذه المتغيرات -بالإضافة إلى مساهمات إيران العسكرية في سوريا إلى جانب روسيا– مهّدت لحضور إيراني فعال لا سيما في الجوانب الأمنية والعقائدية، وهو ما يشكل تهديدا للمصالح الأميركية بالمنطقة، ويزيد الهواجس الأمنية للسعودية، خاصة إثر تزايد الفصائل المسلحة العراقية التي تؤمن بـ"ولاية الفقيه"، وبعد أن وجّه بضعها صواريخه صوب السعودية، كما أعلن ذلك واثق البطاط وقيس الخزعلي زعيم جماعة "عصائب أهل الحق".

ولهذه المتغيرات؛ أدركت كل من أميركا والسعودية ضرورة العمل المشترك لاحتواء التوسع الإيراني في العراق باعتباره منطلقا لفعل إيراني إقليمي أشمل، وهنا مكمن الخطر على السعودية. ومن هنا بدا الإدراك السعودي بشأن العراق يأخذ منحى غير الذي كان قُبيل بوادر القضاء النهائي على دُويلة "داعش" الإرهابية.

مقتضيات الإدراك اللاحق
عموما لم يأتِ السلوك السياسي السعودي في ظل الإدراك اللاحق بعيدا عن ارتهانات الإدراك السابق، ولكننا نراه تبلور بعد المتغيرات الواردة أعلاه والتي أجبرت طرفيْ الإدراك على بلورته، فجاء الإدراك العام من ضرورة احتواء التوسع الإيراني، باعتبار أن العراق هو المجال الأرحب لذلك الاحتواء رغم كونه منطلق التوسع الإيراني، فكانت أولى إشارات الإدراك السعودي اللاحق ومدركها هو احتواء إيران عبر العراق.

لكن مدركا كهذا لا يحظى ببعد عملي ولا يتحقق دون سعي جاد لإعادة العلاقات السعودية بالعراق، كما أن هذا السعي يحتاج إلى تبريرات مقبولة وحجج تتجاوز ضمنا أسباب القطيعة السابقة وحالة عدم الاكتراث بالشأن العراقي، ويحتاج أيضا لدلالة عملية عقائدية تحتوي ادعاءات سابقة كانت اتهِمت السعودية بها صراحة، كدعمها المفترض لـ"داعش" أو مساندة أطراف عملت على عدم الاستقرار في العراق، وهي قناعة أخذت بُعدا شعبيا.

يمكن القول إن السلوك السياسي السعودي تجاه العراق -وإن وجد مبررا ذاتيا للتغير باتجاه زيادة التقارب والتفاهم- ما زال مرتهنا للثوابت السابقة، ولم يرتقِ إلى الفعل الناجع لاحتواء الكوابح التي قد تعوق نجاحه، وقد يمنح إيران وأعوانها في العراق فرصا ليفنّدوا بها الأبعاد المعلنة للسلوك السياسي السعودي تجاه العراق ومداركه

ولذلك أمام السعودية مهام لا بد منها: أولاها هي أن التقارب لا بد من أن يثبت حقائق غير التي سيقت ضدها في السابق، حقائق تدل على ابتعاد واضح عن البعد الطائفي، ولأجل تحقيق ذلك عليها تغليب البعد العربي.

وثانيتها أن التقارب يجب أن يكون في اتجاهين: الأول نحو القوى السياسية الفاعلة أو المتنفذة شعبيا، وبالأخص تلك التي تتماثل عقائديا مع إيران دونما انسياق كامل لها، فجاء التقارب مع رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي الذي أظهر إشارات تغاير ما لدى أطراف فاعلة في فصيله الفكري، وكذلك مع مقتدى الصدر.

والاتجاه الثاني نحو الشعب العراقي سواء قواه الفاعلة أو هو بشكل مباشر، عبر اتخاذ سبل لتجاوز معاناته وخصوصا أهالي المناطق المتضررة من "داعش" ومن العمليات العسكرية، وهذا يتحقق عبر المساهمة الفاعلة في إعادة الإعمار، وقد ذهبت السعودية في هذا المنحى بتقديمها للعراقيين وعودا بالإعمار، وبرفع عدد الحجاج العراقيين، وبفتح منافذ الحدود مع العراق.

وإذا كانت هذه مقتضيات الإدراك السعودي اللاحق ومدركه عمليا، وهي تسعى من خلالها لتوسيع علاقاتها بالعراق سبيلا لاحتواء إيران، فإن ذلك يجابه كوابح أهمها:

1- أن الإدراك السعودي تبلور بالتوافق مع الإدراك الأميركي، ولعل التحالف الذي أبرِم في الرياض دليل واضح على ذلك، الأمر الذي يمنح خصوم السعودية في العراق وإيران حجة لاعتبار المساعي السعودية سياسةً أميركية بالنيابة.

2- التحرك السعودي تجاه العراق جاء بالتشاور مع دول إسلامية توافق السعودية في الطائفة، وهنا خطورة كبرى: إذ يفسر خصومها ذلك بأنه إذكاء للطائفية، الأمر الذي يدفع لإجراء طائفي مقابل، وهذا مطلب إيراني مهم.

3- لم تتحرك السعودية باتجاه العراق عبر الجامعة العربية والمجتمع العربي، وكان عليها ألا تجعل تنسيقا كهذا لاحقا لتنسيقها مع أطراف مؤتمر الرياض الأخير.

4- تفجر الأزمة مع قطر واتهام الرياض لها بدعم الإرهاب، وشمول هذا الاتهام مساعدة فصائل فلسطينية ما زالت تقاتل الصهاينة؛ ينعكس سلبيا على السعودية، بغض النظر عن طبيعة توجهات تلك الفصائل وعقيدتها.

5- تأخر السعودية في الانفتاح على العراق، وكونه جاء في ظل حكومة ضعيفة ووجود فصائل مسلحة مرتبطة عقائديا بإيران، وهي أقوى بكثير من الحكومة.

ومن خلال ما تقدم؛ يمكن القول إن السلوك السياسي السعودي تجاه العراق -وإن وجد مبررا ذاتيا للتغير باتجاه زيادة التقارب والتفاهم- ما زال مرتهنا للثوابت السابقة، ولم يرتقِ إلى الفعل الناجع لاحتواء الكوابح التي قد تعوق نجاحه، وقد يمنح إيران وأعوانها في العراق فرصا ليفنّدوا بها الأبعاد المعلنة للسلوك السياسي السعودي تجاه العراق ومداركه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.