هدية ترمب إلى أوروبا

German Chancellor Angela Merkel welcomes U.S. President Donald Trump at the G20 leaders summit in Hamburg, Germany July 7, 2017. REUTERS/Axel Schmidt

في مؤتمر عُقِد مؤخرا في فرنسا؛ فاجأ عدد من الأوروبيين ضيوفهم الأميركيين عندما زعموا أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب ربما يكون مفيدا لأوروبا. ومع عودة ترمب إلى أوروبا لحضور قمة مجموعة العشرين في هامبورغ (ألمانيا)؛ يستحق الأمر أن نسأل أنفسنا ما إن كانوا محقين؟

تزعم أغلب الروايات أن رئاسة ترمب كانت رهيبة بالنسبة لأوروبا. ويبدو أنه يزدري الاتحاد الأوروبي، وعلاقته مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فاترة بالمقارنة بصداقته مع الرئيس "الاستبدادي" التركي رجب طيب أردوغان، أو إعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وعلاوة على ذلك؛ يرحب ترمب بخروج بريطانيا الوشيك من الاتحاد الأوروبي؛ ويُقال إنه عندما اجتمع برئيسة الوزراء تيريزا ماي أول مرة، سأل بحماس: "ترى من التالي؟".

وأخيرا، أكَّد ترمب دون استعجال على المادة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي التي تضمن الدفاع المشترك؛ ثم سحب الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ، الذي يحظى بشعبية كبيرة في أوروبا؛ وقرر خفض مساهمة الولايات المتحدة المالية في الأمم المتحدة التي تحظى أيضا بدعم أوروبي قوي.

ليس من المستغرب إذن أن يفتقر ترمب شخصيا إلى الشعبية في مختلف أنحاء أوروبا. يشير استطلاع حديث أجرته مؤسسة "بيو" إلى أن 22% فقط من البريطانيين و14% من الفرنسيين و11% من الألمان، يثقون في ترمب. ولكن عدم شعبية ترمب على وجه التحديد (مناهضة ترمب أكثر من معاداة أميركا) هي التي ساعدت في تعزيز القيم الأوروبية.

أكَّد ترمب دون استعجال على المادة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي التي تضمن الدفاع المشترك؛ ثم سحب الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ الذي يحظى بشعبية كبيرة في أوروبا، ولذلك ليس من المستغرب أن يفتقر ترمب شخصيا إلى الشعبية في مختلف أنحاء أوروبا 

في وقت سابق من العام الحالي، انتشر الخوف من أن تكون موجة المد الشعبوية القومية المرتفعة -التي حملت ترمب إلى منصبه وأدت إلى الخروج البريطاني- ربما توشك أن تجتاح أوروبا، بل وربما تمنح اليمينية المتطرفة مارين لوبان الرئاسة الفرنسية. ولكن بدلا من ذلك، يبدو أن موجة الشعبوية بلغت ذروتها بانتخاب ترمب.

فمنذ ذلك الحين هُزِم الشعبويون في النمسا وهولندا؛ وانتخب الفرنسيون إيمانويل ماكرون الوافد الوسطي الجديد؛ وخسرت ماي -نصيرة الخروج البريطاني "العسير"- أغلبيتها البرلمانية في الانتخابات العامة المبكرة الشهر الماضي.

لا تزال أوروبا تواجه النمو البطيء، والبطالة المرتفعة، والانقسامات السياسية التي ابتُليت بها في العقد الذي بدأ باندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008. ولكن أياً كان الفائز في الانتخابات الألمانية في سبتمبر/أيلول المقبل، فسيكون معتدلا وليس قوميا متطرفا، وسيدرك أهمية العمل مع ماكرون لإعادة تشغيل المحرك الفرنسي/الألماني للتقدم الأوروبي.

تَعِد مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بأن تكون معقدة ومثيرة للنزاع؛ فالمشكلة في نظر "أنصار الخروج الناعم" -الذين يرغبون في الحفاظ على قدرة بريطانيا على الوصول إلى السوق الأوروبية الموحدة- هي أن التصويت لصالح خروج بريطانيا عكس في الأساس المخاوف بشأن الهجرة، وليس التفاصيل الدقيقة بشأن قواعد السوق الموحدة.

غير أن أوروبا ترفض السماح للسلع والخدمات بالتدفق بحرية من دون حرية تنقل البشر. ويعيش نحو ثلاثة ملايين أوروبي حاليا في بريطانيا، في حين يقيم مليون بريطاني في أوروبا.

وربما أمكن التوصل إلى حل توفيقي بإنشاء كيان أوروبي بريطاني يضمن حقوق مواطني الجانبين، ويسمح بفرض بعض القيود على الهجرة وعلى بعض السلع. وبوسع المرء أن يفكر في هذا الكيان من منظور الدوائر المتحدة المركز، حيث تتسم الدائرة الداخلية للاتحاد الأوروبي بحرية الحركة مع السماح بالقيود في الدائرة الخارجية.

وتتوقف إمكانية التوصل إلى مثل هذه التسوية على المرونة الأوروبية. في الماضي، كان الأوروبيون يتحدثون عن السماح بسرعات متباينة نحو الهدف الضمني المتمثل في "الاتحاد المتزايد التقارب". ولا بد من استبدال هذا الهدف الفدرالي، وإحلال فكرة المستويات المختلفة محل السرعات المختلفة.

والواقع أن العديد من النخب الأوروبية تبنت بالفعل مواقف أكثر مرونة عندما يتعلق الأمر بمستقبل أوروبا، كما تجاوزت الهدف الفدرالي المتمثل في تصور كيان أوروبي فريد من نوعه. وتشير هذه النخب إلى وجود ثلاثة مستويات مختلفة من المشاركة في أوروبا بالفعل: الاتحاد الجمركي، وعملة اليورو، واتفاق شنغن بشأن إزالة الحدود الداخلية. وقد يصبح الدفاع المستوى الرابع.

في الماضي، كان التقدم الأوروبي في مجال التعاون الدفاعي مقيدا ليس فقط بالشواغل بشأن السيادة، بل وأيضا بفسبب الضمانة الأمنية التي تقدمها الولايات المتحدة. ومع تسبب ترمب في إثارة الشكوك حول إمكانية التعويل على أميركا؛ انتقلت القضية الأمنية إلى المقدمة.

وقد بدأت الجهود الرامية إلى بناء نظام دفاعي أوروبي مشترك، ولكن العملية تتسم بالبطء. فإلى جانب بريطانيا، تتمتع فرنسا فقط بقدرات كبيرة عندما يتعلق الأمر بإرسال قوات إلى الخارج، في حين كبح التاريخُ ألمانيا ومنعها من القيام بالمزيد. وكانت بريطانيا عازفة دوما عن القيام بأي شيء ربما يتنافس مع حلف شمال الأطلسي. ولكن هذه المواقف بدأت تتغير.

في الماضي، كان التقدم الأوروبي في مجال التعاون الدفاعي مقيدا ليس فقط بالشواغل بشأن السيادة، بل وأيضا بفسبب الضمانة الأمنية التي تقدمها الولايات المتحدة، ومع تسبب ترمب في إثارة الشكوك حول إمكانية التعويل على أميركا؛ انتقلت القضية الأمنية إلى المقدمة

ومرة أخرى، من الممكن أن نستفيد من تصور الدوائر المتحدة المركز. فخلال فترة التحضير لحرب العراق في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، زعم مراقبون أن الأميركيين من المريخ عندما يتعلق الأمر بالأمن، في حين كان الأوروبيون من الزهرة.

ولكن العالم تغير، والآن تواجه أوروبا سلسلة من التهديدات الخارجية. وقد ذَكَّرَت الهجمات الروسية على جورجيا وأوكرانيا الأوروبيين بالمخاطر التي تهددهم من جانب جارتهم الكبيرة. ويظل ردع روسيا يتطلب وجود حلف شمال أطلسي قوي.

بيد أن مجموعة أخرى من التهديدات ربما تأتي من العنف في منطقة البلقان. ويعتقد بعض المراقبين أن مقدونيا تفادت بالكاد حربا أهلية. وربما تقدم قوة حفظ سلام أوروبية مساهمة كبرى في تعزيز الاستقرار في المنطقة.

تنشأ مجموعة ثالثة من التهديدات التي تواجه أوروبا في شمال أفريقيا والشرق الأوسط؛ إذ تعيش ليبيا في فوضى، وتشكل مصدرا لرحلات بالغة الخطورة عبر البحر الأبيض المتوسط يقوم بها مهاجرون يائسون، وبوسع المرء أن يتخيل أيضا الحاجة إلى حماية المواطنين أو إنقاذ الرهائن في المنطقة.

وهنا من الممكن أن تساعد القدرات العسكرية الإرسالية الفرنسية -خاصة إذا اقترنت بالقدرات البريطانية- في توفير الأمن. وحتى إذا لم تشارك بريطانيا، فربما يقدم أوروبيون آخرون يد المساعدة، كما تفعل ألمانيا الآن في التعامل مع الإرهاب في مالي.

الحق أن أوروبا لا تزال بعيدة عن بناء هيكل دفاعي مشترك، ولكن الاحتياج إلى مثل هذا الهيكل آخذ في النمو. ومن عجيب المفارقات أن ترمب -الذي يفتقر إلى الشعبية- ربما يثبت كونه عونا وليس حجر عثرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.