الفارق بين الشعبوية الأميركية والشعبوية البريطانية

epa05755132 US President Donald J. Trump (R), with British Prime Minister Theresa May (L), delivers remarks during a joint press conference in the East Room of the White House in Washington, DC, USA, 27 January 2017. Prime Minister May is the first foreign head of state to meet with President Trump at the White House. EPA/SHAWN THEW

بريطانيا، فرنسا، الولايات المتحدة؛ تُرى أين العنصر الغريب هنا؟ تبدو الإجابة واضحة. ففي العام الماضي كان الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة الرمزين التوأم للثورة الشعبوية ضد النُّخَب العالمية.

وعلى النقيض من هذا، انتخبت فرنسا -في شخص إيمانويل ماكرون– رئيسا هو "رجل دافوس" الأصيل، والتكنوقراطي الفخور المناصر للعولمة، والذي يرتبط اسمه بالمؤسسات المالية والإدارية والتعليمية الأكثر نخبوية في بلاده.

ولكن لنبتعد لحظةً عن هذه الكليشيهات السياسية، كما فعلتُ أنا في وقت سابق من هذا الشهر عندما هربت من الحملة الانتخابية البريطانية لحضور مؤتمر معهد ميلكن العالمي في لوس أنجلوس.

يُعَدّ مؤتمر ميلكن المعادل الأميركي لمؤتمر دافوس ولكن مع التركيز بشكل أكثر جدية على الأعمال، والتمثيل القوي للحكومة الأميركية الذي لم يحققه لها مؤتمر دافوس قَط.

في حين احتاجت الولايات المتحدة إلى 100 يوم فقط لكي ترى عبر "الواقع البديل" الذي عرضه عليها ترمب (وإن لم تتمكن من الرؤية عبر ترمب ذاته)؛ لا أحد تقريبا في بريطانيا يشكك حتى في الواقع البديل المتمثل في الخروج البريطاني، رغم الفرصة غير المتوقعة التي تتيحها انتخابات 8 يونيو/حزيران

وبعد استماعي هناك إلى كلمات مسؤولين اقتصاديين أساسيين في إدارة ترمب (وزير الخزانة ستيفن منوشين ووزير التجارة ويلبر روس)، إضافة إلى مجموعة ضخمة من المسؤولين في الكونغرس وكبار رجال الأعمال؛ تبين لي بوضوح أن انتخاب ترمب لم يكن سوى انحراف مؤقت.

فقد سلكت الولايات المتحدة منعطفا إلى مدينة ملاهي الحنين إلى الماضي القومي، ولكنها تظل تركز على المستقبل وفوائد العولمة وليس تكاليفها.

كان من الواضح من مؤتمر ميلكن أن ترمب لن ينفذ القسم الأعظم من أجندته المحلية. ولن تتمتع منطقة حزام الصدأ بطفرة في الإنفاق على البنية الأساسية. ولن تتغير العلاقات الأميركية مع المكسيك أو الصين كثيرا. ولن تمر مقترحات ترمب الأساسية بشأن النظام الضريبي عبر الكونغرس الأميركي.

أما وعد ترمب بإلغاء قانون الرعاية الميسرة (أوباما كير) فور تسلمه مهام منصبه، فيكاد يكون من المؤكد أنه سيفسح المجال -تحت الضغوط الشعبية- لاتجاه الإصلاح والترميم.

بعد انغماسي على هذا النحو في البراغماتية الأميركية؛ كانت عودتي إلى السياسة البريطانية محبطة للغاية. ذلك أن المسارات السياسية التي بدت متوازية قبل بضعة أشهر هناك أصبحت الآن متباعدة.

وفي حين احتاجت الولايات المتحدة إلى 100 يوم فقط لكي ترى عبر "الواقع البديل" الذي عرضه عليها ترمب (وإن لم تتمكن من الرؤية عبر ترمب ذاته)؛ لا أحد تقريبا في بريطانيا يشكك حتى في الواقع البديل المتمثل في الخروج البريطاني، رغم الفرصة غير المتوقعة التي تتيحها انتخابات 8 يونيو/حزيران لتجنب الانفصال المدمر للذات عن أوروبا.

ولكن كيف لنا أن نفسر الاختلافات الصارخة في استجابات المجتمع المدني بين أميركا وبريطانيا للمغازلة الخطيرة للنزعة الشعبوية القومية؟ في أميركا كانت الاستجابة الفورية للسياسات المتنافرة منطقيا، والمضللة اقتصاديا، والتي يستحيل تنفيذها دبلوماسيا؛ تتلخص في ارتفاع حِدة المعارضة والمناقشة.

فقد أظهر الديمقراطيون قدرا غير مسبوق من الوحدة في الكونغرس، وقَدَّم الكوميديون في برامج التلفزيون معارضة أكثر فعالية، ونزل الملايين من الناخبين التقدميين إلى الشوارع، وأطلقت المنافذ الإعلامية حملات تحقيق واستقصاء شرسة، وتلقى الاتحاد الأميركي للحريات المدنية 24 مليون دولار أميركي في غضون 24 ساعة من محاولة الإدارة منع المسلمين من دخول البلاد.

والأمر الأكثر أهمية هو أن الشركات الأميركية بدأت تمارس الضغوط على الفور لمنع أي سياسات يقترحها ترمب وترى فيها تهديدا لمصالحها الاقتصادية. وكما قال أحد كبار موظفي مجلس الشيوخ في مؤتمر ميلكن؛ فإن "وال مارت" وغيرها من شركات بيع التجزئة "كانت شديدة الفعّالية في تثقيف أعضائنا" بشأن التكاليف السياسية التي قد تترتب على أي ضرائب جديدة على الواردات الأميركية.

وكان هذا كفيلا بإزالة تهديد تدابير الحماية الرئيسي الذي فرضه ترمب، كما قَتَل آماله في تمويل تخفيضات ضريبية كبيرة باستخدام إيرادات ضريبة "تعديل الحدود".

ولنقارن الآن بين كل هذه المعارضة الأميركية والسلبية السائدة في بريطانيا بعد استفتاء العام الماضي. يبشر ترك الاتحاد الأوروبي باضطرابات سياسية واقتصادية أعظم كثيرا من أي شيء اقترحته إدارة ترمب، ومع ذلك أصبح خروج بريطانيا عقيدة راسخة ومحصنة ضد الطعن أو الاستجواب بأي شكل من الأشكال.

ربما تفسر العوامل الثقافية جزئيا التباين بين الفاعلية الأميركية في الرد على ترمب والسلبية البريطانية في مواجهة الخروج البريطاني. فالأميركيون الذين يواجهون تحديا نتوقع منهم أن يفعلوا أي شيء، حتى وإن كانت كل الاحتمالات ضدهم، في حين يُعجَب البريطانيون ببطل يواجه المحن بعدم القيام بأي شيء، في حين يتخذ مظهرا متغطرسا

وعلى النقيض من الضغوط العنيفة التي شكلها عالَم الأعمال ضد وعود ترمب الانتخابية؛ لم تحاول أي شركة بريطانية كبرى حماية مصالحها عبر حملة تسعى إلى إسقاط قرار الخروج البريطاني.

ولم تُشِر أي من هذه الشركات علنا حتى إلى حقيقة مفادها أن الاستفتاء لم يمنح رئيسة الوزراء تيريزا ماي أي تفويض لاستبعاد العضوية في السوق الأوروبية الموحدة والاتحاد الجمركي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

الأمر الأسوأ من ذلك هو أن الحظر ضد أي تشكيك في الخروج البريطاني لا تبرره أي أسباب منطقية أو مصالح اقتصادية أو وطنية. وبدلا من ذلك، جرى استحضار "إرادة الشعب". وأصبحت هذه العبارة المخيفة -جنبا إلى جنب مع نظيرتها الأكثر شرا "أعداء الشعب"- من العناصر الخطابية الثابتة في الولايات المتحدة وأيضا في بريطانيا.

ولكن الأمر ينطوي على فارق حاسم: ففي الولايات المتحدة، تُسمَع مثل هذه اللغة شبه الفاشية على الهوامش المتطرفة؛ أما في بريطانيا فتشير حتى وسائل الإعلام الرئيسية والمناقشات البرلمانية -بشكل روتيني- إلى معارضي الخروج البريطاني بوصفهم متآمرين ومخربين خائنين يعادون الديمقراطية.

ربما تفسر العوامل الثقافية جزئيا التباين بين الفاعلية الأميركية في الرد على ترمب والسلبية البريطانية في مواجهة الخروج البريطاني. فالأميركيون الذين يواجهون تحديا نتوقع منهم أن يفعلوا أي شيء، حتى وإن كانت كل الاحتمالات ضدهم، في حين يُعجَب البريطانيون ببطل يواجه المحن بعدم القيام بأي شيء، في حين يتخذ مظهرا متغطرسا.

ولعل الأمر الأكثر أهمية أن أحدا لم يشكك على الإطلاق في الشرعية الديمقراطية للمعارضة بالولايات المتحدة، حيث صوتت أغلبية واضحة من الأميركيين ضد ترمب. والواقع أن ترمب خسر التصويت الشعبي بنحو 2%، وهو نفس الهامش الذي فاز به جيمي كارتر عام 1976، وجورج دبليو بوش عام 2004.

وفي المقابل، فاز أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة بأغلبية ضئيلة ولكنها كانت حاسمة (52% في مقابل 48%). وفي حين تشترط عدة ديمقراطيات ناضجة أغلبية كبيرة للتأكيد على تغيير دستوري ضخم بحجم الخروج البريطاني، فإن المملكة المتحدة لم تدرك قَط الحاجة إلى مثل هذه الضوابط والتوازنات.

ففي دستور بريطانيا -غير المكتوب- هناك قيد واحد فقط يحد من سلطة رئيس الوزراء الحائز على أغلبية برلمانية، ألا وهو حق الناخبين في تغيير رأيهم. ولكن ماذا يحدث عندما يُحرَم كل من يحاول إقناع الناخبين بتغيير رأيهم من الشرعية باعتباره منكِرا للديمقراطية و"عدوا للشعب"؟

إذا ظل تشجيع الناخبين على إعادة النظر في القرار السياسي الأكبر على الإطلاق في حياتهم يُعامَل دوما على أنه إهانة للديمقراطية، فستخسر المملكة المتحدة ضمانتها الوحيدة ضد إلحاق الأذى الدائم بالذات. وستسلك بريطانيا منعطفا خاطئا على طريق وعر نحو الحنين إلى القومية، في حين تعود الولايات المتحدة إلى الانضمام لأوروبا على الطريق السريع الحديث الذي يقود إلى العولمة المتعددة الثقافات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.