أبعد من الهجمة على "الجزيرة"

Staff work inside the headquarters of Al Jazeera Network, in Doha, Qatar June 8, 2017. REUTERS/Naseem Zeitoon

محاور الهجمة
انهيارات مهنية 

تقع "الجزيرة" في بؤرة القصف المكثف لكنها ليست وحدها المستهدفة. فما يشهده العالم العربي هذه الأيام ليس أقل من ردّة جسيمة عن مكتسبات تحققت خلال العقدين الماضيين، في مجال حرية الإعلام وتبادل المعلومات وتعددية مصادر المعرفة للمجتمعات.

رفعت "الجزيرة" -بمجرد تأسيسها عام 1996- السقوف الإعلامية العربية الواطئة مستفيدةً من تطورات الإعلام والاتصال، واستنفرت بالتالي تجارب منافسة لها محسوبة على عواصم عربية، فبدا هذا تطورا حميدا للوهلة الأولى.

ظهرت شاشات عربية في هيئة مكافئ موضوعي "للجزيرة"، منحتها العواصم هامشاً أوسع من المحطات الرسمية التقليدية التابعة للعواصم ذاتها. لكنّ تجارب منافسي "الجزيرة" لم تحتمل طويلاً استحقاقات المهنية


ظهرت شاشات عربية في هيئة مكافئ موضوعي "للجزيرة"، منحتها العواصم هامشاً
أوسع من المحطات الرسمية التقليدية التابعة للعواصم ذاتها. لكنّ تجارب منافسي "الجزيرة" لم تحتمل طويلاً استحقاقات المهنية، فانزلق بعضها إلى خطابات "المحافظين العرب الجدد"، وآلت مع الوقت إلى منابر متشددة في تحاملها على التجارب الإصلاحية وحركات المقاومة مثلاً.

ومع هبّات الشعوب العربية عام 2011 تعمّق الافتراق، وبرزت القنوات والمواقع والصحف ذاتها في خنادق الثورة المضادة، فأشبعت مطالب الحرية والديمقراطية والإصلاحات ذمّا وتشويهاً.

ما يجري الآن من تصعيد يتجاوز فكرة الهجمة على "الجزيرة" وباقة من وسائل الإعلام العربية التي يأتي ذكرها في القوائم، فهو محاولة للهيمنة على وعي الجماهير العربية وحقها في تنويع مسارب المعرفة، لاستكمال مقومات الإجهاز على نبض الشعوب.

إنها بالأحرى هجمة على المجتمعات العربية التي يُراد لها أن تعود إلى قمقم محكم الإغلاق، وفق ما كانت عليه الحال في القرن الماضي؛ كي تهيمن عليها رواية محبوكة بين السلطة ورأس المال الإعلامي المرتبط بالسلطة ذاتها.

محاور الهجمة
تجري الهجمة على وعي المجتمعات العربية عبر محاور إعلامية متضافرة، مثل محور الحجب والحظر، ومحور الترهيب والتجريم، ومحور التوجيه الدعائي.

فعلى صعيد الحجب والحظر؛ تدهور العالم العربي خلال شهر واحد فقط بما يكافئ عقدين من الزمن الإعلامي إلى الوراء. جرى ذلك عبر حزمة قرارات الحجب والحظر التي طاردت مؤسسات إعلامية عربية بارزة في أسابيع قليلة.

لم يبالغ بعضهم عندما وصفوا ما يجري بأنه معركة "كسر عظم"، تندفع فيها هراوات السلطات الحاكمة لتهشيم الانفتاح الإعلامي النسبي، الذي عرفته المجتمعات العربية في ظلال ظاهرة "الجزيرة" وما بعدها في الشاشات والشبكات.

تتفاعل الحالة حتى خارج الإقليم الخليجي المأزوم، عبر هجمات محلية متعددة على وسائل الإعلام التي لا تباشر التصفيق للرواية الرسمية، ومن ذلك إقدام السلطة الفلسطينية على ما يوصف حقًّا بأنه "مجزرة إعلامية"، استغلت بموجبها أسبقيات الأزمة الخليجيةفحجبت عشرات المواقع التي تعود لمؤسسات إعلامية فلسطينية بارزة. بوسع المتصفح الفلسطيني الوصول إلى مواقع الاحتلال عبر الشبكة دون أن يفلح في العثور على مواقع فلسطينية محترمة.

وعي المجتمعات ذاتها موضوع في بؤرة الاستهداف، وهو ما يتحرّاه محور التوجيه الدعائي في هذه الهجمة الضارية، إذ يراهن على تحويل طائفة عريضة من وسائل الإعلام العربية إلى أبواق مارقة من مواصفات الصنعة الحديثة، بعد زمن علت فيه شعارات زاهية عن المعايير المهنية

أما محور الترهيب والتجريم في هذه الهجمة؛ فلا يدخر جهداً في ردع الشعوب كي لا تستعمل قدراتها الإعلامية الحرة في الشبكات والتطبيقات. تم تشديد العقوبات على المضامين غير المرغوبة سياسياً في مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات الأجهزة الذكية، فباتت بالغة القسوة إلى حد يصعب تصديقه.

قررت عواصم عربية الخروج من التاريخ الإعلامي عبر قوانين متشددة وقرارات فجة، تسهر على تنفيذها هيئات الدولة وأجهزة الأمن، فنسفت شعارات الانفتاح الدعائية التي تتباهى بها في منصات العالم. أطلقت مواطنة خليجية تعليقا يسخر من هذه الحالة المتدهورة؛ بأن اقترحت على بنات جلدتها حيلة ماكرة للتخلص من زوج مزعج، عبر اقتناص هاتفه وكتابة نص وجيز باسمه في "تويتر" أو "واتس أب" يحمل "شبهة التعاطف مع قطر"، وبهذا يقع التخلص منه خمس عشرة سنة كاملة خلف القضبان! إنه ذكاء المجتمعات الذي يتملص من حُمّى الترهيب بسلاح النكتة.

لكنّ وعي المجتمعات ذاتها موضوع في بؤرة الاستهداف، وهو ما يتحرّاه محور التوجيه الدعائي في هذه الهجمة الضارية، إذ يراهن على تحويل طائفة عريضة من وسائل الإعلام العربية إلى أبواق مارقة من مواصفات الصنعة الحديثة، بعد زمن علت فيه شعارات زاهية عن المعايير المهنية.

يستفيد القوم في هذا المنحى من صعود الأخبار المزيفة في العالم التي باتت تصنع الحدث على أي حال. يتضح هذا المنحى في المجال الإخباري مثلاً، من خلال انزلاق النشرات والبرامج الإخبارية إلى لغة دعائية فجة لم تكن متصورة قبل سنوات خلت، دون التورّع عن حشد مفردات خشنة وإيحاءات تخدم أغراض التشويه والتحريض، والتعبئة في اتجاهات محسوبة قررتها دوائر السلطة والأمن.

أما في المجال الدرامي فيبالغ منحى التوجيه الدعائي في الدفع بمسلسلات يحكمها منطق أمني متطرف، يراهن على تشويه التدين بأساليب التصريح والإيحاء، وشيطنة الحركات الإصلاحية، وترهيب المجتمعات بفرض سطوة ذهنية عليها.

وفي المجال الوعظي تم إنتاج طبقة جديدة من الواعظين، مع حملة واسعة لشراء ذمم وجوه محسوبة على العلم والفكر والاستنارة، يجري تحريكها على رقعة الشطرنج الإعلامية عبر برامج تحظى بأفضل أوقات البث.

انهيارات مهنية
ليس بعيدا عن هذا كله تتأجج في العالم العربي حرب أفكار ضارية، نجحت في تجنيد شاشات ومواقع ومراكز ومنابر وعمائم وربطات عنق، في سبيل إعادة إنتاج الوعي العربي، والدفع بمفاهيم ملفقة بعناية. بات بعض "المشايخ" و"الواعظين" و"العلماء" و"المفكرين" و"المتنورين" ينافسون في ظهورهم الإعلامي متحدثي وزارات الداخلية وأجهزة التوجيه المعنوي ومكافحة الشائعات.

انهمكت وفرة من الشاشات العربية في إبراز مزيد من الواعظين المزيّفين في رمضان، ممن لا يقولون الحق كاملا ولا يأمرون الناس بالعدل والقسطاس المستقيم في الشؤون جميعا، ومعهم تفسد أخلاق المجتمعات وتتعلم آفة الاجتزاء في التطبيق والنفاق في القول والعمل، وهي ترى فنونهم في استعمال الدين والعلم الشرعي ومضامين الوعظ والدعاء بشكل انتقائي بغرض المداهنة.

دخل 23 مايو/أيار التاريخ باعتباره محطة انعطاف لا تخطئها العين في البيئة الإعلامية العربية. انقدحت في تلك الليلة شرارة الأزمة الخليجية، التي جاءت باكورتها بتحرير شهادة احتضار مهنية مرقت معها وسائل إعلام عربية من أبسط مواصفات المصداقية

تستعمل حرب الأفكار هذه مفردات رائجة من قبيل "نشر الاعتدال"، و"مكافحة التطرف" الذي هو شعار صاعد تنتظم في ظلاله طوابير ممتدة، تأكل خبزها اليومي من صناعة إعلامية وبحثية ودينية ومجتمعية متضخمة. والتطرف الذي يتحدثون عنه ليس حالة محددة النطاقات معرّفة المواصفات، بل وصمة فضفاضة يمكن إلصاقها بأطياف واسعة؛ وفق انطباعات وتقديرات نسبية حسب أهواء مُلْصِقِيها.

تشهد المرحلة العربية الراهنة انهيارات جسيمة في واقع المهنية الإعلامية. فقد انزلقت قنوات ومنابر إعلامية -رفعت طويلا شعارات الحياد والمصداقية و"أن تعرف أكثر"- إلى دركات غير مسبوقة من حُمّى التضليل والتزييف الإعلامي.

دخل 23 مايو/أيار التاريخ باعتباره محطة انعطاف لا تخطئها العين في البيئة الإعلامية العربية. انقدحت في تلك الليلة شرارة الأزمة الخليجية، التي جاءت باكورتها بتحرير شهادة احتضار مهنية مرقت معها وسائل إعلام عربية من أبسط مواصفات المصداقية.

نسجت غابة القنوات والمواقع والصحف -التي تدور حول كوكب السلطة- رواية مذهلة في تطابقها، تأسيساً على مواد مزيفة نشرتها أيدٍ عابثة في موقع وكالة الأنباء القطرية بعد قرصنته. تضخّمت الرواية في العتمة عبر أبواق كبرى استحضرت فيلق المحللين الجاهزين للمهمة وقت الفجر، كي يباشروا حملات شيطنة من وحي حدث منسوج بليل.

لم تلتفت جمهرة الأبواق إلى بلاغات الدوحة عن اختراق موقعها الإخباري وتكذيبها الصارم لما جاء فيه، بل واصلت ترويج روايتها بلا هوادة، في استخفاف صارخ بذكاء المشاهدين العرب.

حررت الأنظمة بهذه المناورة الساذجة شهادة وفاة شاشات ومواقع وصحف تتبع رأس المال الإعلامي المرتبط بها. انهارت استثمارات ضخمة في تلك الأبواق على محك الموقف، فمن بيدهم أمرها أخرجوها من التاريخ الإعلامي وقوّضوا بناءها المهني من القواعد، عندما دفعوا بها إلى سبيل المدرسة القديمة في الدعاية التي لا تتقن حتى فن التذاكي في عرض المزاعم والاتهامات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.