في الاستثناء القطري التركي

Turkish President Recep Tayyip Erdogan (R)and Emir of Qatar Sheikh Tamim bin Hamad bin Khalifa Al Thani (L) give a press conference after a meeting at the presidential palace in Ankara, on December 19, 2014. AFP PHOTO

الأصوليات والإسلام السياسي
عوائق التأسيس الديمقراطي 

الكتابة عن الأصوليات في المجال العربي قليلة، وهي أصوليات فاعلة وتكاد تسم الفكر العربي بمرجعياته الإسلامية والقوميّة والليبراليّة. ومن خاصيّة الأصوليّة أنّها تجتهد في أن تتكلّم باسم الأصل في مرحلة أولى -رغم اشتراكها فيه مع غيرها- ثم تمرّ إلى مرحلة النيابة عنه والحلول محلّه.

ما تعرفه منطقة الخليج العربي هذه الأيّام من توترات كان استهداف دولة قطر من أخطر عناوينها، يدفع إلى البحث عن أسباب هذا الاستهداف العميقة في المنطقة ومحيطها الإسلامي والدولي.

الأصوليات والإسلام السياسي
في المجال العربي ثلاث أصوليات أساسّية متصارعة: الصهيونيّة والوهابية والخمينيّة: الصهيونيّة في علاقتها بالأصل اليهودي، والوهابيّة في علاقتها بالأصل السني، والخمينيّة في علاقتها بالأصل الإمامي.

وإذا كانت العلاقة بالصهيونيّة قد توضّحت لارتباطها بالحركات العنصريّة التي ظهرت مع الدولة/الأمة وبالظاهرة الاستعماريّة الاستيطانيّة؛ فإنّ العلاقة بالوهابيّة شابها كثير من الالتباس لما كان من تقاطع بين الوهابيّة وبدايات الإصلاح المحليّ، قبل الانتباه إلى ما يحدث في ضفة المتوسط الشمالية (النهضة الأوروبيّة).

العوائق التي تعترض الإسلام السياسي في المجال العربي لبلوغ مرحلة العدالة والتنمية (ومن ثم تأسيس الديمقراطية والمواطنة الاجتماعيّة) منها عوائق ذاتيّة، أهمها العجز عن التحرّر التام من الخطاب الشريعي، وأخرى موضوعيّة في مقدّمتها الأصوليات الثلاث المذكورة: الصهيونيّة والوهابية والخمينيّة

كما شاب العلاقة بالخمينيّة أيضا كثير من الالتباس لما كان بينها وبين فكرة الثورة من تمفصل. فقد كان الخميني زعيما إسلاميا ينفض عن الفكر الإمامي ما كبّله من "انتظار"، فينوب الفقيه عن الإمام الغائب.

واجهت الثورة في المجال العربي السببين الأساسيين اللذين يمنعان بناء كيانه السياسي مثل المجالين التركي والإيراني. لذلك كان شعار الثوار: "الشعب يريد إسقاط النظام"، "الشعب يريد تحرير فلسطين". وانضاف الإرهاب إلى الاحتلال والاستبداد لمنع بناء الكيان العربي، فاكتمل المثلّث: اغتصاب/استبداد/إرهاب.

وإلى جانب هذه الأصوليات الثلاث، كانت هناك ظاهرة الإسلام السياسي التي لم تكن بعيدة عن الصراع مع الكيان الصهيوني، ومناهضة الاستبداد الممثَّل أساسا في النظام السياسي العربي، وهو من ثمار الدولة الغنائمية المسمّاة وطنية.

وظاهرة الإسلام السياسي ظاهرة تاريخيّة، مثلما لها بداية لها نهاية. فبدايتها كانت تدشينا لـ"خطاب سياسي" يقطع مع "الخطاب الشريعي" الذي وسم "الإصلاح الأوّل" (الوهابيّة والسنوسيّة)، ويستفيد من "الخطاب النهضوي" في "الإصلاح الثاني" (جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا).

وأما نهايتها فتمثّل بلوغا لأعلى مراحلها "مرحلة العدالة والتنمية"، ومعها يحل الإسلام السياسي في هوية أخرى لا نراها خارج الهوية المواطنيّة الاجتماعيّة، وهي المرحلة التي تتأسس فيها الديمقراطيّة على أنقاض نظام الاستبداد العربي.

هكذا يكون لنا مقياس دقيق نقيس به المرحلة وخصائصها، فيكون تأسيس الديمقراطيّة دليلا على بلوغ الإسلام السياسي مرحلة العدالة والتنمية. ويكون تعطّل تأسيسها وتأخّره دليلا على أنّ الإسلام السياسي لم يبلغ المرحلة المذكورة، بسبب وجود عوائق بنيويّة لم ينفع معها الفصل بين الدعوي والسياسي مثلما هو الحال في تونس (حركة النهضة).

الوهابيّة والخمينيّة أصوليّتان تتدرّعان بالخطاب الشريعي في صيغتيْه التكفيريّة والطائفيّة، وهذا ما يجعلهما -مقارنة بظاهرة الإسلام السياسي- ردّةً فكريّة، وعنوانَ تخلّفٍ، ومانعاً من تأسيس الحريّة والمواطنة.

والإسلام السياسي تأثّر بالأصوليّتين سلبا وإيجابا، فقد كان لجوء قيادات الإخوان في ستينيّات القرن الماضي إلى السعوديّة خلال الصراع الإخواني الناصري من أهمّ الأسباب التي لوّنت خطابهم بـ"الشريعي" حتى اقتربوا من مطلب تطبيق الشريعة.

وكان للثورة الإسلاميّة في إيران تأثيرها العميق على الإخوان والإسلام السياسي من جهة البعد الكفاحي والثورة على المظالم باسم الدين، ونصرة المستضعفين والانحياز للمحرومين ومناهضة الاستكبار في العالم.

عوائق التأسيس الديمقراطي
العوائق التي تعترض الإسلام السياسي في المجال العربي لبلوغ مرحلة العدالة والتنمية (ومن ثم تأسيس الديمقراطية والمواطنة الاجتماعيّة) منها عوائق ذاتيّة، أهمها العجز عن التحرّر التام من الخطاب الشريعي، وأخرى موضوعيّة في مقدّمتها الأصوليات الثلاث المذكورة.

اشتركت الأصوليات الثلاث في مناهضة ثورة المجال العربي؛ فالكيان الصهيوني الذي يفخر بأنّه الديمقراطيّة الوحيدة في بحر الاستبداد العربي يعرف أنّ اكتشاف الوعي العربي للعلاقة العضوية بين المقاومة والمواطنة سيكون مقدمة لزواله، وهو بذلك يلخّص علاقتنا بالغرب الديمقراطي الذي استعمرنا ويلومنا على تخلّفنا، ولكنّه لا يريد لنا أن نخرج من استبدادنا.

كان للوهابيّة دور ريادي في تهشيم الثورة في مصر، وكان لابد من إجهاضها هناك لأنّ بلوغها مصر يعني -في عرف الإستراتيجيا- أنّ الثورة صارت عربيّة، ولا مجال لأن يكون الإسلام السياسي قاعدة هذه التجربة ورافعتها السياسيّة. كما كان للوهابية دور كبير في تمويل الجماعات التكفيرية وتسليحها.

وكان مدخل الخمينيّة إلى دعم نظام الاستبداد العربي افتعال التناقض بين الثورة والمقاومة في السياق السوري، وهو في حقيقته تقابل بين المقاومة العضوية التي تجد شروطها في بيئتها الحاضنة (غزّة مثالا)، والمقاومة الوظيفية التي غيّرت وجهة بندقيّتها من مارون الراس وبنت جبيل باتجاه القصير ويبرود وحلب.

تمكّنت الخمينيّة من تطييف ثلاث دول عربية وتهشيمها، وهي العراق (بالتعاون مع الأميركان)، وسوريا (بالتعاون مع الروس)، واليمن (بالتعاون مع أقلية طائفية وبقايا استبداد).

التقت هذه الأصوليات الثلاث على الأرض السورية، واجتهدت في ألاّ يكون الاسلام السياسي -الذي حظي بالتفويض في ما جرى من انتخابات ديمقراطية حرة وفّر شروطها الانتفاض المواطني الاجتماعي- شرطا لتأسيس الديمقراطية في المجال العربي.

قطر وتركيا تعاقَبان صهيونيًّا بواسطة "الصهاينة العرب"، ليس بسبب ما ينسب إليهما من دعم للإرهاب، ولكن بسبب وقوفهما إلى جانب المقاومة/الثورة. ولم يُعرف لقطر وتركيا موقف مناهض للمقاومة والثورة في المجال العربي قطّ، رغم أثر المصالح على السياسة وعلى سلوك الأنظمة في مجال شديد التقلّب كالمجال العربي

وكانت هناك ظروف دوليّة تتعلق بمصالح تقليدية وأخرى حادثة، عملت على اجتثاث كل الروافد التي يمكن أن تُسند مسيرة الاسلام السياسي نحو تأسيس الديمقراطية في المجال العربي.

للإسلام السياسي عوائقه الذاتيّة التي تمنعه من أن يكون أهمَّ شروط تأسيس الديمقراطيّة والمواطنة الاجتماعيّة. وقد بدأ هذا الدور ينحسر في المجال العربي إلى درجة صار فيها الإسلام السياسي في بعض الأقطار طرفا في تسويات سياسيّة، تعيد إنتاج نظام الاستبداد في شكل مافيات ولوبيات للمال متنفّذة ومستظلّة بديمقراطيّة تمثيليّة مؤطّرة، وغير قادرة على تأسيس الحريّة والعدالة الاجتماعيّة.

غير أنّ ما كان من انقلاب فاشل على تركيا السنة الفارطة وما يعرفه مجلس التعاون الخليجي من توترات، يشير إلى عودة الإسلام السياسي إلى الصدارة طرفا في صراع دولي غير منفصل عن المصالح الاستعماريّة القديمة. وهو صراع لن يكون بعيدا عن استحقاقات الثورة والمقاومة والمواطنة الاجتماعيّة.

وهنا يأتي الحديث عن الاستثناء التركي القطري؛ فقد مثّلت تركيا باعتبارها الإسلام السياسي الذي بلغ مرحلة العدالة والتنمية وأسّس ديمقراطيته الخاصة، وقطر باعتبارها سندا لوجستيا وإعلاميّا للمقاومة والثورة، رافدين أساسييّن للثورة والمقاومة والمواطنة (مساندة الثورة والديمقراطية لم يصحبها اتصاف بالثورية والديمقراطية).

وهذا ما جعل منهما داعما أساسيّا لأحد أهم شروط تأسيس الديمقراطيّة في المجال العربي وهو الإسلام السياسي، وبالأخص جماعة الإخوان المسلين المتّهمة بالإرهاب.

هذا ما يفسّر استهداف تركيا بالانقلاب وقطر بالاستئصال، وهو ما يفسّر أيضا تضامنهما والتقاءهما. وقد مثّلت الدولتان -قبل الثورة- الاستثناء في المجال العربي والإسلامي، والحالة الجديدة التي توسّطت ما كان يعرف بدول الممانعة ودول التطبيع.

قطر وتركيا تعاقَبان صهيونيًّا بواسطة "الصهاينة العرب"، ليس بسبب ما ينسب إليهما من دعم للإرهاب، ولكن بسبب وقوفهما إلى جانب المقاومة/الثورة. ولم يُعرف لقطر وتركيا موقف مناهض للمقاومة والثورة في المجال العربي قطّ، رغم أثر المصالح على السياسة وعلى سلوك الأنظمة في مجال شديد التقلّب كالمجال العربي.

هذان الموقفان، لا ينفكان عما يعرفه السياق مع ثورة الحرية والمواطنة الاجتماعية من توق إلى بناء كيانه السياسي الاقتصادي اللساني الواحد، على غرار المجالين الجارين التركي والإيراني.

ولن تجد العلاقة التركيّة الإيرانيّة العربية توازنها إلا بانبناء الكيان العربي المشروط بزوال ثلاثي الإرهاب والانقلاب والاغتصاب. وهو أمر لا يزال بعيدا رغم ما يدل عليه من مؤشرات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.