القارة العجوز وظاهرة ترمب

U.S. President Donald Trump (C) is flanked by British Prime Minister Theresa May (L) and NATO Secretary General Jens Stoltenberg during in a working dinner meeting at the NATO headquarters during a NATO summit of heads of state and government in Brussels, Belgium, May 25, 2017. REUTERS/Matt Dunham/Pool

شرخ قديم متجدد
اهتراء المظلة الأمنية
المصالح و"الحرب التجارية" 

لن تعود العلاقات الأميركية الأوروبية إلى سابق عهدها منذ الحرب العالمية الثانية، حتى وإن أمكن الخروج من المشهد الكاريكاتوري الحالي الذي يظهر فيه الرئيس الأميركي مراهقا سياسيا بإمكانات كبيرة، بينما تظهر أوروبا في موقع الحكمة السياسية وإن كانت تعاني من وطأة أزمات عديدة تذكر بلقبها القديم: القارة العجوز.

شرخ قديم متجدد
تظهر معالم المشهد الراهن في المتابعة الإعلامية الأميركية -وليس الأوروبية فقط- لتصريحات المستشارة الألمانية ميركل "المتوازنة" في رفضها لمواقف ترمب خلال زيارته لأوروبا، مع الإشارة إلى السعي لترعى أوروبا نفسها بنفسها، وهو ما يجد تفاعلا إيجابيا داخليا وأوروبيا لا سيما من جانب الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون.

ويعود جانب من الحكمة السياسية الأوروبية في المرحلة الحالية إلى توقعات ممزوجة بالتمني ترى أن ترمب لن يبقى في السلطة طويلا، وأن السياسة الأميركية تصنعها مؤسسات بدأت تكبح جماحه بوضوح، وهذا ما تضمنه مثلا تصريح وزيرة الاقتصاد الألمانية بريجيته تسيبريس بأنها لم تجد لدى من حاورتهم من المسؤولين الأميركيين مواقف تكرّر ما يهدد به ترمب على الصعيد التجاري الخارجي.

إذا كانت العلاقات التجارية والمالية والاقتصادية على الدوام مزيجا من "تنافس أو صراع نفوذ" دولي وتلاقي مصالح محضة، فإن ما يوصف بالمظلة الأمنية الأميركية لأوروبا تمثل المعيار الأدقّ لتسجيل منحنيات العلاقات عبر الأطلسي صعودا وهبوطا

على أن ما وصل إليه توتر العلاقات عبر الأطلسي أو "الشرخ" الجديد فيها يعود إلى تطور سبقت مظاهره الأولى وصول ترمب إلى منصب الرئاسة بزمن طويل، وإذا كانت العلاقات التجارية والمالية والاقتصادية على الدوام مزيجا من "تنافس أو صراع نفوذ" دولي وتلاقي مصالح محضة، فإن ما يوصف بالمظلة الأمنية الأميركية لأوروبا تمثل المعيار الأدقّ لتسجيل منحنيات العلاقات عبر الأطلسي صعودا وهبوطا.

على صعيد حلف شمال الأطلسي بدأ التساؤل عن مستقبل التحالف منذ ستينيات القرن الميلادي العشرين، ومن ذلك ما رصده كتاب "كيف سيكون مستقبل حلف شمال الأطلسي؟" بقلم السياسي الأميركي "الداهية" هنري كيسنجر عام 1965 (أي بعد ١٦ سنة فقط من تأسيس الحلف)، وتكرر السؤال بصيغة أخرى بقلم يوهانس شتاينهوف رئيس اللجنة العسكرية للحلف في النصف الأول من سبعينيات القرن الميلادي العشرين.

إذ نشر شتاينهوف عام 1976 كتابا يسجل خبراته المباشرة بعنوان "إلى أين يمضي حلف شمال الأطلسي؟"، ثم تكرّرت التساؤلات مع سقوط الشيوعية في شرق أوروبا مطلع التسعينيات فأصبح الطرح البديل علنيا، بل اتخذ أشكالا منظورة -لا سيما من جانب فرنسا– لإيجاد منظومة أمنية أوروبية.

فبعد عامين فقط من التضامن الاستعراضي الأطلسي عقب تفجيرات نيويورك وواشنطن (هجمات 11 سبتمبر 2001)، ظهر الشرخ القائم على أرض الواقع السياسي والعسكري، ففي 2003 ومع بداية حرب الغزو الأميركي للعراق، رفضت فرنسا وألمانيا المشاركة فيها، وردّ وزير الدفاع الأميركي آنذاك دونالد رامسفيلد بأن هذا يمثل "أوروبا القديمة"، محاولا إحداث شرخ أوروبي بتعزيز العلاقات العسكرية مع بعض بلدان "أوروبا الجديدة" شرق القارة.

وبدأت تظهر الآن مواقف وتعليقات تشير إلى أن القمة الأطلسية الأخيرة كانت أفضل هدية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الغائب الحاضر فيها، باعتبارها حققت حلم موسكو القديم بزرع وتد بين أوروبا وأميركا، وهو ما يشير إلى أهداف السياسة الرسمية التي اتبعها الرئيس السوفياتي الأسبق ليونيد بريجنيف لسنوات عديدة.

اهتراء المظلة الأمنية
واقعيا تلاشت المهمة الرسمية للمظلة الأمنية الأميركية عبْر حلف الأطلسي عندما أنشئ رسميا في 24 أبريل/نيسان 1949، وعبّر عن تلك المهمة الأمين العام الأول للحلف إسماي هاستينجس بقوله إن هدف الحلف هو "تثبيت الوجود الأميركي في أوروبا، ومنع الروس من تثبيت أقدامهم فيها، وإبقاء ألمانيا حيث وصلت بها هزيمة الحرب العالمية الثانية".

ألمانيا نفسها أصبحت عضوا أساسيا في الحلف عام 1955، ثم كان النقض الثاني للهدف المذكور عند انسحاب فرنسا من الحلف العسكري 1966 اعتراضا على "الهيمنة الأميركية عسكريا" في أوروبا، وتعرّض الحلف نفسه للسؤال عن أصل الفائدة من وجوده عقب تفكك الاتحاد السوفياتي وحلّ حلف وارسوالشرقي لنفسه عام 1991.

بدأت تظهر الآن مواقف وتعليقات تشير إلى أن القمة الأطلسية الأخيرة كانت أفضل هدية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الغائب الحاضر فيها، باعتبارها حققت حلم موسكو القديم بزرع وتد بين أوروبا وأميركا

ولم تعد فرنسا إلى العضوية العسكرية في الناتو إلا عام 2009، بعد فترة طويلة نسبيا من وصول المفاوضات الأطلسية لثماني سنوات إلى تعديل الأهداف الأطلسية في اتجاه "العولمة الأمنية"، وفق وثيقة واشنطن عام 1999.

"العولمة الأمنية" واكبت واقعيا ما يعرف بالعولمة الاقتصادية، ورافقتها فرضيات نهاية التاريخ بانتصار الرأسمالية الغربية، وتعزير انتشار "الليبرالية الجديدة"، فكان من أبرز المستجدات في الوثيقة الأطلسية اعتبار "قطع الخطوط التجارية وموجات اللجوء الجماعي" أخطارا تستدعي التحرك العسكري الأطلسي.

منذ ذلك الحين أصبحت روابط العلاقات التجارية والاقتصادية هي الأظهر للعيان ما بين ضفتيْ المحيط الأطلسي، وحيثما انتشرت المصالح الاقتصادية والمالية الغربية عالميا.

النزاع الحالي الناشب مع وصول ترمب إلى سدة الرئاسة الأميركية تحكمه هذه الخلفية لتطور العلاقات "الغربية/الغربية"، ويبرز ثقله في ميزان اتخاذ القرارات السياسية عند الرجوع إلى الصعود الكبير في حجم الثقل الاقتصادي العالمي لكل بلد رئيسي على حدة (الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا.. وغيرها) عبر علاقاتها مع بعضها بعضا ومع البلدان الناهضة كالصين والهند.

المصالح و"الحرب التجارية"
بغض النظر عن تبدلات السلطة في كل بلد على حدة، لا يستهان بإدراك صنّاع القرار -في الطرفين الأوروبي والأميركي على السواء- مدى خطورة نشوب "حرب تجارية" محتملة على الجميع، ولا ينفي ذلك توقع ازدياد مفعول الصراع التقليدي على حساب توافق المصالح.

والأرجح أن ترمب ومن ينهج نهجه في مؤسسات الدولة الأميركية يراهنون على ضعف أوروبا حاليا بسبب الأزمات الأوروبية المتلاحقة في السنوات القليلة الماضية، بدءا بآثار الأزمة المالية العالمية، ومرورا بأزمة اليونان واليورو، وانتهاء بتداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

ولكن النواة الصلبة في المسيرة الأوروبية لم تعد -كما كانت بعد الحرب العالمية الثانية- دولا ضعيفة تتعاون بعد حروب طويلة الأمد، وتعتمد في تعاونها على الدعم الأميركي الذي يرمز إليه "مشروع مارشال".

بدأ التحرك الأوروبي العملي لتطوير العلاقات الأمنية الأوروبية داخليا، كما بدأ تطوير العلاقات الخارجية الأوروبية -لا سيما الألمانية والفرنسية- مع قوى ناهضة كالهند والصين، ولا يُنتظر أن تبلغ الأزمة مع واشنطن درجة القطيعة أو المواجهة خشية من عواقبها على الطرفين

فقد سبق أن تجاوزت المسيرة الأوروبية -بزعامة ألمانية/فرنسية- أزمات كبيرة، لم تكن السياسات الأميركية الخارجية بعيدة عن "إثارتها" أو محاولة الاستفادة منها على الأقل، كالأزمة المالية التي أودت في سبعينيات القرن الميلادي الماضي بنظام ضبط تأرجح أسعار العملات الأوروبية تجاه بعضها بعضا.

وقد أفضت عام 1979 إلى وضع الأسس الأولى لولادة "اليورو" أوروبيا بعد عشرين عاما، وكذلك ولادة "مجموعة الدول السبع" عالميا للتفاهم على سياسات مالية واقتصادية في البداية، وذلك بمبادرات فرنسية/ألمانية في عهد الرئيسين جيسكار ديستان وهيلموت شميدت، وكانت تلك الأزمة أشد خطرا على المسيرة الأوروبية من أزمة اليورو حاليا.

تواجه أوروبا حاليا مشكلات أكبر من أزمة العلاقات مع واشنطن، منها إعادة صياغة العلاقات مع بريطانيا وأثر ذلك على العلاقات الأوروبية الدولية إجمالا، ومنها كبح جماح صعود اليمين المتطرف داخليا، وهو ما بدأت معالمه الإيجابية الأولى في حصيلة الانتخابات الأخيرة في هولندا وفرنسا. ومنها إعادة هيكلة العلاقات مع روسيا شرقا، وفي هذا الإطار العام يكتسب مستقبل العلاقات مع تركيا أهمية خاصة، وهي علاقات متعددة المستويات والنتائج.

وقد بدأ التحرك الأوروبي العملي لتطوير العلاقات الأمنية الأوروبية داخليا، كما بدأ تطوير العلاقات الخارجية الأوروبية -لا سيما الألمانية والفرنسية- مع قوى ناهضة كالهند والصين، ولا يُنتظر أن تبلغ الأزمة مع واشنطن درجة القطيعة أو المواجهة خشية من عواقبها على الطرفين.

لكن لا ريب في أن مستقبل هذه العلاقات -في نطاق مستقبل تطور القوة الأوروبية الذاتية والعلاقات الأوروبية العالمية- سيساهم في أن تصبح خريطة ما يسمى "النظام العالمي" مختلفة اختلافا جذريا عما كانت عليه في سنوات الاندماج الأميركي الأوروبي خلال الحرب الباردة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.