نكبة النكبات ورؤية قواسم مشتركة

الحشود ترفع أعلام فلسطيني ودول الربيع العربي بمهرجان " الأقصى في خطر" التاسع عشر الذي أقيم بأم الفحم بالداخل الفلسطيني بـ 12 من شهر سبتمبر‎-أيلول.

نجرد كلمة "النكبة" من توصيف أو إضافة فنعلم أننا نتحدث عن نكبة الاحتلال الاستيطاني في فلسطين، فهي في وعينا المعرفي التاريخي النكبة الكبرى، وقد تعددت استخداماتنا للمصطلح نفسه ولتوظيفه -إلى جانب عبارتيْ الكارثة والمأساة وما شابه ذلك- في أدبياتنا الفكرية والسياسية، لا سيما خلال السنوات الست التي مضت على اندلاع شرارة أولى الثورات الشعبية التغييرية العربية.

وقد آن أوان تطوير تعاطينا مع هذه الكلمة في إطار تعاملنا مع "نكباتنا" العديدة، لاستعادة الزمام في مسار تاريخنا وتوجيهه نحو التحرر والوحدة والنهوض.

لكن ينبغي -بادئ ذي بدء- التأكيد على أن نكبة ١٥ مايو/أيار ١٩٤٨ هي نكبة النكبات، فهي بعد سايكس بيكو المحطة الكبرى لما بعدها في حقبة تاريخية نعاصرها، وستبقى هذه مكانتها وإن تراءى غير ذلك لمن ينظر نظرة تجزيئية إلى ما عصف بالمنطقة من أحداث، حيث أرهقتها ظلمات حروب الاحتلال وقمع الثورات ونشر مزيد من الفوضى الهدّامة مكانها.

ينبغي التأكيد على أن نكبة ١٥ مايو/أيار ١٩٤٨ هي نكبة النكبات، فهي بعد سايكس بيكو المحطة الكبرى لما بعدها في حقبة تاريخية نعاصرها، وستبقى هذه مكانتها وإن تراءى غير ذلك لمن ينظر نظرة تجزيئية إلى ما عصف بالمنطقة من أحداث، حيث أرهقتها ظلمات حروب الاحتلال وقمع الثورات

كثيرا ما تنزلق أقلامنا حاليا تحت وطأة المشاهد الكارثية إلى مقارنات مضطربة وخطيرة تضاعف تمزيق قضايانا وجهودنا، وتهوّن -دون قصد غالبا- من شأن ما شهدناه خلال العقود الماضية في ساحة قضية فلسطين، على خلفية أحداث متلاحقة من قبل الاحتلال الأميركي لبغداد وحتى الآن.

ثم التعامل الدولي مع أحداث من قبيل مذابح ميدان رابعة وخان شيخون وغيرها، والأمواج البشرية المبعثرة تشريدا ونزوحا في العراق وسوريا واليمن وسواها، وعمليات الإبادة الجماعية المباشرة وبالحصار والتجويع كما في تعز وغزة والغوطة الشرقية، ناهيك عن المقارنة بين ألوان من الاحتلال والعدوان كالاستعمار الاستيطاني الأجنبي والاحتلال الاستيطاني الطائفي.

فكل حدث من هذه الأحداث نكبة من النكبات، لكن كانت حاضنتها الأولى نكبة ١٩٤٨، التي كانت بدورها حصيلة ما سبقها من رؤى وأحداث وتطورات منذ سايكس بيكو ووعد بلفور.

إن أول مَعْلَمٍ خطير من معالم وعينا "النكبوي" -إن صح التعبير- هو تقبّلُنا إحساسا وفكرا وواقعا لرؤية "سايكس بيكو الأجنبية العدوانية"، التي عزّزت تمزيق النسيج الواحد إلى أوطان ودول وحدود وأعلام واتجاهات متعددة، حتى وصل هذا إلى درجة "بدهيات" مزيفة استقرت في وعينا شعوبا وأنظمة وتيارات، وانعكست مثلا في تقديس كلمة "أولاً" ونحن نلحقها بالوطن أو البلد جغرافياً، وبالسلطة أو الحزب سياسيا، وبالاقتناع الفردي أو التصور الجمعي عقديا وفكريا.

وشمل ذلك أيضا تعاملنا مع نكبة النكبات منذ رُفع شعار "فلسطين قضية الفلسطينيين"، وشعار "الممثل الشرعي الوحيد لقضية فلسطين" وما شابه ذلك للتغطية على كارثة التخلي الرسمي العربي عن القضية، حتى سقط مسارها تدريجيا على منحدر الصمود والتصدي فالدعم والتضامن ووصل إلى "ممانعة" مزعومة.

وحدث ذلك جنبا إلى جنب مع ازدياد ممارسات التقييد والملاحقة والحصار لمن يتمسك بالمقاومة فعلا ويرفض "التطبيع" جملة وتفصيلا، ولمن يأبى سدّ سبل التغيير إلا في اتجاه ما سُمّي خيار السلام الإستراتيجي "الوحيد".

ليس مكمن الخطر الأكبر -على المدى البعيد- فيما صُنع ويصنع سياسيا وعسكريا على هذا الصعيد، بل في تنشئة الأجيال عليه عبر المناهج التربوية والتعليمية والإعلامية.

فلم تعد النسبة الأعظم من الجيل الجديد -في معظم أقطارنا العربية والإسلامية- تدرك ما يعنيه وجود قضية محورية مركزية عنوانها فلسطين، ناهيك عن تبنيها والعمل لها، وغابت حتى المعلومات الأساسية حول المحطات التاريخية الكبرى للقضية، بعد أن أصبحت الأولوية "القُطرية" تهيمن على صياغة المناهج وتطبيقها.

الثورات العربية وسواها من الأحداث "الشعبية" -بمنطلقاتها وضحاياها في سوريا والعراق ومصر وليبيا واليمن وغيرها- أصبحت قضايا متفرقة تخص كل شعب من شعوب "الأقطار الشقيقة" على انفراد.. وفق "خطوط سايكس بيكو" التي ترسخت في وعينا الذاتي، القُطري والعربي والإسلامي

ومنذ الشرخ القومي "الطوراني/العربي" في فترة الحرب العالمية الأولى وسايكس بيكو، ونحن نصنع في وعينا الفردي والجمعي مزيدا من الشروخ بعشرات المسميات والعناوين، على رحى طواحين علمانية.. إسلامية.. حركية.. سلفية.. حزبية.. قُطرية.. مناطقية.. مذهبية.. طائفية، وجميعها يحوّل الإرادة الشعبية المشتركة إلى مِزَقٍ عاجزة عن مواجهة مسلسل النكبات والفوضى الهدامة المتواصلة.

إن حصيلة هذه الشروخ هي الجواب على أسئلة مريرة تتردد على ألسنة كثير من ضحايا النكبات والكوارث المتتالية بعد نكبة النكبات:

علامَ لم يصنع مشهد حمزة الخطيب وإيلان الكردي -وأقرانهما في ساحة قمع الثورة في سوريا- تحركا جماهيريا كما صنعه مشهد محمد الدرة في ساحة قمع الانتفاضة الفلسطينية قبل سنوات؟

علامَ لا تأخذ مذابح كبرى وقعت ما بين رابعة وتعز وخان شيخون -وما قبلها وما بعدها- مكانتها في وعي الشعوب العربية قبل سواها، كالتي أخذتها مذابح دير ياسين وأخواتها ردحا من الزمن؟

علامَ لا تتحرك "الأمّة" لتُحرِّك شعوب العالم مع "سقوط" صنعاء وربما دمشق، بل بنغازي والقاهرة بصورة أخرى من صور السقوط، وحتى الموصل وحلب.. مثلما تحركت الأمة وتحرك العالم يوم "سقوط بغداد" أو سقوط أميركا حضاريا في بغداد؟

الجواب على هذه التساؤلات وأمثالها جواب مفجع مؤلم.. إن الثورات وسواها من الأحداث "الشعبية" -بمنطلقاتها وضحاياها في سوريا والعراق ومصر وليبيا واليمن وغيرها- أصبحت قضايا متفرقة تخص كل شعب من شعوب "الأقطار الشقيقة" على انفراد.. وفق "خطوط سايكس بيكو" التي ترسخت في وعينا الذاتي، القُطري والعربي والإسلامي والإنساني.

مضى قرن كامل على سايكس بيكو، ونرصد حاليا ما يعتبره بعضنا نسخة ثانية منها، وشهدنا خلال هذه الفترة ولادة محورين لرؤى عابرة للحدود والانتماءات، محور القومية العربية ومحور الحركة الإسلامية، وقد اغتيل المسار القومي عبر كارثة ١٩٦٧ ونتائجها، وكانت أدوات الاغتيال الرئيسية حروبا عدوانية أجنبية، ويكاد يتم اغتيال المسار الإسلامي حاليا عبر التعامل مع ما سُمّي "الربيع العربي"، وأدوات الاغتيال الرئيسية خليط من عدوان خارجي واقتتال داخلي.

في الحالتين كان انتشار الاستبداد والفساد هو الأرضية الحاضنة لمسلسل السقوط في منحدر النكبات، وكان القاسم المشترك بين أدوات تقويض أي رؤية للخروج من المنحدر: قهر الإرادة الشعبية المتطلعة للتحرر والعدالة والتقدم، وتمزيق أي عمل ينبثق عنها، بحصاره وراء القضبان ووراء الحدود والأعلام وأشباه دول صغيرة وكبيرة، ضمن معادلة الهيمنة الأجنبية والتبعية المحلية.

نحتاج إلى رؤية مستقرة وجامعة ما بين هوية القيم وحداثة الوسائل، للتحول معا من منحدر النكبات والهزائم والتخلف إلى مرتقى الإنجازات والانتصارات والتقدم، والمقصود بالرؤية المستقرة الجامعة هو التلاقي على قواسم مشتركة كبرى، واستيعاب الوسائل الحديثة للعمل المشترك

وعلى هذه الخلفية نحتاج إلى رؤية مستقرة وجامعة ما بين هوية القيم وحداثة الوسائل، للتحول معا من منحدر النكبات والهزائم والتخلف إلى مرتقى الإنجازات والانتصارات والتقدم، والمقصود بالرؤية المستقرة الجامعة هو التلاقي على قواسم مشتركة كبرى، واستيعاب الوسائل الحديثة للعمل المشترك.

فلا نمضي وراء أوهام "تطابق" ما نراه متفرقين وهذا مستحيل، بل ننطلق من تكامل الأفكار والأهداف وصياغة مخططات لأعمال تتكامل إنجازاتها عبر ما يربطها من قواسم مشتركة بين سائر قضايانا: جغرافياً.. انطلاقا من قضية فلسطين إلى ما بلغته مسارات ثورات الربيع العربي رغم التحرك المضاد لها. ونوعياً.. انطلاقا من قضية التخلف وما وصل إليه تمزيق شعوبنا على كل صعيد، لا سيما عبر النزعات العنصرية والطائفية.

الخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي إحياء وعينا الفردي والجمعي على أرضية تشابك النكبات ونتائجها مما عايشناه ونعايشه، واعتبار هذا التشابك -في ظل غياب وعي مشترك- هو المصنع الأول لسائر الأسباب المتجددة بأشكال متعددة والكامنة وراء تكرار حلقات مسلسل خطير على مستوى كل قُطر على حدة، وكل اتجاه على حدة، وكل قضية على حدة.

إذ ندعو ونفكر ونتحرك ونعمل وقد نواجه ونتصدّى ونقاوم ونقدم التضحيات، ثم نجد أنفسنا مرة بعد أخرى في درجة أدنى من سابقتها على منحدر النكبات والهزائم والتخلف وقهر الإرادة الشعبية في بلادنا، بالحديد والنار، بأيدينا قبل أيدي أعداء شعوبنا وبلادنا.

آن أوان بذل جهود فكرية وعملية وتربوية تتجاوز الحواجز الجغرافية وسواها لتوحيد وعينا التاريخي المشترك، حتى نتجاوز معا ما صنعت بنا متفرقين حقبة سايكس بيكو وحتى نكبة النكبات.

هذا شرط أولي لتكامل جهودنا وما يواكبها من تضحيات من أجل تحرير الإرادة الشعبية في بلادنا، لتتحرر قضايانا من مفعول التجزئة والأنانيات والنزاعات.. ومن دون ذلك سنبقى جميعا أتباعا صغارا في عالمنا المعاصر وتكتلاته الكبرى، وتبقى قضايانا ومصائرنا رهن ما يصنعه الكبار بفريق منا بعد فريق، وبلد بعد بلد، وقضية بعد قضية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.