فوز ماكرون فرصة للتصحيح والاعتدال في فرنسا

French President-elect Emmanuel Macron celebrates on the stage at his victory rally near the Louvre in Paris, France May 7, 2017. REUTERS/Christian Hartmann TPX IMAGES OF THE DAY

اصطفاف الضرورة
استدراكات عاجلة 

‏لا مفاجأة في نتائج الانتخابات الفرنسية كما خرجت بها مراكز التصويت البارحة. فقد كان متوقعاً بعد الجولة الأولى من الاقتراع الرئاسي أن يحظى السياسي الصاعد سريعاً إيمانويل ماكرون بثلثيْ الأصوات تقريباً، وأن يدخل الإليزيه الذي لم يتهيّأ بعدُ لزعامة متشنجة على شاكلة مارين لوبان، حتى ولو كانت حالة الطوارئ معلنة.

اصطفاف الضرورة
اصطفّت النخبة السياسية الفرنسية والأوروبية في لحظة حرجة مع ماكرون، فخاض معركة مريحة في الدور الثاني من الانتخابات. كما اجتذب "السياسي الشاب" الإعلام والأضواء هو وزوجته، وصعد إلى الرئاسة مدعوماً بجمهرة الناخبين الذين انحازوا لنبرته المعتدلة ووعوده بالإصلاح المنفتح، فحجبوا أصواتهم عن خيارات متطرفة وهواجس مقبلة تجسدها بديلته التي تريد العودة بفرنسا إلى القرن الماضي أو أبعد من ذلك، بما في ذلك الفكاك من أوروبا الموحدة.

برز ماكرون من بين أنقاض الطبقة السياسية الفرنسية، فالرئيس فرانسوا هولاند ذاته لم يجرؤ أساساً على خوض الانتخابات بعد أن أدرك وحزبه انعدام فرص فوزه، أما وجوه يمين الوسط من حزب "الجمهوريين" وريث الديغولية فأثقلتهم الفضائح وطاردتهم الشبهات، بينما لم يكفّ أقصى اليمين عن رفع صوته وتعبئة فراغات شعبية خلّفها الوسط السياسي.

فاز ماكرون مكللاً ببريق غاب عن الطبقة السياسية الفرنسية طويلاً، وقد يراه بعضهم "أوباما فرنسياً"، بالنظر إلى هالة الأمل التي أحاطت بالرئيس الأميركي السابق زمن صعوده، بينما كانت لوبان ستبدو نظيرة ترمب في الإليزيه.

اجتازت عربة ماكرون السباق الرئاسي بحصانين أحدهما يحمل روحاً أخلاقية وإصلاحية منفتحة، والآخر يعبِّر عن استمرار المؤسسة التقليدية التي عمل ضمنها، ثم دعمته وساندته للفوز بعد أن انتفت الخيارات البديلة في ناظريها.

فاز ماكرون مكللاً ببريق غاب عن الطبقة السياسية الفرنسية طويلاً، وقد يراه بعضهم "أوباما فرنسياً"، بالنظر إلى هالة الأمل التي أحاطت بالرئيس الأميركي السابق زمن صعوده، بينما كانت لوبان ستبدو نظيرة ترمب في الإليزيه

على سيد الإليزيه الجديد أن يختار الآن أحد الحصانين، فإما الاستمرارية وتكرار نهج سابقيه والوفاء لتقاليد الطبقة السياسية المهيمنة؛ أو خوض إصلاحات جريئة لتخليص فرنسا من معضلات بنيوية واقتصاد مترهل ومجتمع منقسم وشحنات متطرفة.

إنها لحظة مؤهلة للتصحيح لكنها قابلة للتبديد بمواءمات غير مجدية، وهي لحظة تتطلب إرادة سياسية للإصلاح والتغيير وبناء الثقة واستيعاب التنوع، فجمهورية ماكرون تحوز فرصة نادرة لإبرام مصالحة مع شبابها المتذمر في الأحياء والضواحي، واسترجاع ثقة متدهورة مع مكونات من مواطنيها يقع تهميشهم وإقصاؤهم، ويعانون من اختلالات في تكافؤ الفرص في الحياة العملية علاوة على ازدرائهم بتعبيرات شتى غير مباشرة.

لكنّ خوض التصحيح يتطلب ثقافة مجتمعية داعمة، حسب الدرس الأخير من النمسا التي اضطر رئيسها المعتدل ألكسندر فان ديربيلين إلى التراجع عن إشارة تنبيه عارضة أطلقها ضد حُمّى الإسلاموفوبيا، ثم رضخ لضغوط شديدة الوطأة طالبته بالاستقالة بعدها. بعث الموقف برسالة من فيينا لن تتجاهلها عواصم أوروبا عن أهمية الثقافة الداعمة للتصحيح ومخاطر غيابها، وهي رسالة يسمع حسيسَها زعماءُ يخشون الكلفة الباهظة للجرأة السياسية والإصلاحات الجادة.

ثمة مشهد صدامي ساخن تجنّبته فرنسا عندما أحجمت أغلبيتها عن التصويت للمتطرفة لوبان. ففوزها كان سيُطلِق موجة رفض أخلاقية تتضامن ضدها في مدن فرنسا، أو كان سيُشعل اضطرابات عارمة في الضواحي التي دأبت السياسية المتطرفة على ازدرائها.

لكنّ نتائج الاقتراع ضمنت لفرنسا ليالي هادئة دون أن ينفي ذلك حاجة البلاد إلى مراجعات أخلاقية واستدراكات قيمية. فحقيقة صعود سياسية متطرفة مغامرة إلى الشوط الثاني من الرئاسيات بعد تأهّل والدها المتطرف -حين كان زعيما للحزب- إلى دور ثانٍ أيضاً قبل خمس عشرة سنة؛ إنما تعني استمرار معضلات مبدئية لم يقع الاعتراف بها بعدُ كما ينبغي.

لكنّ الحالة استشرت في الواقع منذ صعود لوبان الأب وحتى بروز ابنته، حتى إنّ أبرز المتنافسين السياسيين -قبل بزوغ نجم ماكرون أخيراً- ظلّوا يتبارون في حشر إيحاءات متطرفة ضمن خطاباتهم ومواقفهم، تحديداً في ما يتعلق بالمسلمين والهوية والقيم والثقافة والأمن واللاجئين.

فنبرة التشنج اجتاحت الساحة السياسية مع الجيل التالي من القادة بعد لوبان الأب، وكثيراً ما جرى ذلك بذريعة قيم الجمهورية التي تحوّلت في خطاباتهم إلى هراوة أخلاقية لتأديب مكوِّنات مجتمعية وتأنيبها.

استدراكات عاجلة
إنّ الاستجابة الخاطئة التي قد تأتي من ماكرون بعد تقلده الرئاسة هي أن ينزع مثلاً إلى تملّق ثلث الفرنسيين -أي الذين صوتوا للمتطرفة لوبان- كما فعل سابقوه، فقد يكبح الرئيس الجديد نبرته العقلانية أو ينزاح يميناً في خطابه أو أدائه الفعلي؛ لا سيما أن عهده يشهد اختبارات جدية كالتي عرفها سلفه هولاند مع ملف اللاجئين والاعتداءات الدامية.

إنّ الطمأنة المجدية والعميقة للبلاد بكل مكوناتها هي في منح الأمل وخوض الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، وإطلاق الفرص التي من شأنها تجفيف المستنقعات الحاضنة للانقسامات المجتمعية، والضغائن والأحقاد، والتطرف السياسي والإرهاب أيضاً.

وكما كشفت انتخابات الرئاسة الفرنسية عن تضعضع الأحزاب الجماهيرية التقليدية؛ فقد أظهرت ضمناً حاجة فرنسا إلى تجديد طبقتها السياسية وأولويات الأحزاب وخطاباتها، وقد يكون صعود ماكرون -على أي حال- نقطة تحوّل استدراكية في هذا المسار. إنها فرصة مهمة للحياة السياسية الفرنسية كي تتجدّد وتتقدم دون أن يضمن ذلك تمكّن الرئيس الجديد فعلاً من النهوض بهذا الدور كما ينبغي.

انتهت جولة الوعود وحُسمت معركة الصناديق، ولا مفرّ أمام فرنسا الآن -إن أرادت المضي "إلى الأمام" حسب اسم حزب ماكرون- من أن تتحرر من عقلية الأزمة، ومن منطق الطوارئ الذي يخيم عليها منذ زمن

ومن مؤشرات التجديد أن يقع الكف عن التستّر على المعضلات المزمنة عبر إشغال "الغران ناسيون" (الأمة الكبيرة) وفق التعبير الفرنسي التقليدي، بقِطَع قماش ترتديها مسلمات أو بنوع ملابس السباحة المسموح بها.

لقد استدرج هذا المنحى من الافتعال السياسي والإعلامي والثقافي النخبَ والسلطات والمجتمع إلى قضايا مصطنعة بعيداً عن ملفات كبرى مزمنة، حتى بدا وكأنّ زعماء فرنسا الفاشلين دأبوا على كنس القضايا والملفات والأزمات تحت ملابس امرأة مسلمة متسترة، كما صوّر ذلك رسم ساخر شهير.

ومن القسط القول أيضاً إنه الطبقة السياسية التي ساهمت بنصيبها في إذكاء حمى التطرف السياسي والمجتمعي، ولعلها عززت بشكل أو بآخر صعود لوبان ذاتها إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية.

انتهت جولة الوعود وحُسمت معركة الصناديق، ولا مفرّ أمام فرنسا الآن -إن أرادت المضي "إلى الأمام" حسب اسم حزب ماكرون- من أن تتحرر من عقلية الأزمة، ومن منطق الطوارئ الذي يخيم عليها منذ زمن.

فمسؤولية حماية مواطنيها من التهديدات والمخاطر ينبغي ألا يُسمَح لها بأن تقود البلاد إلى ردّة قيمية وروح متشنجة، محفوفة بمزايدات سياسية وتصعيد إعلامي موجَّه إلى مكوِّنات سكانية على نحو مباشر أو رمزي. 

ومن القسط الاعتراف بشكوك متضافرة تحوم حول قدرة النظام العام في فرنسا على استيعاب مشاركةِ مكوِّناتٍ وفئاتٍ فيه، فأوساط النخبة والنفوذ والقرار لا تبدو منفتحة كما ينبغي على فئات وأجيال من الشعب الفرنسي، وقد تكتفي باستحضار وجوه منتقاة بعناية لتمثيل مشهد تنوّع شكلي على مسرح الحكومة والبرلمان والإدارات.

بدون وجه جديد في السياسة -مثل ماكرون- فإنّ فرنسا كانت مهددة بالسقوط فعلياً في قبضة التطرف اليميني، بيد أنّ فوز ماكرون المعزز بوعود الانطلاق "إلى الأمام" يلقي على عاتقه شخصياً بمهام ثقال وأعباء جسام، لتخليص البلاد من ترهّل مزمن وتراجعات متراكمة. إنه يحظى الآن بفرصة التصحيح والاعتدال؛ فهل سيحتفظ بالإرادة والمثابرة والجلد لخوض التحدي؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.