نظرة نقدية أولية للوثيقة "الحمساوية"

حماس

حركة وطنية أم إسلامية؟
ما الجديد في الوثيقة؟

تحاول هذه المقالة مناقشة الوثيقة السياسية الجديدة التي انتهت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) مؤخرا من إعدادها، انطلاقا من تحليل المضمون (أي بالاعتماد على النص) وبمعزل عن أية تأويلات أو تنظيرات سياسية من خارجها، ما أمكن.

بيد أن اعتماد المنهج المذكور لا يمنع من تقديم ملاحظات عمومية حول الوثائق السياسية البرنامجية الصادرة عن الفصائل الفلسطينية، كما عرفناها، ومن ذلك: أولا، أن هذه الوثائق تبقى -في الأغلب- حبيسة أدراج المكاتب، ولا تتحول إلى برامج عمل ملزمة للقيادات المعنية. هكذا اعتمدت "حركة فتح" مثلا "البرنامج المرحلي" المتعلق بالتسوية في منظمة التحرير منذ أواسط السبعينيات، لكنها ظلت تعتمد برنامج "التحرير" حتى في مؤتمرها الرابع (1981)، وفقط جرى اعتماد البرنامج المرحلي في المؤتمر الخامس (تونس 1988).

ثانيا، ثمة بون شاسع بين المقولات أو الشعارات المطروحة في الوثائق السياسية وبين الإمكانيات، وهذا أمر مشروع من حيث المبدأ، بيد أن تلك الوثائق يفترض أن تجيب أيضا على أسئلة الواقع والمعطيات وموازين القوى والإمكانيات الذاتية، والتدرج في العملية النضالية، ومرحلة الأهداف، وصولا إلى الهدف النهائي أو المتوخى.

مشكلة البرامج السياسية للفصائل أنها لا تطرح للنقاش العام مما قد يغنيها أو يفيدها، لا سيما أن هذه فصائل تطرح نفسها ممثلة للشعب، وأنها فصائل وطنية، وأن ما تقوم أو ما لا تقوم به يؤثر مباشرة على الفلسطينيين، بمعنى أنه كان حريا بـ"حماس" أن تطرح وثيقتها للنقاش العام

ثالثا، تحاول البرامج أن تقول كل شيء -وكأنها تنشد البراءة أو مجرد الاستهلاك الجماهيري- لكنها في ذات الوقت لا تقول شيئا متعينا. ومثلا، معظم البرامج تتحدث عن اعتماد الكفاح المسلح، لكن لا أحد يحدد ما هي الإستراتيجية العسكرية للفلسطينيين في ظروفهم الخاصة؟ ولا أحد يكلف نفسه بشرح ذلك منذ ستة عقود، بل ترك الأمر للعفوية والتجريبية.

رابعا، مشكلة البرامج السياسية للفصائل أنها لا تطرح للنقاش العام مما قد يغنيها أو يفيدها، لا سيما أن هذه فصائل تطرح نفسها ممثلة للشعب، وأنها فصائل وطنية، وأن ما تقوم أو ما لا تقوم به يؤثر مباشرة على الفلسطينيين، بمعنى أنه كان حريا بـ"حماس" أن تطرح وثيقتها للنقاش العام.

بقيت ملاحظة تتعلق بالمقالة المتميزة للصديق ساري عرابي التي نشرت في موقع الجزيرة نت، إذ مع عرضها لتطور الفكر السياسي لحركة حماس -وهذا أمر هام- أفادت أيضا بتجنيبي تكرار بعض الانتقادات، وضمن ذلك التنويه إلى تماهي بعض بنود الوثيقة مع بعض مواد الميثاق الوطني الفلسطيني (مثلا المواد: 2 و4 و5 و11 و12 و13، و17 و18 و20)، علما بأن هذا التماهي تأخر كثيرا.

حركة وطنية أم إسلامية
منذ مطلع الوثيقة بدا أن هناك اضطرابا في تعريف "حماس" لذاتها، باعتبارها حركة "وطنية فلسطينية إسلامية، هدفها تحرير فلسطين.. مرجعيتها الإسلام في منطلقاتها وأهدافها السامية".

وربما كان الأصوب أن تكتفي بتعريف ذاتها كحركة وطنية مرجعيتها الإسلام في منطلقاتها الفكرية، لأن ذلك حق لها أو لمنتسبيها، ولأن تعريف الوطني يمكن أن يشمل كل التيارات الفكرية والسياسية وضمنها الإسلامية، إذ التمييز هنا بالدين زائد وينطوي على تغليب الديني على السياسي أو الإسلامي على الوطني، خصوصا أن الهدف هو التحرير ومواجهة المشروع الصهيوني -بحسب الوثيقة- وليس أمرا آخر.

هذا يأخذنا إلى الحديث عن المادة الثالثة التي تعتبر أن "أرض فلسطين أرض عربية إسلامية"، علما بأن الأرض -أو الدولة- هي مفهوم سياسي حديث، والأرض أو الدولة لا دين لها، فالديانات للبشر أو للمواطنين.

أما إذا كانت هذه المادة تتحدث عن أن أغلبية الفلسطينيين هم من المسلمين فهذا أمر آخر، ولا حاجة لذكره لأنه ينطوي على تمييز إزاء باقي المواطنين، علما بأن الدولة (الأرض في إقليم متعين) هي لكل المواطنين بغض النظر عن دياناتهم.

فمثلا، ثمة في الهند أديان متعددة ضمنها الإسلام، فهل يقول أحد إن الهند للسيخ أو للبوذيين أو للمسلمين؟ وفوق كل ذلك فإن هذه المادة لا داعي لها لأنها متضمنة في المادة الثانية، أي أنها مكررة.

أيضا المادة السابعة تتحدث عن أن "فلسطين في موقع القلب من الأمة العربية والإسلامية"، وهي مادة تنطوي على عبارات إنشائية وعاطفية، لا ترجمة حقيقية لها في الواقع الملموس، وتنطوي على إقحام الديني في الدنيوي، وضمنه استحضار التاريخ الإسلامي في الصراعات السياسية في عصرنا الراهن، أي إسقاط صراعات الماضي بموضوعاتها المختلفة على صراعات الحاضر.

وهذا يشمل المادة العاشرة التي تتعلق بالقدس، فمع التقدير لمكانة القدس الدينية لدى مختلف الأديان السماوية إلا أنها جزء من فلسطين، وما ينطبق عليها ينطبق على أية مدينة أخرى وبالعكس. فهل إذا وجدنا حلا لمدينة القدس أو حررناها تنتهي القصة مع إسرائيل أو الصهيونية؟

بيد أن أكثر ما ظهر في تغليب حركة "حماس" لطابعها كحركة إسلامية على طابعها كحركة سياسية وطنية تمثل في البندين الثامن والتاسع، إذ تضمن أولهما الآتي: "تفهم حركة حماس الإسلام بشموله جوانب الحياة كافة، وصلاحيته لكل زمان ومكان، وروحه الوسطية المعتدلة، وتؤمن أنه دين السلام والتسامح، وفي ظله يعيش أتباع الشرائع والأديان في أمن وأمان. كما تؤمن أن فلسطين كانت وستبقى نموذجا للتعايش والتسامح والإبداع الحضاري".

السؤال هنا -سواء أيدنا هذا النص أم لا- هو ما علاقته بوثيقة سياسية؟ ثانيا، ما هو النظام السياسي للإسلام؟ أو ما هو النظام الإسلامي في هذه الدولة الإسلامية أو تلك؟ وثالثا، ماذا بشأن تجارب الدول الإسلامية أو التي تتغطى بالإسلام، والمقصود هنا إيران أو السودان، وحتى تجربة سلطة "حماس" في غزة مثلا (التي انتقدها زعيمها خالد مشعل وغيره من القادة)؟

ولعل هذا يشمل التساؤل عن مآلات حركات وأحزاب إسلامية، من حزب الله في لبنان وفصائل مثل زينبيون ونجباء وفاطميون وكتائب أبو الفضل العباس في العراق، إلى تنظيم القاعدة وأخواته من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) إلى جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقا). إذ كل واحد من هؤلاء يدعي أنه يمثل الإسلام وأنه الوصي على المسلمين ويكفر غيره أو يخرجه من الملة؟

أما البند الثاني (التاسع)، فتضمن: "تؤمن حماس أن رسالة الإسلام جاءت بقيم الحق والعدل والحرية والكرامة، وتحريم الظلم بأشكاله كافة، وتجريم الظالم مهما كان دينه أو عرقه أو جنسه أو جنسيته، وأن الإسلام ضد جميع أشكال التطرف والتعصب الديني والعرقي والطائفي، وهو الدين الذي يربي أتباعه على رد العدوان والانتصار للمظلومين، ويحثهم على البذل والعطاء والتضحية دفاعا عن كرامتهم وأرضهم وشعوبهم ومقدساتهم." وطبعا ليس الخلاف على مضمون هذا الكلام، ولا عن حق حركة "حماس" ومنتسبيها الاعتقاد به، لكن هذا البند زائد عن الحاجة.

من ناحية أخرى؛ فإن الحديث هنا لا يتعلق بالإسلام كدين، أو كرسالة سماوية، وإنما يتعلق بالسلطة، وتحديدا البشر الذين يمارسون الحكم باسم الإسلام، فهؤلاء قد يخطئون وقد يصيبون، وقد ينجحون وقد يخفقون، لذا من غير الصائب إحالة الأمر للإسلام كدين، وتحميله تقلبات مصالح وأغراض البشر ونزواتهم.

أخيرا، ثمة في البند (14) حديث عن أن "المشروع الصهيوني لا يستهدف الشعب الفلسطيني فقط، بل هو عدو للأمة العربية والإسلامية"، فإذا افترضنا صحة ذلك فيما يتعلق بالأمة العربية، فما وجه الخطر الذي تمثله إسرائيل على الشعوب الإسلامية في إندونيسيا أو باكستان أو بنغلاديش أو أفغانستان أو ماليزيا أو تركيا، أو دول آسيا الوسطى، مثلا؟ ولماذا علينا الادعاء بشيء لا تدعيه هذه الدول ذاتها؟

ما الجديد في الوثيقة؟
كنت أشرت إلى أن في الوثيقة الجديدة نوعا من المقاربات بين الفكر السياسي لحماس والفكر السياسي الفلسطيني السائد، لكن الملاحظة هنا أن "حماس" لم تذهب في ذلك لا إلى القطع مع "ميثاقها" الذي كانت أصدرته لحظة انطلاقها مع اندلاع الانتفاضة الأولى (1987)، ولا مع واقع كونها حركة إسلامية، وأيضا باعتبارها جزءا من حركة أكبر هي "الإخوان المسلمون"، كما نص على ذلك ميثاقها.

وعلى ذلك؛ فإن المقاربة الأهم في هذه الوثيقة مع الفكر السياسي الفلسطيني السائد، يمكن تمثلها في ثلاثة جوانب: الأول، في تمييز حماس "بين اليهود كأهل كتاب واليهودية كديانة من ناحية، وبين الاحتلال والمشروع الصهيوني، من جهة أخرى"، ورؤيتها "أن الصراع مع المشروع الصهيوني ليس صراعا مع اليهود بسبب ديانتهم…، حماس لا تخوض صراعا ضد اليهود لكونهم يهودا، وإنما تخوض صراعا ضد الصهاينة المحتلين المعتدين".

أما المقاربة الثانية فتتمثل في ورود عبارة في البند (19) تفيد بالاقتراب من البرنامج المرحلي، على النحو الآتي: "إن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من يونيو/حزيران 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة".

لكن يجدر التنبيه هنا إلى أن هذه العبارة جاءت مشروطة أو مقيدة، مما يعكس نوعا من الاضطراب أو نوعا من الاختلاف الداخلي ربما، لا سيما أن العبارة المذكورة سبقها النص على أن "لا تنازل عن أي جزء من أرض فلسطين مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال. وترفض حماس أي بديل عن تحرير فلسطين تحريرا كاملا من نهرها إلى بحرها".

في الوثيقة محاولة للاقتراب من الفكر السياسي الفلسطيني السائد، والمشكلة أن هذه المقاربة جاءت متأخرة، وأنها أتت في وضع بات فيه ذلك الفكر متقادما أو مستهلكا، وضمن ذلك الخيار المتعلق بإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع

وأتبعت ذلك بنص يفيد بأن العبارة المذكورة "لا تعني إطلاقا الاعتراف بالكيان الصهيوني، كما لا تعني التنازل عن أي من الحقوق الفلسطينية".

والسؤال الذي يُطرح هنا هو: ما هي رؤية حماس لكيفية قيام الدولة المذكورة إذن في الضفة والقطاع المحتلين (1967)؟ هل عن طريق التحرير؟ وكيف؟ أم عن طريق المفاوضة؟ وهذه تعني أن الأمر سيخضع لمساومة لا يمكن التهرب منها بأية عبارات ملتبسة أو مواربة، مما يعني أن "حماس" تنتهي إلى حيث وصلت "فتح" متأخرة، تماما كحال الجبهات الأخرى لاسيما الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

ونأتي الآن إلى المقاربة الثالثة، وهي تتعلق بالبند (23) الذي ينص على أن "مقاومة الاحتلال بالوسائل والأساليب كافة حق مشروع كفلته الشرائع السماوية والأعراف والقوانين الدولية، وفي القلب منها المقاومة المسلحة التي تعد الخيار الإستراتيجي لحماية الثوابت واسترداد حقوق الشعب الفلسطيني". أي أن الأمر لم يعد يتعلق بالكفاح المسلح وحده، وهذه مقاربة مهمة وفي محلها، وقد تحدث عنها مرارا خالد مشعل قائد حركة حماس.

باختصار ثمة في الوثيقة محاولة للاقتراب من الفكر السياسي الفلسطيني السائد، والمشكلة أن هذه المقاربة جاءت متأخرة، وأنها أتت في وضع بات فيه ذلك الفكر متقادما أو مستهلكا، وضمن ذلك الخيار المتعلق بإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع؛ هذا أولا.

وثانيا، احتوت الوثيقة المعنية على كثير من الإنشاء الذي ليس له علاقة بأوضاع الفلسطينيين المتعينة في كافة أماكن وجودهم، ولا بواقع الكيانات الوطنية الفلسطينية (المنظمة والسلطة والفصائل) التي تبدو إلى أفول، لا سيما بعد تحولها إلى سلطة في الضفة والقطاع. ثالثا، لم تقدم الوثيقة أية إضافة للفكر السياسي الفلسطيني، ولا حتى على صعيد نقد التجربة الوطنية.

مرة أخرى، كان الأجدى أن تطرح هذه الوثيقة للتداول العام لمناقشتها قبل إقرارها، وليت فصائلنا تتعلم ذلك، بدلا من أن تبدو وكأنها تتناقش مع ذاتها، أو كأنها مجرد أطر مغلقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.