انزلاقات أوروبية نحو برامج اليمين المتطرف

مظاهرة وسط لندن ضد الإسلاموفوبيا والتمييز ضد المهاجرين

التطبيع والتأثير
استحقاقات الرواق السياسي
التطرف بين الشعار والممارسة
لا مراجعة أخلاقية

يختطف أقصى اليمين السياسي الأنظار في الجولات الانتخابية عبر أوروبا، ويجتذب رموزه الأضواء، بما يثير تساؤلات عن مستقبل هذه التجارب وتأثيراتها المتعددة.

لا يضمن الفوز الانتخابي بحد ذاته صعود أقصى اليمين إلى مواقع حكومية، فمأزق التطرف أنه يبقى عبئا على شركائه في أي ائتلاف محتمل. وإن تشكّل ائتلاف حكومي كهذا، فسيفرض على أقصى اليمين تقديم تنازلات لشركائه ليقبلوا به. قد تؤول هذه المشاركة بالتالي إلى اعتدال نسبي وعقلنة في الخطاب، بما يرتد بتأثيرات عكسية على تماسك أحزاب أقصى اليمين ويقضم من شعبيتها إن تنصّلت من وعودها، فتظهر أحزاب جديدة لتعبئة الفراغ وكسب أصوات تميل إلى التطرف.

لا يسري هذا الخيار على الحالات جميعا، فتحت قيادة بيا كاسغورد برهن "حزب الشعب الدانماركي" خلال العقد الماضي أنه كان بنهجه المناهض للمسلمين ناظم الإيقاع الأبرز في الائتلافات الحكومية، ففرض مضامينه على مواقف سياسية حكومية بما يفوق حجمه الفعلي، وما كان لذلك أن يقع لولا افتقار الثقافة المجتمعية الدانماركية إلى خبرة التنوّع الثقافي فضلا عن تراجع حضور الأحزاب التقليدية.

التطبيع والتأثير
يواصل اليمين المتطرف صعوده في المواسم الانتخابية الأوروبية لكنّ التركيبات الحكومية ستبقى بمنأى عنه، فهو ما زال منبوذا فيها. قد يستغرق الأمر زمنا حتى يحظى التطرف السافر بفرصة تطبيع حضوره في الوسط السياسي، بما يؤكد أنّ خياره الأمثل هو تسخين الشارع والضغط على الساحة السياسية من مواقع المعارضة أساسا، علاوة على مراهنته الحثيثة على الفوز بمواقع الرئاسة التي لا تتطلب ائتلافات، كما شهدت النمسا في منافسات رئاسة الجمهورية سنة 2016، وهو ما تنتظره فرنسا مع فرص الصعود المحتملة لمارين لوبن.

يواصل اليمين المتطرف صعوده في المواسم الانتخابية الأوروبية لكنّ التركيبات الحكومية ستبقى بمنأى عنه، فهو ما زال منبوذا فيها. قد يستغرق الأمر زمنا حتى يحظى التطرف السافر بفرصة تطبيع حضوره في الوسط السياسي

في الحالة الفرنسية التي تتميز بالنظام الرئاسي؛ لن يدنو فوز لوبن عن تأثير مزلزل في تاريخ الجمهورية، لكنها لن تحظى بولاء الجمعية الوطنية (البرلمان) أو تعاون الحكومة معها. وفي حالة كهذه سينعقد الرهان على تأجيج الشعب باتجاه خيارات محددة؛ مثل الاستفتاء على مغادرة أوروبا الموحدة أو الوحدة النقدية "اليورو".

أما سويسرا فلديها مؤشرات على نجاح استثنائي تحقق لأقصى اليمين، ممثلا بـ"حزب الشعب السويسري" ذي الميول القومية المحافظة. لهذا صلة بخصوصية النظام الاتحادي الذي ترتكز فيه الأحزاب إلى نفوذ محلي داخل الكانتونات وإلى شراكة جامعة في التشكيل الحكومي الاتحادي (البوندسرات) المبسّط بطبيعته، كما ترتبط بروح انغلاق المجتمعات المحلية دون "العالم الواقع وراء الجبل" ورفض الغرباء القادمين للاستحواذ على "جوازات سفرنا". أتاح نظام الديمقراطية المباشرة السويسري فرصة سخية لتسخين الشعب ثم استدراجه إلى صناديق الاقتراع في استفتاءات على خيارات غير عقلانية، جاء بعضها بدوافع يمينية متطرفة.

على المنوال السويسري يدرك أقصى اليمين الشعبوي فرصته في استثارة الجماهير أو في استثمار هواجس المجتمعات. إنه يراهن الآن على التوسع في أدوات الديمقراطية المباشرة، عبر التعبئة باتجاه استفتاءات شعبية تنادي مثلا بالخروج من الاتحاد الأوروبي كما وقع في بريطانيا بفضل "حزب استقلال المملكة المتحدة" وجوقة السياسيين المتشنجين مثل وزير الخارجية بوريس جونسون، أو بالإقدام على خطوات من التفرقة كما في حالة منع المآذن في سويسرا وغيرها تساوقا مع ثقافة الحظر.

يشير هذا إلى تأثيرات موضعية محددة قد تكون جسيمة الأثر تدفع بها حمى التطرف اليميني، خاصة بالفكاك من أوروبا الموحدة أو حتى تقويضها باستفتاءات شعبية.

استحقاقات الرواق السياسي
شهد اليمين المتطرف تحويرات منذ مطلع القرن الجديد، فقد انتقل بخطابه من عنصرية تقليدية إلى أخرى انتقائية، فغابت كراهية "الأجانب" عموما لتستفرد بالمسلمين خاصة، عبر توظيف الإسلاموفوبيا، فهو نهج أوقع تأثيرا وأكثر تملّصا من النقد. اكتشف اليمين المتطرف فرصته في شن الحملات المحمومة ضد المسلمين، دون أن يلقى لوما جادا على هذا المنحى الذي يغترف من قوالب نمطية تقليدية وأحكام تعميمية مسبقة.

كما تمت معالجة شاملة لوصمة كراهية اليهود أو "العداء للسامية"، فأبرم أقصى اليمين تقاربا تاريخيا مع نظام الاحتلال في فلسطين تكلل بحماسة للسياسات الإسرائيلية المتطرفة، بما فيها العدوان الحربي والتوسع الاستيطاني. وقام رموز التطرف اليميني الأوروبي بتمجيد "الدولة اليهودية التي هي الجبهة المتقدمة ضد التطرف الإسلامي"، كما قيل مرارا.

واستعدادا لدخول أروقة الحكم؛ أعاد اليمين المتطرف إنتاج ذاته وخطابه وحضوره العام. ظهرت عناوين حزبية جديدة أو تجددت الأجيال القيادية فيما هو قائم، وهذا عبر تنازع داخلي وانقسامات أحيانا أو بتأثير إخفاقات وعوائق وإزاحات قسرية أحيانا أخرى.

أطاح التجديد بقيادات مثقلة بأعباء جسيمة، فتم الاستئناف مع دماء جديدة لإنعاش الحضور وتحقيق اختراقات أيسر. أزاحت مارين لوبن، مثلا، تجربة أبيها الذي قاد "الجبهة الوطنية" وكانت ذروة صعوده مع الشوط الثاني من انتخابات الرئاسة الفرنسية سنة 2002. وفي النمسا نجح هانز كريستيان شتراخه بإزاحة جناح يورغ هايدر بعد أن اعتدل "حزب الحرية" بفعل مشاركته في الحكومة سنة 2000 التي شكّلت سابقة في القارة. وقد آل الموقف إلى استقلال مجموعة هايدر بحزب جديد هو "تحالف مستقبل النمسا" فأخفق المعتدلون الجدد إخفاقا ذريعا وتهاوى حزبهم بعد مقتله في حادث سير سنة 2008. ثم استأنف "حزب الحرية" صعوده القوي لاحقا بقيادة المتشدد شتراخه، وكاد مرشحه هوفر أن يفوز برئاسة النمسا سنة 2016.

ثمة فرص نسبية يمنحها صعود أقصى اليمين إلى مواقع الحكم، منها اندلاع موجة رفض مدنية واسعة ولو بشكل مؤقت، وإيقاظ المثقفين والإعلاميين والمجتمع المدني لمواجهة التطرف السياسي، كما شهدت النمسا بعد فوز "حزب الحرية" ودخوله الحكومة سنة 2000، وكما تعيشه الولايات المتحدة منذ دخول ترمب

واضمحلّت في الحالة الألمانية تجارب هامشية ذات مسحة شبه نازية، مثل "الحزب القومي الألماني" بعد أن شغل مقاعد قليلة العدد في برلمانات محلية، فظهرت نسخ جديدة مطورة يتقدمها حزب "البديل لألمانيا" وحركة "بيغيدا" الجماهيرية. والسمة المشتركة بين الحزب والحركة، هو تملّصهما من النبرة القومية التقليدية صوب خطاب يتذرّع بالقيم والهوية في مواجهة الإسلام والمسلمين. يحرص الحزب والحركة على استبعاد المظاهر التقليدية اليمينية المتطرفة، وهي انعطافة تتذاكى شكليا للتمدد مجتمعيا.

وفي هولندا ودول إسكندنافية تطورت حالة يمينية شعبوية بذرائع ليبرالية متطرفة، فهي ترفض ما تسميها "الأسلمة" وتحذر من مخاطرها على القيم المنفتحة. تبدو نسخة أقصى اليمين هذه منسجمة مع مجتمعات تميّزت بمنحى ليبرالي ولا تستسيغ خطابات قومية أو محافظة. لكن في فرنسا تبرز "اللائكية" ستارا لتشنّج يجتاح الوسط السياسي عموما إزاء المسلمين والتنوع الثقافي، وتنتصب "قيم الجمهورية" هراوة أخلاقية في وجه الأجيال الصاعدة في الضواحي المهمشة. وبعد أن أصبحت هذه من تقاليد الوسط السياسي الفرنسي "المعتدل" يجوز التساؤل عن المدى الذي بوسع "الجبهة الوطنية" اليمينية المتطرفة أن تذهب إليه إن تمكنت من الحكم يوما ما؟!

التطرف بين الشعار والممارسة
ينجح أقصى اليمين بالفوز، دون أن يزيح صعوبات تعترض مشاركته الحكومية. والواقع أنّ أحزاب الوسط الموصوفة بالاعتدال تباشر من مواقعها التنفيذية تطبيق بعض ما ينادي به اليمين المتطرف، كما يجري في ملفات محددة دون صخب منذ سنوات عدة.

تشهد دول أوروبية تشنج الشعار في أقصى اليمين المعارض؛ مقابل مزايدات في السياسات والإجراءات والتعبيرات القادمة من مربع الحكومات. يتضح هذا بوضوح في تشديد قوانين الهجرة واللجوء والإقامة ومنح المواطنة، إلى درجة استئناف الحد من اتفاقية شنغن للحدود المفتوحة، ونزع الجنسيات أحيانا وترحيل آلاف من طالبي اللجوء دون ضجيج، والتوسع في قوانين استثنائية وقيود تمس بالمسلمين.

تطوّرت هذه الحالة عبر بلدان عدة، خاصة مع سعي الأحزاب المحافظة إلى مزاحمة اليمين المتطرف في مخزونه التصويتي، بما يدفعها إلى الاغتراف من مفردات التطرف اليميني أحيانا. وفي النمسا مثلا تراهن نجومية وزير الخارجية والاندماج الشاب سباستيان كورتس على تبني مواقف متصلبة في ملف المسلمين وحادة نحو تركيا.

في هذا المنحى ما يشير إلى مفعول عكسي لوصمة التطرف التي تلتصق بأقصى اليمين، فهي تعفي أحزاب الوسط من النقد لمجرد أنها محسوبة على الاعتدال، فتطلق أيديها لأنها فوق شبهة التطرف. ومن شأن هذا أن يكبح الاعتراضات التقليدية التي تستثيرها السياسات الحكومية المتشددة عادة، لمجرد أنّ بديلها المعارض يبدو أكثر تشددا.

ثمة فرص نسبية يمنحها صعود أقصى اليمين إلى مواقع الحكم، منها اندلاع موجة رفض مدنية واسعة ولو بشكل مؤقت، وإيقاظ المثقفين والإعلاميين والمجتمع المدني لمواجهة التطرف السياسي، كما شهدت النمسا بعد فوز "حزب الحرية" ودخوله الحكومة سنة 2000، وكما تعيشه الولايات المتحدة منذ دخول ترمب البيت الأبيض.

وتتضافر المؤشرات على أنّ ما ينادي به أقصى اليمين في ملفات المسلمين واللاجئين والحدود والاندماج بات معمولا به في بعض دول وسط أوروبا، كما يتضح بشكل صارخ في تشيكيا وسلوفاكيا والمجر، ويجري هذا في ظل مزايدات داخلية لكسب جماهير مسكونة بالهلع وخاضعة لتأثير انعكاسي غير عقلاني بوطأة تطورات مشفوعة بتعبئة سياسية وإعلامية، علاوة على ضغط التحولات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.

يتلازم صعود أقصى اليمين في أوروبا مع انزياح الوسط السياسي صوب اليمين واليمين المتطرف، تحريا لثقل تصويتي يميل إلى خطابات شعبوية ساذجة. فمع هيمنة القلق على مجتمعات تستشعر تغيرات جارفة تحت أقدامها، يتجه الاستثمار الحزبي إلى التأجيج وينزلق المشهد إلى تراجعات جسيمة في أخلاقيات العملية الديمقراطية

وإن لم يحظَ متطرفو "البديل لألمانيا" بفرص الصعود الحكومي؛ يظل "الاتحاد المسيحي الاجتماعي" محتفظا بنهج التماهي مع خطاب أقصى اليمين. يرتكز هذا الحزب إلى تقاليد اليمين المحافظ وإلى شعبية مستقرة في معقله بولاية بافاريا التي يقود حكومتها دون منازع، علاوة على أنه قرين "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" بزعامة المستشارة ميركل. وباسترجاع سياسات ومواقف اتخذها الحزب البافاري هذا يبدو جليا أنه نسخة معدلة الشكل تقريبا من أقصى اليمين، خاصة مع نبرته الحادة نحو المسلمين وتشدده في ملف اللاجئين.

لا مراجعة أخلاقية
يصعد اليمين المتطرف في انتخابات أوروبية عدة، وتتقدم على أيدي منافسيه بعض السياسات والإجراءات التي ينادي بها، فالحالة تتكرّس عمليا لتتجاوز تشكيلات أقصى اليمين إلى عموم الساحة السياسية التي يصوغ مشهدها وفق أولوياته، وما يفاقم الحالة أنها تتقدم دون اعتراضات مبدئية جادة.

تغيب المراجعات الأخلاقية للمدّ اليميني المتطرف، الذي لا يواجِه مقاومة شجاعة من الوسط السياسي المنشغل بتملّق اهتمامات الناخبين القلقين، كما يتحاشى إظهار مواقف مبدئية قد تقضم من رصيده التصويتي. أما يسار الوسط التقليدي فيواجه انحسارا مزمنا في دول عدة، علاوة على خسارته القواعد العمالية التي تميل اليوم إلى أقصى اليمين.

تتطلب مقاومة هذا المنحى من داخل المشهد الحزبي اليساري تجديد القيادة والنهج مع الالتصاق بالقواعد الجماهيرية دون الرضوخ لهواجسها اليمينية. تكتسب تجربة حزب العمال البريطاني بزعامة جيريمي كوربن أهمية في هذا الاتجاه، علاوة على أحزاب يسارية اجتماعية أو جذرية على شاكلة "بوديموس" (قادرون) الإسباني أو ائتلاف اليسار الراديكالي "سيريزا" في اليونان. ومن شأن الصعود اليميني المتطرف أن يمنح فرصة لليسار الاجتماعي، كما تحقق لليسار الأخضر في الانتخابات الهولندية (2017) بزيادة مقاعده البرلمانية من أربعة إلى أربعة عشر، لكنّ الخضر في بلدان أخرى ليسوا مستعدين لمواجهة التدهور اليميني باقتدار.

يتلازم صعود أقصى اليمين في أوروبا مع انزياح الوسط السياسي صوب اليمين واليمين المتطرف، تحريا لثقل تصويتي يميل إلى خطابات شعبوية ساذجة. فمع هيمنة القلق على مجتمعات تستشعر تغيرات جارفة تحت أقدامها، يتجه الاستثمار الحزبي إلى التأجيج وينزلق المشهد في المواسم الانتخابية إلى تراجعات جسيمة في أخلاقيات العملية الديمقراطية التي قد تسحق في طريقها التزامات قيمية أو تتخطى حقوقا للأقليات.

تبدو المخاطرة جسيمة إن تدهورت الاقتصادات الأوروبية أو تفاقمت التهديدات الأمنية، فقد تعلو الخطابات المتطرفة لتزيح حكومات "الاعتدال" ويربح اليمين المتطرف فرصة تاريخية.

أما بمعطيات اللحظة الراهنة فما ينجح به هذا التطرف أن يقود ردّة قيمية، أما من يباشر تنفيذ برنامجها العملي فهم انتهازيون من الوسط السياسي "المعتدل". تتفاقم الحالة مع خطابات تحريضية تستفرد بمكونات مجتمعية محددة دون أن تشعر الأغلبية القلقة بوطأتها، بل يرى الناخبون أن الصرامة هي خيار المرحلة لمعالجة هواجسهم، لا سيما مع تضخم إحساسهم بالافتقار إلى الاستقرار المجتمعي والأمان المستقبلي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.