الاتحاد الاشتراكي وعقدة التعثر الحكومي في المغرب

رئيس الحكومة المعين عبد الإله بنكيران بعد الاستقبال الأخير للأمين العام الجديد لحزب التجمع الوطني للأحرار عزيز أخنوش بمقر حزب العدالة والتنمية

من عوامل التعثر
قشة الاتحاد الاشتراكي

عندما تم الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات التشريعية المنظمة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2016 بالمغرب، بدت لنا آليات تشكيل الحكومة من لدن حزب العدالة والتنمية -المتصدر للانتخابات بـ125 مقعدا- سالكة، لا بل أسهل مما قد يتوقع أي مهتم، فما بالك بأي محلل عارف بطبيعة المشهد السياسي في المغرب.

لم يكن يُتصور بالمرة تعقدٌ في السيناريوهات، ولا أن تشهد عملية تشكيل الحكومة المغربية صعوبات كبيرة تذكر. إذ زعمنا في حينه أنه بإمكان رئيس الحكومة المكلف عبد الإله بنكيران أن يمحور حكومته -في الحد الأدنى- حول الأحزاب التي كانت بجانبه طيلة السنوات الخمس الماضية، والتي لا تزال تدير معه مهمة تصريف الأعمال لحين تعيين الطاقم التنفيذي الجديد.

وفي حال انفراط العِقد الحكومي السابق -لسبب من الأسباب- فإن حزب العدالة والتنمية قد يفاتح حزب الاستقلال (لا سيما أنه تم الصلح بينهما) لتشكيل حكومة أقلية، أو بعدد مقاعد يتجاوز بقليل مستوى النصاب القانوني المطلوب، ويترك للحكومة هامشا للعمل في ظل استمرار يرعاه الملك محمد السادس أو استقرار يضمنه.

من عوامل التعثر
بيد أن الذي جرى كان عكس ذلك تماما، أو لنقل عكس ما توقعه المتابعون؛ فقد تعثر مسلسل المفاوضات، ثم ترهل، ثم توقف نهائيا، بسبب تعدد التحالفات وتداخلها، وكثافة وتيرة الاشتراطات من لدن هذا الحزب أو ذاك، ولم نعد ندرك إلى أين تسير المفاوضات؟ ولا مَن يشترط على مَن؟ ومَن سيرد على مَن؟

وعلى مستوى تعذر تشكيل الحكومة المغربية؛ تأتّى الأمر -في نظرنا- من معطييْن أساسييْن كانا هما القشة التي قصمت ظهر البعير:

– المعطى الأول يتمثل في تصريح الأمين العام لحزب الاستقلال حميد شباط بأن موريتانياكانت جزءا تاريخيا لا يتجزأ من المغرب.

لم يكن يُتصور بالمرة تعقدٌ في السيناريوهات، ولا أن تشهد عملية تشكيل الحكومة صعوبات كبيرة تذكر. إذ زعمنا في حينه أنه بإمكان رئيس الحكومة المكلف عبد الإله بنكيران أن يمحور حكومته -في الحد الأدنى- حول الأحزاب التي كانت بجانبه طيلة السنوات الخمس الماضية، والتي لا تزال تدير معه مهمة تصريف الأعمال لحين تعيين الطاقم التنفيذي الجديد

صحيح أن كلامه جاء في سياق حديث عام وغير مباشر، لكنه لم يفرز أزمة دبلوماسية حقيقة مع الجارة الجنوبية للمغرب فحسب، بل نتج عنه خروج (أو لنقل إخراج) حزب الاستقلال من تشكيلة الأحزاب التي كان يراهن عليها بنكيران لتكوين أضلع حكومته.

ولما كان الأمر كذلك، لم يبق أمام رئيس الحكومة المكلف إلا حزب التجمع الوطني للأحرار، لضمان النصاب القانوني الذي من شأنه أن يمنح الحكومة شكلها التنفيذي النهائي، بأداء القسم أمام الملك وبالتصويت على الثقة في البرلمان بغرفتيه.

حزب الأحرار -الذي أكد أنه مع "تسهيل" عملية تشكيل الحكومة- حمل إلى رئيس الحكومة المكلف حزمة شروط، ضمنها تحديدا إضافة حزب الاتحاد الدستوري للتشكيلة، في الوقت الذي لم يسبق لرئيس الحكومة أن فاتح رئيسه في الأمر، أو طلب منه الالتحاق بالحكومة أصلا. ومع ذلك، قبل بنكيران الشرط وإن على مضض، في سياق مبدأ التنازلات المتبادل.

– المعطى الثاني يكمن في الأمر الاستعجالي الصادر عن الملك بتسريع تشكيل هياكل البرلمان (المعطل منذ ترسيمه في أعقاب الانتخابات)، من أجل المصادقة على وثائق انضمام المغرب للاتحاد الأفريقي.

ولما لم تكن الأغلبية البرلمانية قد تشكّلت بعدُ لكونها مرتبطة بالتوافق حول شكل الحكومة؛ فإن حزب العدالة والتنمية "الحاكم" استنكف عن ترشيح رئيس له، في إشارة واضحة منه إلى عدم رضاه عن تجاوز "المنهجية الديمقراطية" التي ينادي بها الكل، والتي كرسها دستور 2011 بنصه وروحه.

وفي ظل استنكاف الحزب عن تقديم مرشح لرئاسة البرلمان؛ دفع الطرف الغريم بمرشح الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، رغم أن هذا الأخير لا يتوافر إلا على عشرين مقعدا برلمانيا.

نجاح الحبيب المالكي مرشح "البرلمان" الوحيد (صوّت حزب العدالة والتنمية بالورقة البيضاء) في الحصول على الثقة، فخلط الأوراق جملة وتفصيلا؛ وباتت السلطة الثالثة في تراتبية السُّلط بالمغرب بين يديْ حزب لديه أقلية برلمانية، لكنه استفاد من تناقضات الكبار وتطاحنهم، و"سطا" على السلطة التشريعية بالمسطرة والقانون.

قشة الاتحاد الاشتراكي
ومع ذلك، بقي رئيس الحكومة متشبثا بحزب الأحرار، ومصمما على إدماجه في التشكيلة الحكومية، لأنه طوق نجاته الوحيد. بيد أن بنكيران استفزه اشتراط زعيم حزب الأحرار عزيز أخنوش دخول حزب الاتحاد الاشتراكي الحكومة، فأقسم أمام الملأ بأنه لن يقبل بهذا الشرط لا في الحال ولا في المآل.

اشتراط دخول حزب الاتحاد الاشتراكي للحكومة هو الذي خلط الأوراق أكثر، وثوى خلف تطاحنات باطنية، لم يعكس الإعلام إلا الجزء البارز منها. وكان هذا الاشتراط المحطة الأخيرة في أسباب تعثر العملية.

بيد أننا نزعم بأن ثمة أسبابا عدة أخرى جعلت رئيس الحكومة المكلف بنكيران لا يقبل بهذا الشرط في نسبيته كما في المطلق سواء بسواء:

تنسيق الاتحاد الاشتراكي مع الأحرار وتضمينه إياه حزمة اشتراطات هذا الأخير على رئيس الحكومة المكلف، أذكته دون شك حسابات السياسة، لكن قد يكون قد تم بخلفية دافع الانتقام من بنكيران الذي عُرف عنه تشبثه برأيه. وبهذه الجزئية، يبدو أن المسألة شخصية بين الرجلين

السبب الأول: هو القول بـ"اختطاف" الاتحاد الاشتراكي لمنصب رئاسة مجلس النواب، الذي هو في العرف السائد من نصيب الأغلبية البرلمانية. أي أنه لا يتم التنافس بشأنه إلا عندما تكتمل هياكل البرلمان، وتفرز الأغلبية التي ستدعم الحكومة وتمنحها ثقتها.

الاتحاد الاشتراكي بدوره يعي ذلك جيدا، لكنه استطاع توظيف تناقضات المشهد السياسي لاكتساح الأصوات المعارضة لمشروع حكومة بنكيران، والقفز إلى منصة رئاسة المؤسسة التشريعية.

مسوّغ بنكيران المعبر عنه هو القول بأنه ما دام الاتحاد الاشتراكي حصل على رئاسة البرلمان ("ظلما وعدوانا" يقول قياديو العدالة والتنمية)، فليس من "المعقول" أن تكون له رجل أيضا في الحكومة.

السبب الثاني: هو غياب جوّ الثقة بين الأمين العام لحزب العدالة والتنمية والكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي. لقد نسّقا معاً، ولربما أوشكا على الوصول إلى توافق ثم اتفاق بخصوص مشاركة الحزب الثاني في الحكومة.

لكن تبادل المزايدات والاتهام -على خلفية من "التنسيق مع الغريم"، ناهيك عن اتهامات أخرى- أفسد الود القائم بينهما، وأدى إلى استبعاد مشاركة الاشتراكي.

السبب الثالث: تنسيق الاتحاد الاشتراكي مع الأحرار وتضمينه إياه حزمة اشتراطات هذا الأخير على رئيس الحكومة المكلف، أذكته دون شك حسابات السياسة، لكن قد يكون قد تم بخلفية دافع الانتقام من بنكيران الذي عُرف عنه تشبثه برأيه إلى درجة "التزمت". وبهذه الجزئية، يبدو أن المسألة شخصية بين الرجلين.

السبب الرابع: قد يكون ضمن خلفيات الصراع بين الاتحاد الاشتراكي والعدالة والتنمية، ويكمن في وقوف هذا الأخير في وجه الأول عام 2002، عندما "زكّى" حزبُ العدالة والتنمية تعيينَ رئيس وزراء تكنوقراطي على رأس الحكومة، بينما كانت "المنهجية الديمقراطية" تستوجب أن يؤول المنصب للكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي آنذاك عبد الرحمن اليوسفي.

هل كان زعيم الأحرار يُدرك هذه التفاصيل التاريخية والمذهبية حتى يدفع بها لتحدي بنكيران؟ ربما. إذ السياسة موازين قوى، تستحضر فيها الأطراف المختلفة كل مصادر القوة والمكر والتناقض القائم لدى غريمها.

هل كان بنكيران يدرك أن قبوله بالاتحاد الاشتراكي سيكون آخر اشتراطات زعيم الأحرار؟ من غير المؤكد، لاسيما أن بنكيران يدرك أن خلف زعيم الأحرار أشخاصا ومؤسسات، لو لم يحل الدستور دونهم لدفعوا به رئيسا للحكومة دون كبير عناء. لكن بنكيران كان يسلم بأن الذهاب في التنازل إلى ما لا نهاية "أمر غير مقبول بالمرة".

هل كان بنكيران يعي أن رفضه دخول الاتحاد الاشتراكي سيكون خلف استبعاده وتعويضه برئيس المجلس الوطني لحزبه سعد الدين العثماني؟ في هذه الجزئية، أزعم أن ذلك لم يكن ضمن حساباته. لقد كان يراهن على تحكيم إيجابي للملك "ينصفه" من الاشتراطات اللامتناهية لزعيم الأحرار، فإذا به يُستبعد و"يُهزم" لمصلحة حزب لديه بضعة مقاعد في البرلمان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.