فوز يحيى السنوار بين التهويل والتسطيح

يحيى السنوار.. من أسير إلى العدو الأول لإسرائيل

اختيار شخصية ذي خلفية أمنية وعسكرية -مثل الأسير المحرر يحيى السنوار– على رأس قيادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة أثار تساؤلات وتحليلات من كل حد وصوب، بدءا من ابن التنظيم إلى الصديق والعدو والخصوم. لكن معظم تفسيرات هذا الحدث طغى عليها التهويل أو التسطيح، وقامت أطراف مختلفة بتضخيم الحدث من منطلقات متباينة.

أن يقوم بذلك شباب الحركة مفهوم ومبرر إلى حد كبير لأن النتيجة عكست توجهاتهم التي عبروا عنها عبر الانتخابات بشفافية ونزاهة، فتضخيمهم للنتائج احتفالي بامتياز، أما أصدقاء الحركة القدامى في المنطقة فقد وجدوا في النتائج تعبيرا عن الرغبة للعودة إلى "الماضي الدافئ".

ثم إن "إسرائيل" وجدت في هذا الحدث فرصة ثمينة للتحريض على المقاومة الفلسطينية وحركة "حماس" إقليميا ودوليا، فحجم التهويل التحريضي الذي تقوم به الأبواق الإعلامية الإسرائيلية ليس عاديا وغير بريء، عبر الترويج لمقولات مثل "حماس تتعسكر"، وأن "إرهابيا دوليا على رأس حماس في غزة".

وهي تحريضات ستجد إسرائيل آذانا صاغية لها الآن في البيت الأبيض أكثر من السابق. ثم إنها تريد أن تجعل من فوز السنوار شماعة توظفها في أي تصعيد قادم ضد قطاع غزة.

كما أن وسائل إعلام فلسطينية وإقليمية اشتركت في هذا التحريض الإسرائيلي عبر الترويج لمقولة أن حماس في ظل قيادة السنوار في غزة ستخضع "للمحور الإيراني"، وهذا الرأي البعيد عن الموضوعية له دوافع تحريضية، الهدف منها الإيقاع بين حماس والشعوب الداعمة لها، والدول العربية والإسلامية، ولاسيما المتحالفة منها مع الحركة.

ومن جانب آخر، قام البعض بتسطيح حدث فوز السنوار، وهنا من المفهوم والمبرر إلى حد ما أن يقوم بعض المقربين بذلك، لكونه يأتي في سياق الرد على التحريضات الإسرائيلية إبطالا لمفعولها، لكن هدف خصوم حماس من هذا التسطيح إنما جاء لغرض الاستهانة بالانتخابات التي تجريها الحركة، وتصويرها أمرا غير مهم ولا يستحق كل هذه الإثارة.

بين ذاك التهويل وهذا التسطيح، ما يمكن قوله هو أن فوز الأسير المحرر والقيادي يحيى السنوار بموقع رئاسة المكتب السياسي لحركة حماس في قطاع غزة -الذي شهد حروبا قاسية في السنوات التسع الماضية- ليس حدثاً عابراً، ويحتاج إلى توقف وتأمل.

"إسرائيل" وجدت في انتخاب السنوار فرصة ثمينة للتحريض على المقاومة الفلسطينية وحركة "حماس" إقليميا ودوليا، فحجم التهويل التحريضي الذي تقوم به الأبواق الإعلامية الإسرائيلية ليس عاديا وغير بريء، عبر الترويج لمقولات مثل "حماس تتعسكر"، وأن "إرهابيا دوليا على رأس حماس في غزة"
"

ولذلك فإن تصوير الحدث وكأنه لا يعني شيئا أمر لا محل له من الإعراب، فأي انتخابات في أي دولة أو حزب سياسي في العالم، لا تأتي بجديد معبّر وتغيير منتج، ولا تضخ دماء جديدة، وطاقة محفزة خدمة للبرنامج والمشروع، فإنها لا قيمة لها، وهي دليل على الشيخوخة والموت التدريجي لتلك الدولة أو الحزب.

لكن الانتخابات التي أجرتها حماس في قطاع غزة لم تكن كذلك لكي نقول إن نتائجها ليست حدثا عابرا، فقد أظهرت الانتخابات أولا أن حماس لا تزال تتمتع بحيوية وديناميكية عالية، وهما عنصران ضامنان لاستمرارية الفكر والمشروع، وهذا بحد ذاته مؤشر تطميني على سلامة الحركة.

وثانيا ضخت هذه الانتخابات دماء جديدة في جسم حماس، ويُفترض أن تترك هذه الدماء بصمات ملحوظة في سلوك وسياسات الحركة خلال المرحلة القادمة.

كما أنه لا بد من التأكيد أن نجاح حماس في إجراء الانتخابات يعتبر -بحد ذاته- إنجازا فعليا كبيرا؛ أولاً، لأنها تجري في ظروف غير عادية وقاهرة، سواء فيما يتعلق بالانتخابات في السجون بين أسرى الحركة وراء القضبان، أو في القطاع المحاصر، أو في الضفة المضروبة أمنيا واستخباريا، أو في الخارج الموزع بين جغرافيات عديدة.

وثانياً، أن تقوم حركة مقاومة بممارسة الديمقراطية قبل مرحلة التحرر فذلك أمر له دلالات وأهمية قصوى أيضا، ويسجّل ذلك في تاريخ الديمقراطيات.

وثالثا، أن حماس بين أخواتها الحزبية في العالمين العربي والإسلامي قد تكون فريدة من نوعها، حيث نرى أغلبية الأحزاب العلمانية المتشدقة بالديمقراطية في يظل قادتها في مناصبهم ولا تغيبهم لا الانتخابات ولا المطالبات بل الموت، وبكل أسف هذا هو الحال إلى حد ما في الأحزاب الإسلامية أيضا.

وبالعودة إلى مسألة التهويل والتضخيم التي قامت بها أطراف عديدة بسبب فوز السنوار، يمكن القول إنها ليست في محلها لأسباب أهمها:

1- الدماء العسكرية الجديدة التي ضُخت في جسم الحركة السياسي بقطاع غزة لا تتجاوز نسبتها 35%، وهذا يعني أن الحديث عن توجه حماس نحو العسكرة ليس موضوعيا، ثم إن بعض هؤلاء كانوا أعضاء في المكتب السياسي لغزة في الدورات السابقة.

فعلى سبيل المثال، اختير الأسير المحرر السنوار عام 2012 عضوا في هذا المكتب بعد عام من إطلاق سراحه تقريبا، لذلك اختياره كرئيس لا يعطيه أكثر من الصوت الذي كان يتمتع به خلال الدورة السابقة.

2- حماس حركة مؤسسية، صناعة القرار فيها تتم وفق آلية مؤسسية وشورية عبر أخذ آراء جميع مؤسسات وهياكل الحركة، ورغم أهمية موقع رؤساء أجسامها الحركية فإنهم يتمتعون بصوت لا أكثر كغيرهم من الأعضاء، وكثيرا ما حدث أن صوتهم أحيانا لم يكن مع القرار الذي خرج نهائيا عن المؤسسات، والأمثلة كثيرة في هذا الخصوص.

3- الانتخابات في حركة حماس لا تُختزل في قطاع غزة فقط، فغزة هي إقليم ضمن ثلاثة أقاليم تجري الانتخابات فيها والآخران هما الضفة الغربية والشتات، إلى جانب تمثيل السجون ضمن حصة الداخل.

ولذلك فإن الانطلاق من نتائج انتخابات غزة لإطلاق تحليلات استشرافية -دون أن تُؤخذ في الحسبان نتائج انتخابات الأقاليم الأخرى- ليس علميا ولا موضوعيا. نعم النتائج في القطاع تشكل مؤشرا، لكن نتائج الأقاليم الأخرى قد تُبطل مفعول هذا المؤشر إلى حد كبير.

حماس حركة مؤسسية، صناعة القرار فيها تتم وفق آلية مؤسسية وشورية عبر أخذ آراء جميع مؤسسات وهياكل الحركة، ورغم أهمية موقع رؤساء أجسامها الحركية فإنهم يتمتعون بصوت لا أكثر كغيرهم من الأعضاء، وكثيرا ما حدث أن صوتهم أحيانا لم يكن مع القرار الذي خرج نهائيا عن المؤسسات

4- بما أن الرئيس القادم للمكتب السياسي لحركة حماس سيُختار من قطاع غزة، وسيكون -على الأرجح- إسماعيل هنية نائب رئيس المكتب السياسي للحركة، وهو شخصية سياسية معروفة يحظى باحترام كبير بين الجناحين العسكري والسياسي في الداخل؛ فمن شأن ذلك أن يؤثر في طبيعة عمل الأجسام المنتخبة في القطاع، وأن يحول دون طغيان توجه خاص عليها.

أما مدلولات نتائج انتخابات حركة حماس في قطاع غزة فيمكن اختصارها في نقطتين، كالتالي:

أ- فشل الكيان الصهيوني في تغيير قناعات الشباب في قطاع غزة، ومنهم الشباب الأعضاء في حركات المقاومة وعلى رأسها حركة حماس، حيث إن قرابة 100 ألف عضو مبايع في حركة حماس (أكثريتهم القاطبة من الشباب) شاركوا في انتخابات قطاع غزة.

وأرادوا باختيار شخصيات ذات خلفية عسكرية وأمنية توجيه رسالة قوية لإسرائيل، مفادها أن تصلّبها وحصارها وحروبها على القطاع، لم تُحدث أي تغيير في فكرهم المقاوم ولم تدفعهم للتراجع، بل زادتهم قناعة بأن التصلب يجب أن يواجه بتصلب مماثل أو أقوى منه.

ب ـ أن قاعدة حماس الشبابية تدرك جيداً متطلبات المرحلة الراهنة، فقد رأى هؤلاء الشباب أن وجود رئيس وزراء متطرف في "إسرائيل"، وكذلك مجيء رئيس أميركي متطرف لا يعترف بشيء اسمه الحقوق الفلسطينية، يجب أن يُواجه بوجود شخصية أو شخصيات لغتهم البندقية التي أثبتت التجربة أن الاحتلال الإسرائيلي لا يفهم لغة غيرها.

ومن جانب آخر، قد تكون لتلك النتائج آثار خلال المرحلة القادمة، نستعرضها في العنوانين التالييْن:

التقارب مع إيران: فقد شهدت المرحلة القريبة الماضية خطوات في هذا الاتجاه، وعُقدت لقاءات بين الجانبين في أكثر من عاصمة. وفي ظل وجود شخصية ذي خلفية عسكرية قوية على رأس قيادة حماس في غزة، وبما أن إيران هي الدولة الوحيدة التي توفر جزءا مهما من الحاجات العسكرية للمقاومة الفلسطينية؛ يُفترض أن يساهم ذلك في تحقيق تقارب مع طهران يتجاوز عقبات المرحلة الماضية.

وهذا لا يعني أنه من الممكن أن يغني هذا التقارب الحركة عن دعم بقية الأطراف الإقليمية مثل قطر وتركيا، وذلك لأسباب موضوعية: أولها، أن حماس لا ترغب في الاستغناء عن هذه الأطراف تحت أي ظرف، وهذا ما نسمعه مرارا من قادتها، حيث يُستبعد أن تتخلى عن مبدأ التوازن كعنصر مهم في رسم علاقاتها الخارجية.

نظرا إلى شخصية الأسير المحرر يحيى السنوار -التي تتمتع بوضوح شديد في الرؤية والتوجه- فإن اختياره على رأس المكتب السياسي لحركة حماس في غزة من المُفترَض أنه سيترك بصمات واضحة خلال المرحلة المقبلة تحت سقف محدد

وثانيا، ما تقوم به قطر وتركيا لدعم قطاع غزة في المجالات غير العسكرية -وهي لا تقل أهمية عن المجال العسكري ومرتبطة بصمود الشعب معيشيا واقتصاديا- لا تستطيع إيران فعله. فعلى سبيل المثال، تقدم أنقرة -عبر علاقاتها مع الكيان الصهيوني- جزءا كبيرا من مساعداتها لقطاع غزة، وهذا دور لا تستطيع طهران أن تلعبه بسبب العلاقة العدائية بينها وبين تل أبيب.  

ومع ذلك، فإن الفترة المقبلة قد تشهد تقاربا بين حماس وإيران بعد انتهاء العملية الانتخابية في الحركة. وبناء عليه، ستعزز إيران -على الأرجح- دعمها العسكري لكتائب الشهيد عز الدين القسام بصورة أكبر من السابق.

ترسيخ مبدأ توازن الرعب مع الاحتلال: حيث من شأن انتخاب السنوار في القطاع أن يدفع قادة الاحتلال الإسرائيلي نحو إعادة النظر في حساباتهم أكثر من أي وقت مضى، لأن أي حرب جديدة على هذه المنطقة يُستبعد أن تكون حرب أيام أو أسابيع أو أشهر.

فالمقاومة في غزة لن تقبل -على الأغلب هذه المرة- بأن تنتهي الحرب عند النقطة أو النقاط التي توقفت عندها الحروب الثلاث الماضية، وخاصة في ظل ما تقوله مصادر خاصة من أن كتائب القسام اليوم تمتلك أسلحة نوعية لا تتخيلها "إسرائيل"، ولم تكن بحيازة الكتائب خلال الحرب الأخيرة عام 2014.

خلاصة القول؛ إنه نظرا إلى شخصية الأسير المحرر يحيى السنوار -التي تتمتع بوضوح شديد في الرؤية والتوجه- فإن اختياره على رأس المكتب السياسي لحركة حماس في غزة من المُفترَض أنه سيترك بصمات واضحة خلال المرحلة المقبلة تحت سقف محدد.

كما أن لهذا الفوز رسائل عديدة في أكثر من اتجاه؛ فمنها الموجه إلى داخل الحركة ذاتها، ومنها الموجه إلى الكيان الصهيوني، ومنها الموجه إلى أطراف إقليمية. أما مدى التجاوب مع مدلولات تلك الرسائل فهو أمر نتركه للمستقبل، وعلينا أن ننتظر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.