بوتين بولايته الرابعة.. استحضار تجارب القياصرة والشيوعيين

Russian President Vladimir Putin greets the audience at the congress of volunteers in Moscow, Russia December 6, 2017. REUTERS/Sergei Karpukhin

مشاركة تليق بالقيصر
البحث عن شعارات جديدة
تجارب القياصرة والسوفيات
وطن عظيم وبطل قومي

في أجواء احتفالية نُظمت على الطريقة الغربية في أكبر مصنع للسيارات منذ العهد السوفياتي أعلن فلاديمير بوتين ترشحه لفترة رئاسية رابعة. نطق بوتين بما كان متوقعا، وقدم "هدية" لأنصاره بالترشح لقيادة روسيا حتى عام 2024، في انتخابات معروفة النتائج سلفا.

وبين "قائد الأمة" وباعث أمجاد روسيا في العالم، ورئيس نظام استبدادي فاسد يختلف الروس في وصف بوتين والنظرة إليه، لكن بعض المراقبين يرون أن لا بديل عن بوتين في النظام السياسي الروسي في الأفق المنظور، ولعل الأهم أن إعلان بوتين الترشح لولاية هي الأخيرة بمقتضى الدستور يفتح الباب على مصراعيه للتنافس على خلافة رجل الاستخبارات القوي والقائد الأوحد منذ بداية الألفية الحالية.

مشاركة تليق بالقيصر
يسعى الكرملين إلى إقناع الناخبين بضرورة المشاركة في الانتخابات المقبلة بكثافة بعدما أظهرت انتخابات مجلس الدوما (البرلمان) الروسي وانتخابات الأقاليم حالة عزوف عن السياسة، وعدم الثقة بالقدرة على التغيير.ويشير خبراء إلى أن الهدف هو ضمان نسب مشاركة تصل إلى 70%، وأن يحصل بوتين على ثقة 70% على الأقل من أصوات المشاركين في الانتخابات.

وأعلن نحو عشرة مرشحين حتى الآن نيتهم خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة.وتتضمن القائمة المرشحين التقليديين زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي فلاديمير جيرينوفسكي، ورئيس الحزب الشيوعي غينادي زوغانوف، وكشف آخر استطلاعات للرأي في هذا الشهر أنها سيحصلان على 7 و 4%على التوالي.وينظر كثير من الروس إلى هذين الحزبين على أنهما باتا معارضة "مدجنة" ومدعومة من الكرملين.

نجح بوتين في ولايته الأولى في منع تفكك روسيا، وأعاد إليها الأمن والاستقرار، وأنهى فوضى التسعينات وفرض هيبة الدولة من جديد. وفي الولاية الثانية خلص البلاد من سطوة "حيتان المال" وهيمنتهم على القرار السياسي للكرملين

ومع منع المعارض أليكسي نافالني من خوض الانتخابات، برز اسم المذيعة كسينيا سوبتشاك ابنة عمدة سان بطرسبورغ الأسبق الإصلاحي أناتولي سابتشاك وعراب بوتين السياسي في تسعينات القرن الماضي، ولا تعطيها استطلاعات الرأي أكثر من 1%.وحسب استطلاعات الرأي ذاتها سوف يحصل بوتين على تأييد 68% من الروس، وهي نسبة تقترب من هدف الكرملين، ولكن التحدي الأكبر يكمن في رفع نسبة المشاركة إلى 70% أو أكثر.

وحسب مؤيديه؛ فقد نجح بوتين في ولايته الأولى في منع تفكك روسيا، وأعاد إليها الأمن والاستقرار، وأنهى فوضى التسعينات وفرض هيبة الدولة من جديد.وفي الولاية الثانية خلص البلاد من سطوة "حيتان المال" وهيمنتهم على القرار السياسي للكرملين، وأطلق حملة متواصلة لمحاربة الفساد وتحسنت الأوضاع المعيشية والاقتصادية في شكل لافت. وفي فترته الثالثة دعا بوتين إلى دور عالمي جديد لروسيا، واستغل كل الظروف الدولية، وأعاد روسيا إلى الواجهة ندا قويا للولايات المتحدة، ولاعبا لا يمكن الاستغناء عنه في محاربة "الإرهاب"، وحل الأزمات العالمية.

وفي المقابل يشير معارضوه إلى أنه لا يمكن تجاهل الفظائع المرتكبة في حرب الشيشان التي شكلت ورقة بوتين الرابحة في ترشحه عام 2000 بعدما أظهر "حزما" وخاض حربا لا هوادة فيها ضد "الانفصاليين" وما وصف بمخططات الخارج لاستغلال "خاصرة روسيا الضعيفة" في القوقاز لتفتيتها.

ومن المؤكد أن بوتين حارب الأوليغارشيا التي حكمت فعليا في عهد سلفه بوريس يلتسين، لكن الواقع يكشف عن بروز طبقة جديدة من حاشية الرئيس وأصدقائه تتحكم بكبريات الشركات الحكومية القابضة، وتعمل ضمن توجيهات محددة من الكرملين لتحقيق أهداف سياسية تتناقض في مرات كثيرة مع المصالح الاقتصادية.

ومازالت معدلات الفساد مرتفعة ولم تفلح الحملة المتواصلة منذ سنوات في اجتثاث الفساد، ويذهب محللون إلى أن هذه الورقة تستخدم في صراعات دوائر الحكم المقربة من بوتين مثلما حصل مع وزير التنمية الاقتصادية أليكسي أوليوكاييف المحسوب على التيار الليبرالي الاقتصادي، والذي ذهب ضحية طموحات صديق بوتين ورئيس شركة "روسنفت" العملاقة إيغور سيتشين.

وواضح أنه لا يمكن فصل تحسن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في روسيا عن ارتفاع أسعار الطاقة والخامات والعلاقات مع الغرب. وفي سنوات حكم بوتين شهدت روسيا أزمتين اقتصاديتين عميقتين أثبتتا تبعية الاقتصاد الروسي شبه المطلق لعائدات النفط، وعدم نجاح برامج التحديث وبناء اقتصاد يعتمد على الصناعات المتقدمة. وبدا واضحا مدى ارتباط برامج التحديث بالاستثمارات والتقنيات الغربية.

البحث عن شعارات جديدة
وتواصل عدة فرق العمل منذ أشهر على تشكيل "صورة" جديدة لبوتين تبرر ضرورة ترشحه لولاية رابعة بعدما أمضى قرابة 18 عاما رئيسا فعليا للبلاد. وتكمن الصعوبة في استنفاد جميع الأفكار فيما يخص السياسة الداخلية بعدما بدأت تظهر علامات عدم اكتراث من المواطنين الروس بالقضايا الخارجية تحت وطأة معاناتهم بسبب تتالي الأزمات الاقتصادية وارتفاع أعداد الفقراء في روسيا في السنوات الأخيرة.

في ولايته الثالثة دعا الرئيس بوتين إلى دور عالمي جديد لروسيا، واستغل كل الظروف الدولية، وأعاد روسيا إلى الواجهة ندا قويا للولايات المتحدة، ولاعبا لا يمكن الاستغناء عنه في محاربة "الإرهاب"، وحل الأزمات العالمية

وواضح أن فريقا في النخبة الحاكمة يسعى إلى تجنب التناقض الكبير الذي تكشف عنه وقائع التاريخ في حقبة القياصرة والاتحاد السوفياتي، وهي العلاقة العكسية بين قوة سياسة البلاد الخارجية وتقدم الشعب في الداخل. ويعمل الكرملين على المحافظة على توتر محدود لا يصل إلى درجة الغليان والانفجار، ولكن من دون تقديم تنازلات سياسية للمجتمع وتنفيذ برامج إصلاح حقيقة تنهي الاحتكار السياسي، وتسمح ببروز أحزاب معارضة حقيقة، ونظام قضائي غير مسيس، وصحافة حرة.

وعمليا؛ بدأت التفاتة بوتين نحو الأوضاع الداخلية منذ الصيف الماضي، وظهر أن الكرملين يسعى إلى إيجاد حلول للأزمتين السورية والأوكرانية تضمن مكانة روسيا الدولية، وتسمح في الوقت بالتفرغ للقضايا الداخلية. ويبدو أن المعركة بين النخب والمستشارين لم تحسم تماما، ما يبقي الباب مواربا لتصدر ملفات السياسة الخارجية في الفترة المقبلة. فإعلان بوتين من قاعدة حميميم في سوريا عن سحب القوات الروسية، وانتهاء مهمتها تم ربطه بوجود قاعدتين عسكريتين دائمتين، وأنه "في حال رفع الإرهابيون رأسهم من جديد، سنوجه إليهم ضربات لم يروها من قبل".

ورغم محاولات روسيا التقرب من أوروبا وإظهار مدى حرصها على الاستقرار في سوريا لمنع موجات جديدة من اللاجئين، ومحاولات المساعدة في حل الأزمة الليبية لفرض الاستقرار ووقف "قوارب الموت" المتجهة شمالا عبر المتوسط، فإن بروكسل مازالت عند موقفها الرافض لضم شبه جزيرة القرم، وتحمل روسيا المسؤولية عن الحرب في شرقي أوكرانيا عبر دعم الانفصاليين.

تجارب القياصرة والسوفيات
وفي ظل المناخات الدولية المتغيرة، وعدم وجود رؤية واضحة عاد الكرملين إلى استخدام وسائل الحقبتين الماضيتين. وفي الأيام الأخيرة شارك بوتين، للمرة الأولى أثناء حكمه، في مجمع أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وتبرز المشاركة الأهمية التي يوليها الكرملين للعلاقة الوثيقة مع الكنيسة، والتأكيد على أن روسيا تقود العالم المحافظ مقابل الغرب غير المبالي بالقيم الأخلاقية التقليدية.

وفي المقابل يواصل بوتين خطب ودّ الشيوعيين والمتأسفين على ضياع مجد الحقبة الشيوعية وكرر في أكثر من مناسبة أن انهيار الاتحاد السوفياتي كان الحدث الأكثر تأثيرا في حياته.

لم تبرز بعد أي إشارات مهمة إلى أن بوتين يمكن أن يستغل شعبيته الكاسحة لتنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية شاملة، تكسر الاحتكار السياسي، وتعتمد مبدأ الشفافية، وتؤسس لاقتصاد يعتمد على التقانة لا على صادرات الخامات

ويسعى الكرملين إلى تشجيع فئة الشباب على المشاركة في الانتخابات وعدم التصويت للمرشحين الليبراليين، وفي الأشهر الأخيرة حل بوتين ضيفا على مؤتمرات شبابية كان آخرها قبل ساعات من إعلان ترشحه. ويبرز تركيز الحملة الجديدة على قيم العائلة وحل الأزمة الديمغرافية الحادة التي تشهدها روسيا عبر الإعلان عن زيادة الدعم للمواليد الجدد للتشجيع على الإنجاب.

وطن عظيم وبطل قومي
منذ بدايات حكمه ركز بوتين على بعث الشعور القومي، والتأكيد على مجد روسيا، وكرر أكثر من مرة أن الغرب يحارب بلاده ويستهدفها على كافة الصعد لمنع تطورها، ووصل الأمر به منذ أيام حدّ اتهام اللجنة الأولمبية الدولية باستخدام الرياضة للنيل من مكانة روسيا والتأثير في الانتخابات الرئاسية المقبلة عقب قرارها منع مشاركة الرياضيين الروس تحت علم بلادهم عقب فضحية المنشطات.

ورغم التغيرات الظاهرية فإن حكم بوتين لم يخرج الأطر التي كانت سائدة إبان الحقبتين الامبراطورية والسوفياتية، فمن الأرثوذكسية إلى الشيوعية إلى مزيج بينهما مع نزعة قومية متشددة تبرز إيديولوجية روسيا الحالية. وبدلا من الطبقة الأورستقراطية حل الحزب الشيوعي وحاليا يحكم حزب بوتين وأصدقاؤه، وفيما تشهد المدن الكبرى نهضة فإن المناطق البعيدة مازالت تعيش في فقر وعوز. ومازالت أجهزة الأمن الحالية تعمل مثل البوليس السري القيصري، وإدارة المخابرات السوفياتية. وأخيرا فإن روسيا مازالت دولة عظمى بمساحتها الشاسعة ولكنها تتخلف اقتصاديا وتقنيا بعقود عن الغرب.

ومؤكد أن بوتين سوف ينتصر في الانتخابات المقبلة رغم كل التناقضات، وعدم وجود برنامج انتخابي محدد. ويبدو أن قدر روسيا أن تكون -حسب قادتها- وطنا عظيما مستهدفا من كل الجيران، ولا صديق لها إلا الجيش والأسطول البحري على حساب الاقتصاد المنهك.

ويبقى التساؤل حول نسب المشاركة في الانتخابات غير مهم مقابل "صورة" القيصر في ولايته الرابعة فهي مازالت ضبابية وتتراوح بين صورة القادة السوفيات والقياصرة، ولم تبرز بعد أي إشارات مهمة إلى أن بوتين يمكن أن يستغل شعبيته الكاسحة لتنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية شاملة، تكسر الاحتكار السياسي، وتعتمد مبدأ الشفافية، وتؤسس لاقتصاد يعتمد على التقانة لا على صادرات الخامات، وتخرج روسيا من دوامة تجارب القياصرة والسوفيات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.