إسبانيا الفدرالية في أوروبا الفدرالية

BARCELONA, SPAIN - NOVEMBER 02: Independence supporters protest against the judge order on Catalan leaders to be held in custody in jail pending trial on November 2, 2017 in Barcelona, Spain. Outsed President Carles Puigdemont and former members of the government were ordered to appear in court under alleged charges of rebellion, sedition and misuse of public funds following to the unilateral declaration of independence. (Photo by David Ramos/Getty Images)

لقد كنت دائما من كبار المعجبين بالديمقراطية الإسبانية، ولكن زاد إعجابي بتلك الديمقراطية منذ 23 فبراير/شباط 1981، حين قام العقيد أنطونيو تِخيرو بمحاولة انقلاب -في ذلك اليوم الدرامي- على النظام الديمقراطي الشاب.

لقد وصف خافير سيركاس -في كتابه الشهير "تشريح لحظة"- كيف أن القادة السياسيين الإسبان الثلاثة (زعيم الحزب الشيوعي سانتياغو كاريليو، وأول رئيس وزراء بإسبانيا الديمقراطية -بعد حقبة الجنرال فرانكوأدولفو سواريز، ونائبه الجنرال غوتيريز ميلادو) جلسوا باعتزاز على مقاعدهم تحت تهديد مسدس تخيرو رافضين الاختباء تحتها، ولم يتراجع أي منهم.

لقد كان ذلك عملا من أعمال الشجاعة والتصميم، وقد جعل الديمقراطية راسخة في روح إسبانيا إلى الأبد؛ فتحت تهديد مسدس تخيرو وُلدت الديمقراطية الإسبانية.

يجب أن تعزز الديمقراطية الإسبانية نفسها إن أرادت التغلب على الانقسامات العميقة، التي خلقتها المحاولات غير الدستورية للحكومة الإقليمية الكتالونية للانفصال عن إسبانيا، إذ يجب أن يُظهر ديمقراطيو اليوم نفس التصميم المنضبط لحل أخطر أزمة سياسية تصيب إسبانيا منذ محاولة انقلاب تخيرو

واليوم بعد 36 سنة من ذلك التاريخ؛ يجب أن تعزز الديمقراطية الإسبانية نفسها إن أرادت التغلب على الانقسامات العميقة، التي خلقتها المحاولات غير الدستورية للحكومة الإقليمية الكتالونية للانفصال عن إسبانيا، إذ يجب أن يُظهر ديمقراطيو اليوم نفس التصميم المنضبط -الذي أظهره كاريليو وسواريز وميلادو- لحل أخطر أزمة سياسية تصيب إسبانيا منذ محاولة انقلاب تخيرو.

يجب ألا يؤمن ديمقراطيو إسبانيا بأن بإمكان القانون والقضاء وحدهما حل جميع المشاكل مع كتالونيا. إن من المؤكد أن السلطات الإسبانية لا تستطيع التغلب على الأزمة بعنف الشرطة، رغم أن محاولات الحكومة المركزية لوقف استفتاء الاستقلال الكتالوني كانت قائمة على أساس حكم محكمة.

إن ما نحتاجه الآن هو رؤية سياسية متجددة وحوار شامل، وواقعيا يجب أن تتعلق هذه الرؤية بدولة فدرالية متعددة الثقافات واللغات، ضمن أوروبا فدرالية متعددة الثقافات واللغات.

لقد أخطأ الانفصاليون في كتالونيا عندما دعوا إلى استفتاء غير قانوني؛ فلا أحد يستطيع أن يحكم بشكل ديمقراطي بدون حكم القانون، ولكن صحيح كذلك أن الإطار القانوني الحالي غير قادر على معالجة مثل ذلك الانقسام السياسي العميق؛ فالحوار المستدام -وهو القوة الحقيقية للسياسيين ورجال الدولة الفعالين- بين قادة إسبانيا والانفصاليين في كتالونيا هو الطريقة الوحيدة لإيجاد الحلول.

لا أعتقد أن من مصلحة شعب كتالونيا أن يسعى للانفصال بأي ثمن؛ فحقيقة أن الاستفتاء ينتهك بوضوح الدستور الإسباني ليست هي السبب الرئيسي في عدم تمكني من دعم ذلك الاستفتاء. بل إن النقطة الجوهرية -بالنسبة لي- هي أن الاستفتاء يفتقر إلى الشرعية الديمقراطية.

فلقد كان واضحا مقدَّما أن غالبية الكتالونيين -الذين يقرون بالطبيعة غير القانونية للاستفتاء- لن يشاركوا فيه، وفي واقع الأمر ومن خلال الأدلة التي ظهرت؛ يبدو مرجَّحا أن غالبيتهم -بمن فيهم أولئك الذين بقوا في منازلهم- كانوا ضد الانفصال.

إن رفض قادة الاستقلال -في الحكومة الإقليمية لكتالونيا- وضع حد أدنى للمشاركة في التصويت على الانفصال لكي يُصبح شرعيا؛ كشف عن الطريقة التي سيصورون بها النتيجة حتى قبل أن يقوم أي شخص بالتصويت.

إن تكتيكاتهم المضلِّلة عكست رغبة مزعجة في التلاعب بمواطنيهم، علما بأن إعلان الاستقلال على أساس استفتاء معيب كان عملا غير مسؤول من الناحية السياسية، ويعكس احتقارهم للتقاليد والأعراف الديمقراطية.

من الأهمية بمكان أن يعمل كل الإسبان على وقف المزيد من التصعيد، والبدء في التفاوض. إن مستقبل كتالونيا -وكذلك مستقبل أي مجتمع فلامنغي في بلجيكا التي يتوق البعض فيها للاستقلال- لا يكمن في الانفصال الوحشي، ولكن في التعاون ضمن الهياكل الفدرالية بأوروبا الفدرالية، وتجربة مقاطعة الباسك هي مثال واضح في هذا الخصوص

إن عدم التحلي بروح المسؤولية -كما هو الحال هنا- لا يعتبر تهديدا لإسبانيا أو أوروبا فحسب، بل ولكتالونيا نفسها كذلك؛ فكما هو الحال في العديد من الاستفتاءات، فقد فتح هذا التصويت المزيف على الاستفتاء انقسامات عميقة ضمن المجتمع الكتالوني، حيث انقسمت العائلات والجيران وبشكل مرير في بعض الحالات.

إن الأشخاص الوحيدين الذين قد يستفيدون من هذه التمثيلية القانونية -كما نعرف- هم أولئك الذين يريدون تدمير الاتحاد الأوروبي، والذين بدؤوا فعلا في استغلال قضية استقلال كتالونيا لخدمة مآربهم الشخصية.

وعليه؛ فإن من الأهمية بمكان أن يعمل كل الإسبان على وقف المزيد من التصعيد، والبدء عوضا عن ذلك في التفاوض. إن مستقبل كتالونيا -وكذلك مستقبل أي مجتمع فلامنغي في بلجيكا التي يتوق البعض فيها للاستقلال- لا يكمن في الانفصال الوحشي، ولكن في التعاون ضمن الهياكل الفدرالية بأوروبا الفدرالية.

إن تجربة مقاطعة الباسك هي مثال واضح في هذا الخصوص؛ فتحت مظلة الديمقراطية الإسبانية تمكن الباسكيون من تطوير منطقتهم بما فيه فائدة سكانها، ليس فقط عبر هزيمة الإرهاب وإنما أيضا بإعادة تقديم أنفسهم كشعب فخور ضمن حكم ذاتي.

في السياسة لا يوجد حرج من التوصل إلى تسويات، بل على العكس من ذلك. فعندما يكون هناك خيار بين صفقة بناءة والنقاء الأيديولوجي؛ فإنه من الأفضل دوما اختيار طريق الوحدة مهما كانت الخطوات صغيرة.

لقد حذرت المؤرخة الأميركية باربرا توشمان في كتابها الشهير "مسيرة الحماقة" من الرغبة في "طرح الأشياء الأعظم جانبا من أجل ما هو أقل، والسعي لما هو مستحيل مقابل التضحية بما هو ممكن". وإن من الحكمة أن يستمع قادة طرفيْ أزمة الانفصال في إسبانيا إلى تلك الكلمات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.