الديمقراطية خارج نطاق الدولة القومية

United Nations Secretary General Antonio Guterres addresses the 72nd United Nations General Assembly at U.N. headquarters in New York, U.S., September 19, 2017. REUTERS/Lucas Jackson

وفقاً للخبير الاقتصادي داني رودريك من جامعة هارفارد؛ فإنه من المستحيل أن تحظى أي دولة بالسيادة الوطنية الكاملة، وبالديمقراطية، والعولمة في وقت واحد. كما كان مفهوم "المعضلة السياسية الثلاثية في الاقتصاد العالمي"، الذي استكشفه مؤخرا خافيير سولانا مفيدا، ولكنه غير مكتمل.

تتلخص حجة رودريك -التي تناولها بالتفصيل عبر كتابه الجديد- في أن الإفراط في العولمة يؤدي إلى تآكل سيادة الدولة القومية الديمقراطية، بإخضاعها -على نحو متزايد- لقوى اقتصادية ومالية قد لا تتوافق مع رغبات الأغلبية المحلية. وبهذا المنطق، فإن الدولة الاستبدادية ربما تعمل بشكل أفضل في عالَم خاضع للعولمة، لأنها تُصبِح غير مقيَّدة بالمخاوف الانتخابية مثلا.

مع خفض مستوى العولمة، تُصبِح عملية اتخاذ القرار في إطار الدولة القومية أقلَّ تقيُّدا بقوى خارجية خاصة الأسواق المالية، وهذا من شأنه أن يعمل على توسيع نطاقها. ويمكن أيضا الحصول على العولمة والديمقراطية دون الدولة القومية، وإن كان رودريك أبدى تشككه فيما إن كانت المؤسسات الديمقراطية تستطيع العمل على نطاق عالمي.

مع خفض مستوى العولمة، تُصبِح عملية اتخاذ القرار في إطار الدولة القومية أقلَّ تقيُّدا بقوى خارجية خاصة الأسواق المالية، وهذا من شأنه أن يعمل على توسيع نطاقها. ويمكن أيضا الحصول على العولمة والديمقراطية دون الدولة القومية، وإن كان البعض أبدى تشككه فيما إن كانت المؤسسات الديمقراطية تستطيع العمل على نطاق عالمي

بطبيعة الحال، لا يصور رودريك هذه المعضلة الثلاثية باعتبارها قاعدة صلبة وسريعة. بل يتمثل هدفه في إبراز التحديات المرتبطة بتعزيز هذه الترتيبات المؤسسية الثلاثة، أو الحفاظ عليها بشكل جزئي أو كامل. ولكن للخروج بأقصى قدر من الاستفادة من مفهوم رودريك، من الضروري أن نضع في الاعتبار بُعداً آخر: مستويات الحكم المتعددة الموجودة في عالَم اليوم.

تظل الدولة القومية -التي تديرها حكومة وطنية- اللبنة الأساسية في النظام الدولي. ولكن على مستوى أدنى من الدولة القومية، هناك ولايات (أو أقاليم) ومدن ومناطق، وربما يكون لكل منها هياكل حاكمة خاصة بها.

وعند مستوى أعلى من الدولة القومية، نجد الكتل فوق الوطنية، مثل الاتحاد الأوروبي والمؤسسات العالمية كالأمم المتحدة. وأي مناقشة للمعضلة الثلاثية لا بد من أن تراعي هذه المستويات المختلفة للحكم.

صحيح أن التحرر من الأوهام المحيطة بالحكم على نطاق واسع اليوم يشكل جزئيا ردة فعل عنيفة ضد العولمة، التي بدت وكأنها تفرض نفسها على الدولة القومية. ولكن ربما يكون السبب الآخر وراء خيبة الرجاء هذه هو أن المواطنين يشعرون بأنهم منفصلون عن حكوماتهم الوطنية.

ومع ذلك؛ فإن الحكومات دون الوطنية ليست بعيدة كثيرا، وعادة يشعر المواطنون بأنهم ما زالوا قادرين على ممارسة قدر كبير من النفوذ عليها. ونتيجة لهذا، يبدو التوتر بين الديمقراطية والعولمة أقل حِدة على مستوى البلديات مثلا. ومن المفيد أن الحكومات دون الوطنية تميل إلى التركيز على هموم وشواغل أكثر محلية (مثل البنية الأساسية، والتعليم، والإسكان)، وهذه لا يُنظَر إليها على أنها متأثرة بشدة بالعولمة.

على الطرف الآخر من الطيف؛ تأتي هياكل الحكم فوق الوطنية، مثل الاتحاد الأوروبي. ليس الأمر أن الاتحاد الأوروبي يتعامل غالبا مع قضايا مرتبطة بالعولمة مثل التجارة فحسب؛ بل يشعر مواطنو أوروبا بأن "بروكسل" النائية المنعزلة -والتي لا يمكنهم فرض قدر كبير من التأثير عليها- تنتهك سيادة الدول القومية. وهي مشاعر جسدها التصويت لصالح خروج بريطانيا، ويمكن ملاحظتها بأوروبا كلها.

كانت الطرق التي يمكن بها لهذه الديناميات أن تعقّد معضلة رودريك السياسية ظاهرة بشكل صارخ في كتالونيا، حيث نجد التوتر بين الديمقراطية المحلية والدولة القومية أكثر حِدة حتى من التوتر مع العولمة.

والواقع أن العديد من أهل كتالونيا يشعرون بقدر من الإحباط تجاه الحكومة الوطنية في إسبانيا، أكبر من مشاعرهم المحبطة من العولمة أو الاتحاد الأوروبي. وبوسعنا أن نقول نفس الشيء عن أسكتلندا في مواجهة المملكة المتحدة.

مع تنازل الدولة القومية عن بعض صلاحياتها للحكومات الإقليمية أو الولايات أو البلديات، تضعف المعضلة الثلاثية. ومن الممكن أن تزدهر كل من الديمقراطية، مع ما يصاحبها من شعور بالانتماء، والعولمة التي تدفعها مدن عالمية مفتوحة على العالَم، دون أن تفقد أي دولة سيادتها

في هذا السياق، يُصبِح الارتداد إلى الدولة القومية التي ترفض العولمة -كما يحدث بالولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترمب– أكثر إشكالية، لأنه يهدد بإحياء كل الأمراض السياسية التي استحثتها النزعة القومية في الماضي. ولكن ماذا لو تبنينا نهجا جديدا تتعزز فيه الديمقراطية على المستوى المحلي والسيادة أيضا؟

في العديد من الدول، إن لم يكن أغلبها؛ تشكِّل المدنُ مراكزَ الإبداع والتقدم، حيث تجتذب وعودُ التكتل، والاقتصادات الضخمة، والفيض الإيجابي؛ الشركاتِ العالية الأداء. ويشعر المواطنون بالقرب من حكوماتهم المحلية والفخر بمدنهم، لكن فخرهم بهويتهم لا يحمل الخواص الضارة التي تنطوي عليها القومية.

مع تنازل الدولة القومية عن بعض صلاحياتها للحكومات الإقليمية أو الولايات أو البلديات، تضعف المعضلة الثلاثية. ومن الممكن أن تزدهر كل من الديمقراطية، مع ما يصاحبها من شعور بالانتماء، والعولمة التي تدفعها مدن عالمية مفتوحة على العالَم، دون أن تفقد أي دولة سيادتها.

وقد تكون الفوائد المترتبة على هذا النهج عميقة، ولكن الأمر لا يخلو من مخاطر جسيمة. فمع اجتذاب الحواضر الناجحة لحصة متزايدة من رأسمال الدولة، وعمالتها الماهرة، وقدراتها الإبداعية؛ من المرجح أن تواجه المناطقُ الريفية بشكل خاص انحدارا اقتصاديا.

ويشمل هذا الانحدارُ الاقتصادي تراجعَ فرص العمل، وإغلاق المستشفيات والمدارس، وتدهور البنية الأساسية. ويخلق هذا الاتجاه، كما رأينا، أرضا خصبة للساسة الشعبويين لتقديم حلول تبسيطية، تمتد جذورها إلى أيديولوجيات متطرفة تغرس بذور الفرقة والانقسام وتقوّض التقدم.

ومن الأهمية بمكان لهذا السبب أن نعمل على إيجاد السبل منذ البداية، لمساعدة أولئك الذين ربما تخلفوا عن الركب بسبب هذا النظام. وهنا، تحتفظ الدولة القومية بدور رئيسي، وإن كان إيجاد التوازن المناسب أمرا حتميا، حتى يتسنى لنا منع المعضلة الثلاثية من فرض نفسها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.