إيران والسعودية واحتمالات المواجهة

كومبو يجمع ما بين صورتي وزيري الخارجية السعودي عادل الجبير Adel al-Jubeir

المتغيّر الأميركي
السلوك السعودي
الرؤية الإيرانية 

استقالة رئيس وزراء لبنان سعد الحريري من الرياض وخطابه الرنّان ضد إيران -عبر قناة سعودية- أسدلت الستار على أزمة إقليمية قائمة أو كادت، ولم يمض يوم حتی أيقظ صوت انفجار صاروخ -تم رصده وإسقاطه- سكانَ الرياض، وتطايرت شظاياه منذرة بأزمة إقليمية جديدة. ولو جعلنا لتوقيفات الرياض -كما تسميها السلطات السعودية– مكاناً في الصورة، لاكتمل رؤية المشهد.

اتُهمت إيران في الحدثين الأول والثاني، واتُهم أبناء العائلة المالكة في الثالث. ولا يرتبط الحدث الثالث بالمستحدث إقليمياً إلا بإيضاحه تطورات عملية اتخاذ القرار في الرياض، خاصة أن كل ذلك يحدث بعد تغيّر ساكن البيت الأبيض وسياساته تجاه المنطقة.

فكيف يمكن فهم التطورات الإقليمية المتلاحقة واللغة المشحونة المصاحبة لها؟ وبشكل أدق، إلی أين تتجه العلاقة الإيرانية السعودية في المرحلة الجديدة؟ وما هي إسقاطاتها الإقليمية؟

المتغيّر الأميركي
للولايات المتحدة -عدوةً كانت أو صديقة- دور كبير الأثر في سياسات كل من إيران والسعودية ثنائياً وإقليميا؛ إذ تؤثر رؤية واشنطن وسياستها في تكوين أو تغيير رؤی الدولتين. فعند حدوث تغييرات متلاحقة في الشرق الأوسط بعد تغيير مهم في البيت الأبيض (رئيس جديد بسياسة جديدة)، علينا التفتيش عن المؤثر الأميركي.

وللرئيس دونالد ترمب رؤية وسياسة تختلفان عن سلفه في التعاطي مع الشرق الأوسط وملفاته ولاعبيه الرئيسيين؛ فقد ابتعد الرجل عن سياسة التوازن الإقليمي لسلفه، واستعدی إيران وحلفاءها، وابتاع السردية السعودية -إعلامياً علی الأقل- حول دور إيران المزعزع للاستقرار ودعمها للإرهاب.

للولايات المتحدة -عدوةً كانت أو صديقة- دور كبير الأثر في سياسات كل من إيران والسعودية ثنائياً وإقليميا؛ إذ تؤثر رؤية واشنطن وسياستها في تكوين أو تغيير رؤی الدولتين. فعند حدوث تغييرات متلاحقة في الشرق الأوسط بعد تغيير مهم في البيت الأبيض (رئيس جديد بسياسة جديدة)، علينا التفتيش عن المؤثر الأميركي

وإلی جانب استعدائه لإيران، وهي سياسة اتضحت أبعادها بعد رفض ترمب المصادقة علی عمل إيران بالتزاماتها المتعلقة بالاتفاق النووي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي؛ أعلن سياسته تجاه إيران والشرق الأوسط.

وثمة أصلان أكدهما في خطاب عدم المصادقة ويتسمان بأهمية إقليمية: الأول محاولته الدفع ضد إيران لإجبارها علی التراجع إقليمياً؛ والثاني إعادة الشراكات والأحلاف التقليدية لواشنطن. ويعني ذلك -فيما يعنيه- أن ترمب يضرب التوازن الإقليمي القائم عرض الحائط.

وقد نأت أغلبية الدول بنفسها عن اتخاذ موقف تجاه سياسة ترمب الجديدة بشأن إيران، وانتقدتها مجموعة مهمة من الدول منها شركاء لواشنطن في الاتحاد الأوروبي وخارجه، لكن رحّبت بها السعودية والإمارات والبحرين وإسرائيل. والسبب واضح؛ وهو أن السياسة الجديدة تأتي -أو يُرجی أن تأتي- بتوازن إقليمي علی خلاف المطلوب إيرانيا.

وفي نفس السياق، ثمة كلام عن زيادة العقوبات علی إيران، ووضع الحرس الثوري الإيراني على القائمة السوداء، وإعادة الإجماع الدولي ضد طهران لحملها علی القبول بتحديد برنامجها الصاروخي وتعديل سياستها الإقليمية.

وبذلك يأخذ التصعيد الأميركي منحييْن واضحيْ المعالم: الأول خطابي يأتي علی الولايات المتحدة بأرباح عبر عقود تسليح واستثمارات، والثاني عملياتي يبرز في أسلوب الإدارة الجديدة في التعاطي مع إيران وحلفائها.

وفي ظل هذا الوضع بدأت الأزمات الجديدة؛ فقد استقال الحريري من الرياض، والتقارير القائلة بحمله علی الاستقالة لا تبدو بعيدة عن الواقع. وقد أكمل السيناريو اتهامُه إيرانَ بزعزعة استقرار لبنان والمنطقة، وهو كلام لم يُعهد من الرجل. ثم اتُّهمت إيران ثانية بعد ساعات بإطلاق صاروخ باليستي من اليمن علی الرياض، لتطالب الأخيرة الجامعةَ العربية بعقد جلسة طارئة لمناقشة العدوان الإيراني.

ثمة تحركات أخری لا تقلّ أهمية في رصد المسار الحالي؛ فأولاً إيفاد الوزير السعودي ثامر السبهان -السيئ السمعة لدی طهران وسوريا وحلفائهما- إلی الرقة يُعتبر رسالة استفزاز لطهران، وثانياً اتهام طهران أيضاً بتفجير أنبوب غاز بالبحرين يُعتبر رسالة تصعيد. وكل الأمثلة تشير إلی تحرّك سعودي؛ فما الداعي لهذا التصعيد وما الذي تصبو إليه الرياض؟

السلوك السعودي
الطريقة المثلى للتعاطي مع الرياض باتت سؤالاً ملحّاً في طهران تحت وطأة الأزمات والمجابهات الإقليمية؛ فالواضح أن القيادة السياسية بإيران خرجت من حالة الدهشة إزاء سلوك الرياض غير التقليدي، وبدأت قراءتها الإيرانية تأخذ صورة أدق. ووفق هذه القراءة؛ فإن سياسة السعودية الجديدة تطبعها إشكاليتان ستأتيان لها وللمنطقة وإيران بتحديات. 

تغيير التوازن القائم: أبرزت السعودية سياسة واضحة العداء للوضع والتوازن القائمين في غير ما ملف إقليمي، وأتت هذه السياسة حتی الآن بأزمات إقليمية جديدة دون حلها للأزمات السابقة؛ فقد تحركت الرياض ضد المستجد يمنياً عام 2015، وزعزعت التوازن القائم في لبنان، ونشطت ضد الحكومة السورية حرباً وسلماً.

أبرزت السعودية سياسة واضحة العداء للوضع والتوازن القائمين في غير ما ملف إقليمي، وأتت هذه السياسة حتی الآن بأزمات إقليمية جديدة دون حلها للأزمات السابقة؛ فقد تحركت الرياض ضد المستجد يمنياً عام 2015، وزعزعت التوازن القائم في لبنان، ونشطت ضد الحكومة السورية حرباً وسلماً. كما دخلت العراق بسفير استفز قادته، وها هي تعود إلى بغداد بصورة مختلفة

كما دخلت العراق بسفير استفز قادته، وها هي تعود إلى بغداد بصورة مختلفة بغية تحقيق حضور يُساهم في تغيير الوضع القائم. والمطلوب سعودياً -وفق هذه القراءة- هو إحداث تغيير في الوضع القائم إقليمياً، عبر تغييرات في التوازنات القائمة في ملفات الإقليم الرئيسية.

وضع إيران تحت "رادار ترمب": بدأت الرياض التصعيد ضد طهران بعد زيارة الرئيس ترمب للرياض، حيث كانت الحفاوة به واضحة. فقد جاءته السعودية بقادة العشرات من الدول لإبهاره بقوتها، وإبراز قيمة الرياض كشريك إستراتيجي، كما أغدقت عليه الهدايا والعقود التسليحية والاقتصادية.

ولإكمال الغاية، أعربت له بكل السبل عن ضرورة مواجهة إيران باعتبارها المزعزع للاستقرار والداعم للإرهاب، وركزت الرياض علی جعل ترمب يترجم أقواله المعادية لإيران إلى أفعال، وكان اختلاق الأزمات الإقليمية وربطها بإيران جزءاً من تلك المحاولة.

والواضح أن جزءاً من خطاب ترمب ضد إيران ينبع من قبوله السرديتين السعودية والإسرائيلية ضد طهران، وبذلك تدفع الرياض باتجاه مواجهة ما بين طهران وواشنطن، ويجري توظيف العلاقة مع الرئيس ترمب في ذلك الاتجاه.

بشكل عام؛ يتضّح من سلوك الرياض تعويلُها الكبير علی ترمب لإحداث تغيير في التوازن والوضع القائمين إقليمياً، عبر التصعيد ضد طهران. لكن ماذا عن طهران المستهدفة؟ وكيف تری الوضع والتوازن القائم والمستجد أميركياً وتعويل الرياض الكبير عليه؟

تجد اليوم طهران نفسها بين ضغوط ترمب واستفزاز السعودية؛ فالعداء الأميركي زاد من الدأب السعودي للضغط علی طهران والإتيان بتغيير ما في الوضع القائم بالإقليم. وتری طهران -في محاولات الإخلال بالوضع القائم إقليمياً- أسهُماً مصوبة ضدها وضد حلفائها.

الرؤية الإيرانية
لكن منذ متی ولماذا أصبحت إيران دولة محافظة علی الوضع الإقليمي القائم؟ ينبع حرص طهران علی الوضع القائم من المراحل العجاف التي مرت بها في السنوات الماضية. ويمكن تقسيم تلك المراحل إلی ثلاث: 

1- مرحلة الدفاع: وجدت طهران نفسها في خانة الدفاع عن حلفائها وحضورها الإقليمي. ووصفت التطورات الإقليمية بأنها محاولات لتقزيم دورها. فقد استهدف كل من سوريا وحزب الله مثلاً -وفق هذه الرؤية- لكونهما حليفيْن لإيران.

بل وتربط إيران الوضع الإقليمي بالداخلي؛ إذ يذكر مسؤولوها أن المشاركة الإيرانية في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) جاءت لإيقاف الدومينو الذي أراد "أعداء إيران" إيصاله إليها. وبذلك يكون دعم إيران لحلفائها عملية وقائية تمنع أعداءها من المساس بأمنها القومي.

2- مرحلة الاستنزاف: وجدت طهران نفسها في صراع عسكري/سياسي علی أكثر من مستوی. فعلی المستوی الإقليمي، وصلت الحروب في العراق وسوريا مراحل حساسّة أجبرت طهران علی التعاون مع روسيا تفادياً للأسوأ.

علاقات طهران الدولية التي تعوّل عليها في ردع سياسة واشنطن الجديدة ضد الاتفاق النووي وغيره؛ فقد بنی الانفتاح الإيراني علی المجتمع الدولي الذي أنتج الاتفاق النووي، والتزامها بهذا الاتفاق؛ ثقةً دوليةً بإيران. كما تعوّل طهران علی المعارضة الدولية لسلوك الرياض وتزايد الضغوط عليها

كما دخلت طهران مواجهات سياسية مع السعودية وحلفائها بشأن الوضع في البحرين واليمن ولبنان، ودخلت -في نفس المرحلة- مفاوضات ماراثونية مع مجموعة دول "5+1" شغلت جزءاً مهماً من قدراتها في مرحلة إقليمية حرجة.

3- مرحلة حفاظ التوازن: تجد إيران اليوم أن من مصلحتها المحافظة علی التوازن والوضع الإقليمي. ورغم واقعه الفضفاض والتحديات الجسيمة أمامه؛ فإن طهران ترى في الوضع القائم توازناً يجب حفظه والبناء عليه مستقبلاً. ففي لبنان، تدعم إيران التوازن -الذي كان قائما حتی استقالة رئيس الوزراء من الرياض- للحفاظ علی استقراره.

وفي سوريا، تری طهران أنه -رغم استمرار الأزمة- فإن المسار السياسي -الحالي في أستانا وعلی الأرض- هو السبيل لتثبيت الوضع القائم وإنهاء الأزمة. وفي العراق، ومع انتهاء خطرين رئيسيين (خطر "داعش" وخطر الانفصال الكردي)؛ تجد طهران مصلحتها في حفظ الوضع والتوازن القائمين.

وفي اليمن، أبرزت طهران ترجيحها ضرورة الحوار لإنهاء الحرب بناء علی التوازن القائم. وفي كل هذه الساحات تقول طهران إنها تبحث عن الاستقرار بغية تثبيت واستمرار الوضع القائم.

بذلك ومروراً بالمراحل الثلاث؛ انتقلت سياسة إيران الإقليمية إلی المحافظة علی التوازن والوضع القائمين، بينما تری تحركاً جدياً لزعزعته في الخطاب الأميركي المعادي وفي التحركات السعودية.

فكيف إذن سترد طهران علی التصعيد السعودي ضدها؟ وهل ثمة احتمال لنشوب حرب في المنطقة؟ لدى إيران أداتان لإدارة الضغوط الأميركية ومواجهة التصعيد السعودي، في المرحلة القادمة:

الأداة الأولى، علاقات طهران الدولية التي تعوّل عليها في ردع سياسة واشنطن الجديدة ضد الاتفاق النووي وغيره؛ فقد بنی الانفتاح الإيراني علی المجتمع الدولي الذي أنتج الاتفاق النووي، والتزامها بهذا الاتفاق؛ ثقةً دوليةً بإيران، تتضح اليوم في مجابهة الاتحاد الأوروبي سياسة ترمب ضد الاتفاق النووي.

كما تعوّل طهران علی المعارضة الدولية لسلوك الرياض وتزايد الضغوط عليها للحد مما تصفه بمجازفات الرياض الإقليمية. ويُشجّع تزايد الانتقادات الدولية لحرب السعودية في اليمن إيرانَ على المضي في ذلك الاتجاه.

الأداة الثانية، هي القيام بتعزيز قدراتها الذاتية والإقليمية لردع التهديد المتنامي، فالبرنامج الصاروخي جزء مهم من منظومة الردع الإيرانية. وتعزيز علاقات طهران مع حلفائها الإقليميين جزء آخر من عملية الردع. وبينما تواجه واشنطن الجزء الأول، فإن الرياض تواجه اليوم الجزء الثاني.

ورغم أن السلوك التصعيدي للرياض يبقی مركزاً علی الاستعداء غير المباشر لإيران في الإقليم، وذلك يُبعد شبح الحرب المفتوحة بين الدولتين؛ فإن احتمالات التصعيد تبقی قائمة في الأفق ما دام التعويل السعودي علی متغيّر ترمب ضد طهران مستمرا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.