ما بعد "داعش"

رقم1: عناصر تنظيم الدولة الإسلامية – صورة أرشيفية

تنظيم "داعش" على وشك الانهيار في الجبهات العسكرية، ومن المحتمل أن تستمر خلاياه السرية والنائمة في النشاطات التفجيرية والاغتيالات، لكنه لن يعود قادرا على احتلال مساحات وفتح جبهات.

وبعد كل هذا الدم والتشريد والدمار الذي لحق بعدد من البلدان العربية، كيف سيبدو المشهد على مختلف المستويات العربية وخاصة في الجزء الآسيوي من الوطن العربي؟ في قراءة تفاصيل هذا المشهد نبقى تحت وطأة المأساة الضخمة التي لحقت بالناس والبنى التحتية والعلاقات الاجتماعية، وطريقة التفكير وسبل تناول علاجات الأزمات.

لقد طبعت الأحزان والآلام نفسها على المعنويات والتفكير والنظرة العامة إلى الحياة، فتطورت التطلعات والفهم والمفاهيم بتواكب مع التجارب الأليمة المريرة التي مر بها الإنسان العربي. وقعت الفأس في الرأس ولم تعد الدروس تُستقى فقط من تجارب الآخرين أو من العقل المجرد، وإنما أيضا وأساسا من تفاعل الإنسان العربي مع الحدث الدموي المدمر.

أتناول في هذا المقال فقط موضوع التحولات الفكرية والعقلية التي من المتوقع أن تنشأ على الساحة العربية وخاصة البلدان التي شهدت حراكا عربيا. وسأتناول في المستقبل تحولات أخرى ستطرأ على الأنظمة السياسية وعلى الفكر والفقه الدينييْن، وعلى مجمل إدارة الإنسان العربي لشؤون الحياة وفهمه لمجريات الأمور ومختلف السياسات التي تُمارس عليه أو من أجله.

يقال إن "الدم بوابة العقل"، وليس ذلك مبدأ أو شعارا وإنما هو سيرة تاريخية خبرتها العديد من الأمم وعلى رأسها الأمم الأوروبية. فقد اقتتل الأوروبيون فيما بينهم داخليا وخارجيا، وشنوا حروبا بعضهم ضد بعض، وسفكوا الدماء ودمروا البيوت وشردوا الناس واغتصبوا النساء، وخربوا المصانع والمزارع وعاثوا في الأرض الفساد

يقال إن "الدم بوابة العقل"، وليس ذلك مبدأ أو شعارا وإنما هو سيرة تاريخية خبرتها العديد من الأمم وعلى رأسها الأمم الأوروبية. فقد اقتتل الأوروبيون فيما بينهم داخليا وخارجيا، وشنوا حروبا بعضهم ضد بعض، وسفكوا الدماء ودمروا البيوت وشردوا الناس واغتصبوا النساء، وخربوا المصانع والمزارع وعاثوا في الأرض الفساد.                          

شهدت إسبانيا وبريطانيا وفرنسا ودول أخرى صراعات دموية قاسية، وخاضت الدول الأوروبية حروبا بعضها ضد بعض ونشبت فيما بينها حربان عالميتان مدمرتان. واكتشف الأوروبيون بعد كل الأحزان والآلام -التي حلت بهم وأنهكتهم وفتتت مجتمعاتهم وأهلكت حرثهم وزرعهم- أن الصراع الدموي لا ينتهي ما لم تتراجع رغبات الثأر ونزعات الانتقام لصالح العقل.

لقد أدرك الأوروبيون أن الحروب لا نهاية لها ما لم يتحكم العقل في السلوك على حساب سيطرة الانفعالات والنزوات والنزعات القومية والمذهبية والطائفية. سيطرت الانفعالات فترة طويلة على الأوروبيين وقادتهم إلى المصائب والنوائب، ولم يجدوا بعد ذلك سبيلا للخلاص إلا التوقف عن الانسياق انفعاليا ووضع رؤوسهم بين أيديهم والتفكير فيما هم فيه.

ولنا نحن العرب تجربة مشابهة في لبنان؛ إذ استمرت الحرب الأهلية سنوات طويلة أذاقت شعب لبنان الويلات، ولولا أن التجربة قد فعّلت العقل الإنساني اللبناني لتمكنت دول عربية والصهاينة وأميركا من إشعال نيران الحرب بلبنان في الآونة الأخيرة.

لقد سيطر العقل على الرغبة في الانتقام من الآخر، وكانت مقولته دائما أن لبنان للجميع ولا أحد يستطيع إلغاء الآخر. انتقل الإنسان من حالة الانفعال الهادفة لإلغاء الآخر إلى حالة العقل التي تعترف بالآخر، ولديها الاستعداد للحياة والعيش معه.

من المؤسف أن الآلام في أحيان كثيرة تشكل غذاء للعقل فتحفزه وتوقظه لكي يقوم بدوره في تدبير الأمور بطريقة تؤدي إلى التقدم وليس إلى الاندحار، والجميع -عبر العالم- يدركون مدى إبداع الفقراء والمعوزين والمقهورين في صناعة الحياة والتميز في مختلف المجتمعات والنشاطات.

ونحن نرى كيف أن الشعوب الانفعالية لا تتمكن من إحراز التقدم أو إنجاز الأهداف، وهي دائما عرضة للأزمات الداخلية والأطماع الخارجية. أما الأمم المتعقلة العقلانية فسريعة الاندفاع إلى الأمام، ومن الصعب عليها أن تنساق وراء مغامرات غير محسوبة.

والمقصود أن الأمة العربية كانت من الناحية العملية بحاجة إلى زلزال دموي يُخرجها من التيه الانفعالي، الذي عاشته عشرات السنوات بعد الحرب العالمية الثانية. لم يكن من الوارد أن يفكر الحكام بعقولهم، ولا الناس وفق آراء علمائهم، وكان لا مفر من سحق انفعالاتهم بدمائهم.

أغلب الناس على الكرة الأرضية لا يتعلمون بعقولهم وإنما من تجاربهم. وغالبا يؤدي تفاعل العقل مع التجارب المؤلمة أو المفيدة إلى تقوية إرادة العقل على إرادة التفكير العصبي. الأمم غالبا لا تفكر بعقولها وإنما بعضلاتها أو أعصابها مما يؤدي بها إلى الهلاك. ولهذا أتوقع أن تنتهي هذه الدماء العربية التي نزفت إلى تقوية سلطة العقل على حساب سلطة العضلات والانفعالات.

لن يتطور الوضع العربي إلى تفكير علمي شامل وحر، وإنما سيجد التفكير العلمي فسحة أوسع للحركة مما كان عليه الأمر قبل الحراك العربي. ولعل هذه هي أهم نقطة فيما نتوقعه بعد انهيار "داعش" ومختلف التنظيمات المتمردة على الأنظمة.

من المتوقع أن يشهد مستوى تفكير الناس استدارة ولو متوسطة لينتقلوا من عالم الأوهام والتبعية التامة إلى عالم استيعاب الأمور -خاصة السياسية منها- وفقا لمعطيات عملية ظاهرة للعيان. وليس من المتوقع أن تستقيم الأوضاع العقلانية تماما في الساحة العربية، لأن كمية الدماء التي نزفت لم تكن كافية لإنضاج البحث عن العقلانية في تدبير الأمور

من المتوقع أن يشهد مستوى تفكير الناس استدارة ولو متوسطة لينتقلوا من عالم الأوهام والتبعية التامة إلى عالم استيعاب الأمور -خاصة السياسية منها- وفقا لمعطيات عملية ظاهرة للعيان. وليس من المتوقع أن تستقيم الأوضاع العقلانية تماما في الساحة العربية، لأن كمية الدماء التي نزفت لم تكن كافية لإنضاج البحث عن العقلانية في تدبير الأمور.

وهناك دول عربية لم تشهد حراكا وهي ليست في وضع محصن ضد الصراعات الداخلية، وخبرة شعوبها في نزف الدماء ما زالت في مستوى منخفض جدا. إن هذه ليست دعوة أبدا للاقتتال، لكن تحليل الصراعات الدموية لدى شعوب أخرى يشير إلى أن تجارب العرب ما زالت دون مستوى حدية وقسوة تجارب شعوب أخرى.

إن الشعوب بحاجة في كثير من الأحيان إلى الصدمة كي تستفيق، والعديد من شعوب الغرب خبرت الصدمة الضدية التي تشكل تحديا صارخا يدفع الناس للاستجابة بتفكير جديد وسلوكيات جديدة.

كان من الأفضل لو أن الحاكم العربي يعي معنى الصدمة الضدية وكيفية صناعتها لكي يستنهض حكمه ويستنهض الناس. لكن تقديري أن أغلب الحكام العرب لم يسمعوا أبدا عن الصدمة الضدية وما يهدف إليه صانعها، بل ربما يكون أغلبهم ساهم في صناعة صدمات إحباطية ألحقت أذى كبيرا بالأمة.

لكن تطور العقلانية -ولو بنسبة منخفضة- سيؤدي إلى تحولات على مستوى الشارع العربي. كان من السهل أن يسوق الحكام أو بعض المزايدين أو الشعبويين الناس إلى حركة في الشارع دون أن يعرف أهل الشارع بماذا ينادون أو ماذا يريدون. كان من السهل سوق الناس إلى مواقف يرغب فيها بعض الحكام والقادة، لكن بعض الكبح الآن سيمارس على الانسياق البدائي.

من المتوقع أن تخف حدة التبعية للقيادات والحكام، وستصبح عملية التعامل مع الناس كقطيع أكثر صعوبة. الكثير من الناس في الساحة العربية كانوا يعملون "هتّيفة"، أي يهتفون لهذا الحاكم أو ذاك القائد، والآن سيجد العديد من الناس أنفسهم غير راغبين في الانقياد السهل، أو ربما سيفكرون قبل اتخاذ خطوات عملية في الشارع. بمعنى أن مستوى السذاجة الشعبية سيهبط قليلا دون أن نتخلص منها تماما.

كما أن الخروج من دائرة السذاجة سيشمل الأمور الدينية والفهم العام للدين الإسلامي. لقد اهتزت أركان الدين الإسلامي في خضم الأحداث الدموية القاسية بالعراق وسوريا، ودفع الاهتزاز مسلمين وغير مسلمين إلى التساؤل عن مغزى أن يكون الإسلام دينا.

إن الملايين في العالم باتوا يرون أن الدين الإسلامي دين إجرام وقتل وسفك دماء، وبعض المسلمين أخذوا يتساوقون مع هذا الطرح لما رأوه من نشوز وسلوك بعيد عن الدين الإسلامي، بل يشوهه ويرسم له صورة بشعة.

وفي هذا ما سيحفز المفكرين الإسلاميين على المزيد من البحث والتدقيق في النصوص الإسلامية والتفسيرات المختلفة التي تناولت القرآن الكريم. والعديد من الفقهاء سيراجعون أنفسهم في الكثير من الفتاوى التي ظنوا دائما أنها في خدمة الدين الإسلامي والمسلمين عموما.

من المتوقع أن تخف حدة التبعية للقيادات والحكام، وستصبح عملية التعامل مع الناس كقطيع أكثر صعوبة. الكثير من الناس في الساحة العربية كانوا يعملون "هتّيفة"، أي يهتفون لهذا الحاكم أو ذاك القائد، والآن سيجد العديد من الناس أنفسهم غير راغبين في الانقياد السهل، أو ربما سيفكرون قبل اتخاذ خطوات عملية في الشارع

ولهذا سنشهد بعض المشادات أحيانا بين المفكرين المسلمين والفقهاء، سيتمسك الفقهاء بالماضي والتفاسير التقليدية، بينما سيسعى المفكرون للخروج من دائرة التقليد إلى أفق العقل والمنطق، والتواؤم مع الحدود المعرفية الإنسانية التي تتمدد وتتسع مع الزمن.

ستحصل مشادات بين الحكم الفقهي والحكم الشرعي من حيث إن الحكم الفقهي قد يكون مجرد رأي صادر عمن لا يتعمق في المسائل الدينية ولا يعرف كثيرا عن العلوم المادية، بينما يستند الحكم الشرعي إلى نصوص إسلامية واضحة. سيواجه الحكم الفقهي أزمة لأنه سيُحشر في زاوية علمية لا يستطيع تحديها إلا بلغة التكفير والتشكيك والتشهير، وهذه لغة تحتضر لأن أصحابها أساؤوا لأنفسهم وللفكرة الإسلامية عموما.

سنشهد تحولات معرفية لدى بعض الفقهاء على اتساع الوطن العربي، لكن في المجمل سيتراجع دور الفقهاء في توجيه الشارع المسلم، وسيتراجع الكثير من أفكارهم وأحكامهم الفقهية لصالح الأبعاد الفكرية الإسلامية. وسيشهد المسرح الثقافي جرأة متزايدة على الفقهاء على اعتبار أن بعضهم أشبعوا الساحة الإسلامية تطرفا ورفضا للآخرين واحتكارا للجنّة.

ستكون هناك جدليات مضادة لجدليات التقليد الإسلامي يتم طرحها بشجاعة، وستجد من يدافع عنها ويحميها، وسيترتب على ذلك نوع من الانتعاش للقوى العلمانية والقومية العربية.

ومن المحتمل أن التيار القومي العربي سيكسب زخما جديدا مرتبطا -بصورة كبيرة- بما سيتطور من أنظمة حكم بالعراق وسوريا، وستكون جدلية القوميين واضحة ومفادها أن الإسلاميين جادلوا بأن كل النظريات والأفكار غير الإسلامية قد فشلت على الساحة العربية، فكان فشلهم أكبر وأعمق من فشل الأنظمة العربية.

والمقصود أن التحولات الفكرية والثقافية قادمة ولن تقتصر على المثقفين والمفكرين، وإنما ستمتد إلى الجمهور على اتساع الوطن العربي. ستخف حدة الكهنوتية الدينية والتفكير الغيبي لدى عموم الناس، وسيتمتع العقل بثقة أعلى مما كان عليه الحال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.