عدوى استفتاءات الانفصال

Esteladas (Catalan separatist flags) wave in the air as thousands of people gather for a rally on Catalonia's national day 'La Diada' in Barcelona, Spain, September 11, 2017. REUTERS/Susana Vera

بين التحرير والانفصال
ذرائع مختلفة للاستقلال
 

تبدأ الحكاية في الغالب الأعم -في الغرب كما في الشرق- بمطلب ثابت شرعته بالإجماع المنظمات الدولية زمن الاستعمار، ولا يزال وقعه ومفعوله قائما إلى حد اليوم، ألا وهو: حق الشعوب في تقرير مصيرها.

هو حق تم سنه -منذ أكثر من ستين سنة- في سياق مختلف، وفي ظل علاقات دولية كان في ظلها الجزءُ الأكبر من دول أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية تحت احتلال أو وصاية، أو ملحَقا بصورة قسرية ضمن حدود وسيادة هذه الدولة أو تلك.

ولذلك، فقد كان لمنطوق "حق الشعوب في تقرير مصيرها" وقع خاص ومتميز، وكان لحركات التحرير في هذه الدولة (المحتلة أو المستعمرة أو المدمجة أو الواقعة تحت نظام الحماية) سندٌ قانوني معتبَر، اتكأت عليه لكسب شرعية نضالها ومقاومتها للقوى الأجنبية الموجودة على أراضيها.

بين التحرير والانفصال
ويبدو -من هذا الجانب- أن عدوى المبدأ كانت من القوة والنجاعة بحيث حصلت أغلبية بلدان "العالم الثالث" في حينه ليس فقط على استقلالها السياسي الكامل، بل وأيضا على اعتراف دول العالم بها، ناهيك عن القبول بعضويتها ضمن الهيئات الدولية، وضمنها تحديدا هيئة الأمم المتحدة.

كان لمنطوق "حق الشعوب في تقرير مصيرها" وقع خاص ومتميز، وكان لحركات التحرير في هذه الدولة (المحتلة أو المستعمرة أو المدمجة أو الواقعة تحت نظام الحماية) سندٌ قانوني معتبَر، اتكأت عليه لكسب شرعية نضالها ومقاومتها للقوى الأجنبية الموجودة على أراضيها

من حينه، أي منذ ستينيات القرن الماضي؛ لم يعد مطلب "حق تقرير المصير" يثار إلا في حالات نادرة، كانت في معظمها من مترتبات مرحلة "تصفية الاستعمار" أو تقاسم النفوذ التي أعقبت مرحلة الاستقلالات السياسية.

بيد أننا بتنا -منذ بداية هذا القرن تحديدا- بإزاء حركية متسارعة للنهل من معين ذات المطلب، ليس من باب المطالبة بالاستقلال عن دولة أجنبية ما، بل للانفصال عن الوطن الواحد الموحّد، أو ما اعتُبر كذلك في مراحل المقاومة والتحرير.

ثمة حالات عدة من أشكال المطالبة بالانفصال عن الوطن/الأم، ابتداء من التنصيص صراحة على المبدأ في الدستور، كما هو حال دستور إثيوبيا الذي يمنح المناطق حق الانفصال متى عنّ لها ذلك، إلى انتهاج العمل المسلح المفضي إلى الاستفتاء التأكيدي كما في حالة جنوب السودان.

مرورا بحالات الإعلان عن الاستقلال المتبوعة باستفتاء للشرعنة، كما كان الحال سنة 1991 عندما أعلن مجلس السوفيات الأعلى استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفياتي، ليعمد الأوكرانيون فيما بعد إلى تزكية استقلالهم باستفتاء شعبي عام.

وبناء على هذا الحق، حصلت دول مثل الجزائر (1962) ومالطا (1964) والبحرين (1971) وإريتريا (1993) والجبل الأسود (2006) وجنوب السودان (2011) على استقلالها، وأقامت دولا معترفا بها وممثَّلة في معظم الهيئات والمنظمات الدولية.

بيد أننا قد نجد ضمن هذه الأشكال "القانونية" حالات خاصة شبيهة إلى حد ما بتجربة الجزائر، لكنها مكمن مد وجزْر حقيقييْن بين دعاة الاستقلال ولو كان شكليا ومجنَّدين للبقاء ضمن "الجماعة الوطنية"، وهو حال جزر المحيط الهادي والكاريبي لا سيما جزيرة كاليدونيا الجديدة التي تعيش ضمن الدولة الفرنسية.

لقد نص اتفاق "نوميا" عام 2008 بين فرنسا والوطنيين الكاليدونيين على إجراء استفتاء في 2018، التزمت فيه الأولى بتحويل كل "الصلاحيات السيادية" والصفة الدولية إلى الجزيرة، إلا أن الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون عبّر عن تشبّثه ببقاء الجزيرة ضمن "الجماعة الوطنية".

وهو ما يعني رفض الانفصال أو في أسوا الحالات القبول به مع التنصيص على ضمانات، تجعل هذه الجزيرة -وكذلك باقي الجزر- حتماً في وضعية جِرم يدور بفلك الجِرم الأكثر جذبا.

رغم نجاح كثير من دعوات الانفصال؛ فإن ثمة حالات لم تكن الاستفتاءات فيها لصالح المطالبين بالانفصال أو الداعين إليه. ولعل الحالة الشهيرة هنا تتمثل في حالة إقليم كيبيك بكندا، إذ رغم لجوء "الاستقلاليين" -في أكثر من مرة- للاستفتاء، فإن شعب الإقليم رفض انفصاله واستقلاله

وإلى جانب الجزيرة المذكورة، نجد في المحيط الهادي دائما حالة "المنطقة المستقلة لبوجنفيل" بمقاطعة بابواسيا/ غينيا الجديدة، حيث سيتم اللجوء إلى الاستفتاء في يونيو/حزيران 2019، وكذا جزيرة ميكرونيزيا التي كان من الوارد استفتاء مواطنيها في مارس/آذار 2015، لكن تم تأجيل العملية لأجل غير مسمى.

وقريبا من المنطقة العربية، نجد حالة إيطاليا التي ستعمد فيها المناطق الغنية لفينيسيا ولامباردي إلى إجراء استفتاء لتوسيع نسبة استقلالها، لكن دون الدعوة إلى انفصال تام عن الدولة/الأم. أما في شمال أوروبا، فقد أعلنت جزيرة "فيروي" الدانماركية نيتها إجراء استفتاء لاعتماد دستور جديد يفتح الباب على إمكانية تقرير المصير.

أما تطلعات آيسلندا للاستقلال عن بريطانيا فهي من الحالات المعبرة حقا عن عزم السكان على الانفصال التام والنهائي، رغم توفرهم على حكومة خاصة بهم وعلى برلمان مستقل.

ولذلك، فهم لا يتوانون في إبداء تميزهم واستقلاليتهم عن بريطانيا، بدليل تصويت هذه الأخيرة لصالح البريكست فيما فضلوا هم الإبقاء على هويتهم وانتمائهم الأوروبي. وبالإضافة إلى كل ذلك، نجد "التجربة" التي خاضتها كتالونيا مؤخرا وعبر فيها الكتالونيون عن تصميمهم على الاستقلال عن إسبانيا.

ورغم أن معظم هذه التعبيرات المؤسساتية قد تكللت بنسب عالية لفائدة الانفصال، فإن ثمة حالات لم تكن الاستفتاءات فيها لصالح المطالبين بالانفصال أو الداعين إليه. ولعل الحالة الشهيرة هنا تتمثل في حالة إقليم كيبيك بكندا، إذ رغم لجوء "الاستقلاليين" -في أكثر من مرة- للاستفتاء، فإن شعب الإقليم رفض انفصاله واستقلاله.

ذرائع مختلفة للاستقلال
إننا بالحالات النموذجية السابقة نجد أنفسنا وكأننا حقا وحقيقة بإزاء عدوى للانفصال، يراهن دعاتها على محصلة واحدة حتى وإن كانت السبل متباينة والآماد الزمنية لبلوغ ذلك مختلفة. بيد أننا نزعم أن ثمة مسوغات عدة غالبا ما يتدثر خلفها مطلبُ حق تقرير المصير وإعمال الاستفتاء لتجسيده:

– ثمة نماذج تلجأ لهذا المطلب للضغط على الدولة المركزية لمنحها صلاحيات ذاتية أكبر مما تتوفر عليه، لا سيما إن كانت المنطقة المعنية غنية بثرواتها أو متحكمة في جزء كبير من مفاصل الاقتصاد الوطني. وتدخل ضمن هذا الإطار الجهات الإيطالية الملوّحة بالاستفتاء، وكاتالونيا بإسبانيا، وآيسلندا، وإلى حد ما منطقة كردستان العراق.

إنها شكل من أشكال الابتزاز المقنع، لا سيما إن تمت عملية الاستفتاء دون ترتيبات مسبقة مع الحكومة المركزية وفي تحدّ لها، كما عايناه في حالة كتالونيا ومنطقة كردستان العراق.

ورغم إدراك هؤلاء أن الحكومات المركزية لن تقبل بالأمر الواقع، ناهيك عن تغافلهم عن العقبات الدستورية المتعذرة التجاوز وإشكالية الاعتراف الدولي؛ فإن دعاة الاستفتاء غالبا ما يتبرمون من ذلك ولو من باب التكتيك.

إذا كانت العقود القليلة التي أعقبت مرحلة الاستقلال قد ركزت على إقامة بنيان الدولة الوطنية، وتقديم أولويات البناء المؤسساتي على حساب الاعتبارات الإثنية أو العرقية؛ فإن هذه الأطروحة رُفعت مجددا في ظل الدولة المركزية الموحدة، من لدن قبائل وإثنيات وطوائف وأعراق لم تنصفها عقود الاستقلال، أو تبين لها أنها تمت على حساب هويتها وتاريخها

– ثمة نماذج تكون نتائجها شبه محسومة؛ إما بترتيب مسبق مع الدولة المركزية كما كان حال تيمور الشرقية، أو تحت إكراه استحالة الاستمرار كما في حالة جنوب السودان. والتفاوض هنا يتعلق فقط بالعملية الإجرائية كتحويل الاختصاصات أو رسم الحدود، وتسويغ ذلك بالآلية القانونية المطلوبة.

– ثمة أيضا نماذج يكون مطلب تقرير المصير فيها محكوما باعتبارات عرقية أو إثنية أو طائفية أو دينية. ولعل النموذج الأمثل في هذا الباب هو نموذج الأكراد ليس فقط بشمال العراق، بل أيضا في سوريا وإيران وتركيا.

إذ لم يكتف أكراد العراق بـ"مغازلة" أكراد الدول المجاورة، بل عمدوا إلى توسيع نطاق الاستفتاء إلى مناطق لا أغلبية لهم فيها، لكنْ لديهم فيها نفوذ بحكم الأمر الواقع.

قد لا يقتصر الأمر -في حالة العراق- على المدخل العرقي أو الطائفي لمطلب الانفصال، بل إن هناك من يدفع بالمعطى المذهبي لتقسيم ما بقي من تراب وطني بين أطياف مذهبية، لم تعد تستطيع تدبير الاختلاف بينها.

لا غبار على أطروحة حق الشعوب في تقرير مصيرها، إذ كان لها الفضل الكبير في انعتاق العديد من البلدان من ربقة الاحتلال والاستعمار. لقد كانت البنية الرمزية التي على أساسها وفي ظلها انطلقت حركات التحرير، لا بل وانتشرت عدواها بين شتى القارات.

وإذا كانت العقود القليلة التي أعقبت مرحلة الاستقلال قد ركزت على إقامة بنيان الدولة الوطنية، وتقديم أولويات البناء المؤسساتي على حساب الاعتبارات الإثنية أو العرقية؛ فإن هذه الأطروحة رُفعت مجددا في ظل الدولة المركزية الموحدة، من لدن قبائل وإثنيات وطوائف وأعراق لم تنصفها عقود الاستقلال، أو تبين لها أنها تمت على حساب هويتها وتاريخها ولغتها ومذهبها وما سوى ذلك.

ورغم أن الأطروحة باتت اليوم مبتورة من سياقها الأصلي؛ فقد انتشرت عدواها لتشمل البلدان الغربية الموحدة ذاتها وتدفع بانفجارها من الداخل، إما لحسابات سياسية خالصة أو لاعتبارات تاريخية، أو تحت وطأة الأزمة المستعصية التي تعيشها حكومات المركز، وتعكس سلبياتها على المناطق والجهات.

وإذا كنا نسلم بأن ما يجري في بعض بلدان أوروبا هو نتاج لمخاض مسلسل تاريخي طويل، اختمرت مخرجاته فأفرزت مطالبات حادة بالانفصال؛ فإن الذي يجري بالعديد من الدول العربية لا يتساوق كثيرا مع ذات المعطى، لا شكلا ولا على مستوى الجوهر.

إذ إن معظم البلدان العربية بنت وحدتها الوطنية بعد الاستقلال على أنقاض الهويات والتمايزات الإثنية والعرقية والمذهبية القائمة، بل وواجهت دعاتها بقوة النار والحديد. وبالتالي، فهي لم تتردد في انتهاز فرصة أي مناسبة وسياق لإعادة الكرة من جديد.

ثم إن عدوى المطالب المتزايدة بخصوص الانفصال قد أذكتها قوى خارجية، لديها حسابات سياسية واقتصادية وجيوسياسية معلنة، التقت مع حسابات دعاة الانفصال ليخلصوا مجتمعين إلى نفس الخطة: تحويل الحق في تقرير المصير إلى آلة حادة لضرب وحدة البلدان، بعدما كانت آلة حادة لمقاومة الاحتلال ودحره. إنها مفارقة غريبة من مفارقات التاريخ العديدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.