نقل السفارة.. الجدية الأميركية والمسؤولية الفلسطينية

A view of the United States Consulate building complex in West Jerusalem, 23 January 2017. The US announced President Trump is beginning the first stages of discussions to move the US Embassy, currently located in Tel Aviv, to Jerusalem. Many believe this consulate building, completed several years ago and serving both American citizens in this area and visa-seeking Palestinians, could be the site of the US Embassy in Jerusalem should it be moved there by US President T

ترمب.. بداية جادة
جذر المسألة
المسؤولية الفلسطينية

(تنويه: كتبت هذه المقالة ونُشرت قبل اتخاذ ترمب قراره بنقل السفارة، ثم أعدنا نشرها للأهمية)

لم تكن مسألة نقل السفارة الأميركية من "تل أبيب" إلى القدس وليدة "اللحظة الترمبية"؛ فمنذ النصف الثاني لولاية رونالد ريغان الأولى، وهي حاضرة بوضوح في السياسة الأميركية، وقد أصدر الكونغرس قرارا في العام 1990 ينص على نقل السفارة، وفي العام 1995 -وبأغلبية كاسحة- صدر قانون نقل السفارة متبنيا السردية الصهيونية بخصوص القدس.

ترمب.. بداية جادة
لم يزل الرؤساء الأميركيون المتعاقبون يؤجلون تنفيذ ذلك القانون، بما في ذلك الرؤساء الذين استغلوا المسألة في دعاياتهم الانتخابية، أو تقدموا بخطوات جدّية نحو نقل السفارة، أو الاعتراف بالقدس عاصمة لـ "إسرائيل"، فقد سبق لبيل كلينتون الموافقة على هذا القرار مشترطا ألا ينفذ قبل انتهاء المرحلة الانتقالية التي أسسها اتفاق أوسلو، بينما وقع بوش الابن في العام 2002 قرارا يعترف بالقدس عاصمة لـ "إسرائيل".

بداية ترمب الجادّة، وصدامه مع قطاعات مهمة من المؤسسة، وانقسام المجتمع الأميركي حياله، وخوف الأوربيين البالغ من سياساته المحتملة، وتعيينه ترمب لديفيد فريدمان، سفيرا بـ"إسرائيل"، وتصريحات مقربين منه تؤكد جدية مشروع نقل السفارة

بالرغم من ذلك أخذت وعود ترمب صدى كبيرا لدى الفرقاء كلهم، من الفلسطينيين والعرب والإسرائيليين، على نحو أظهر خشية جدّية لدى الفلسطينيين والعرب، من أن المسألة هذه المرّة مختلفة عنها في أي مرّة سابقة، وبالطبع فإن هذه الخشية يقابلها أمل إسرائيلي كبير، بدأ يتجلى مبكرا في خطاب يميني معلن، يسعى لاستغلال حقبة ترمب لاستكمال مخططاته الاستيطانية، والتي قد تنتهي بضم الضفة الغربية.

ومع أن الموقف الذي يرفض استعجال توقع خطوات ترمب القادم من خارج المؤسسة، ما يزال معتبرا، إلا أن المخاوف تصاعدت بعد تنصيبه، حتى لو سبق ذلك التنصيب ما يمكن أن يدل على افتقار الإدارة الجديدة للإجماع على هذه الخطوة، كما أوحت من قبل إجابة وزير الدفاع الجديد جيمس ماتيس في جلسة استماع للكونغرس قال فيها: "أفضل أن يجيب وزير الخارجية على هذا السؤال، وبالنسبة لي فإن العاصمة التي أسافر إليها هي تل أبيب".

صحيح أن ترمب لم يأت على ذكر هذه المسألة في خطاب تنصيبه، إلا أنه في هذا الخطاب الشعبوي اللافت، ظهر وفيا لمجمل شعاراته الانتخابية التي ينقلب فيها على تراث "المؤسسة" الأميركية الراسخ.

كان ترمب في خطاب تنصيبه، مباشرا في هجومه على المؤسسة والتحريض عليها والتشكيك فيها، معلنا عن رؤية جديدة حاكمة منقطعة عما أسماه الماضي، وفي الوقت نفسه كان الانقسام الأميركي على الرجل وخطابه ورؤيته أوضح ما يكون، كاشفا عن مخاوف الأميركيين أنفسهم هذه المرّة، وبالفعل بدأ ترمب لحظته الأولى في البيت الأبيض بالتوقيع على مرسوم يهدف إلى "التقليل من الثقل المالي" لقانون التأمين الصحي "أوباماكير" في خطوة على طريق إلغائه.

بداية ترمب الجادّة، وصدامه مع قطاعات مهمة من المؤسسة، وانقسام المجتمع الأميركي حياله، وخوف الأوربيين البالغ -وهم أقرب حلفاء أميركا إليها- من سياساته المحتملة، وتعيين ترمب لديفيد فريدمان، الشخصية الصريحة في دعم الاستيطان، سفيرا لبلاده في "إسرائيل"، وتصريحات مقربين منه تؤكد جدية مشروع نقل السفارة، مثل نيكي هالي سفيرته إلى الأمم المتحدة، ومستشارته كيليان كونواي؛ كل ذلك بعض مما يجعل هذه المسألة أكثر جدية.

ليس لأجل ذلك فحسب هي أكثر جدية، ولكن لأن ذلك كله يأتي في عالم يتغير، ويبدو وكأنه ينفرط، ويظهر ترمب في واحدة من أشد تجليات تغير العالم، وعادة، وحينما يبدأ العالم في التحول، ويأخذ في الانفراط، في دورة تاريخية جديدة، يصير كل شيء محتملا.

جذر المسألة
في العام 1950 أعلن الكنيست الإسرائيلي القدس عاصمة لـ "إسرائيل"، وفي العام 1980 أصدر الكنيست قانونا أساسيا، أي ما يشبه المبدأ الدستوري، يضم شرقي القدس إلى "إسرائيل" ويعلن القدس الموحدة عاصمة "إسرائيل"، و"مقر رئيس البلاد والكنيست والحكومة والمحكمة العليا."

الاعتراف الفلسطيني بـ "إسرائيل" دون أن يحظى باعتراف مقابل، واكتفاءه بالمطالبة بشرقي القدس، مخرجا غربيها من النزاع، كان الأخطر على الإطلاق، إذ عزز ذلك من قدرة "إسرائيل" على المراوغة، وأضعف مقابلها القدرة الفلسطينية، بل أصابها في مقتل

على إثر ذلك أصدر مجلس الأمن قرارا -امتنعت أميركا عن التصويت عليه- يستنكر القانون الذي أصدرته الكنيست، مؤكدا انتهاك القانون الإسرائيلي للقانون الدولي، وأنه لن يؤثر على انطباق اتفاقية جنيف الرابعة، وأن جميع الإجراءات الإسرائيلية التي غيرت أو تهدف إلى تغيير طابع المدينة ووضعها القانوني باطلة ولاغية، داعيا جميع الدول إلى سحب بعثاتها الدبلوماسية من القدس.

وبالفعل، استجابت الدول وسحبت سفاراتها من القدس إلى "تل أبيب"، مع بقاء قنصليات لبعضها في المدينة، وبالرغم من اعتراف تلك الدول بـ "إسرائيل" على الأراضي التي احتلتها في العام 1948، والتي تضم غربي القدس، فإن بقاء سفاراتها في القدس، كان يعني تسليما بالقانون الذي أصدرته الكنيست وجعل شطري المدينة شيئا واحدا.

وهكذا تتضح إشكالية وجود سفارات في القدس لدول تعترف بـ "إسرائيل" وبتبعية غربي القدس لها، وذلك فضلا عن انتهاك ضم شرقي القدس للقانون الدولي، إلا أن هذا لا ينبغي أن ينسي أن المشكلة كانت أساسا في الاعتراف بـ "إسرائيل"، الطرف القوي القادر على فرض الوقائع على الأرض.

بيد أن الاعتراف الفلسطيني بـ "إسرائيل" دون أن يحظى باعتراف مقابل، واكتفاءه بالمطالبة بشرقي القدس، مخرجا غربيها من النزاع، كان الأخطر على الإطلاق، إذ عزز ذلك من قدرة "إسرائيل" على المراوغة، وأضعف مقابلها القدرة الفلسطينية، بل أصابها في مقتل، فمهما كان التصور الذي شرحناه لإشكالية وجود السفارات في القدس، فإن وجودها في غربي القدس، يعني أنها موجودة داخل "دولة إسرائيل" باعتراف الفلسطينيين، أو بالأحرى باعتراف منظمة التحرير!

المسؤولية الفلسطينية
وأيا كان المكان الذي ستنقل إليه السفارة، في حال نقلها طبعا، إن كان في غربي القدس أم في شرقيها، أم في نقطة بينهما، ومهما كان شكله، ووقته، ووتيرته، والكيفية التي ستغلف بها العملية، وسواء أكان صريحا معلنا أم خفيا مخاتلا، فإن نقل السفارة يعني الإعلان العملي من الأميركي (راعي عملية السلام) عن نهاية حل الدولتين.

أما حل الدولتين فقد صار محالا، فضمن الوقائع الراهنة، ليس ثمة إمكانية لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية، فقد جعلت الإجراءات الإسرائيلية، وأهمها البناء الاستيطاني هذه الإمكانية محالة، إلا في حال التوصل إلى اتفاق فعلي يحمل "إسرائيل" على تفكيك تلك الإجراءات كلها، غير أن هذا الاتفاق بدوره صار محالا.

لقد راكمت "إسرائيل" بصبر ودأب ومثابرة ومخادعة كل هذه الوقائع الضخمة كي تصل إلى هذه اللحظة التي قد تنتهي بضم الضفة الغربية، لا شرقي القدس فحسب، ويتجه النقاش الإسرائيلي اليوم، بقوة اليمين المهيمن على المجتمع والسياسية في "إسرائيل" نحو تصورات لا تبقي أبدا أي حظ لحل الدولتين، وهو الأمر الذي أبدا أوباما تخوفه إزاءه قائلا إن المستوطنات الإسرائيلية تجعل حل الدولتين شبه مستحيل!

الذي لا شك فيه أن السلطة وفتح لم تعودا مؤهلتين للدفع نحو التحول عن مشروع التسوية وما انبثق عنه، وذلك بسبب الثمن الباهظ المترتب على ذلك، ولأن وجودهما ووظائفهما ارتبطا عضويا بهذا المشروع ولو انتهى إلى محض الاختناق داخل حلقة مفرغة من العبث

والظاهر حتى الآن أن الإسرائيليين لا يقيمون وزنا للتهديدات الفلسطينية بالنظر إلى مكسب "إسرائيل" السياسي الهائل في حال نقلت السفارة الأميركية إلى القدس فعلا، كما عبّر عن ذلك رئيس جهاز الشاباك الأسبق آفي ديختر في رسالة نصح فيها ترمب بألا يتأثر بتهديدات الفلسطينيين.

على الأرجح، لن يحدث شيء عربي ذو بال بهذا الخصوص، أما فلسطينيا فثمة شك عميق في جدية تهديدات السلطة الفلسطينية، وهو شك يستند إلى تجربة الفلسطينيين الطويلة مع تهديدات السلطة الفلسطينية المستمرة التي لم ينعكس أي منها في الواقع أبدا.

ويستند هذا الشك إلى ما هو أهم، إذ إن الخطوات الجدية الفعلية ينبغي أن تقوم على إعادة النظر العملي بمسار التسوية الذي اختطته منظمة التحرير وحركة فتح خيارا وحيدا، وكرسته فتح في مؤتمرها الأخير، وهو المسار الذي أفضى إلى وجود السلطة نفسها.

الذي لا شك فيه أن السلطة وفتح لم تعودا مؤهلتين للدفع نحو التحول عن مشروع التسوية وما انبثق عنه، وذلك بسبب الثمن الباهظ المترتب على ذلك، ولأن وجودهما ووظائفهما ارتبطا عضويا بهذا المشروع ولو انتهى إلى محض الاختناق داخل حلقة مفرغة من العبث لن تنتهي بالفلسطينيين إلا إلى مزيد من البؤس.

بالنسبة لفصائل المقاومة فهي لم تزل تدفع هذا الثمن، داخل ظروف معقدة تتلبسها، ولكنها وحدها غير قادرة على النهوض بعبء المواجهة، والمشكلة هنا فلسطينيا ليست في انعدام الخيارات، ولكن في توفر الإرادات لدى السلطة وفتح على اتخاذ القرارات الصعبة والقاسية ولكنها وحدها الصحيحة والمناسبة، بعدما بلغ الفلسطينيون اليقين من فشل مشروع التسوية واستحالة حل الدولتين.

إلا أنه كان بالإمكان الاستباق وفرض حالة كفاحية تجعل من تهديدات الفلسطينيين ذات معنى مؤثر ويحظى بالمصداقية والقدرة على المس بالوقائع الإسرائيلية، وذلك لو أن السلطة استثمرت وعظّمت الهبّة التي انطلقت قبل أكثر من عام، وسماها بعض الفلسطينيين "انتفاضة القدس"، ولكن ما حصل هو العكس تماما، وبهذا يتحمل فلسطينيون قسطا وافرا من المسؤولية عن مآلات قضيتهم، سواء نقلت السفارة أم لم تنقل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.