تصدع الوهم العربي

Libyans celebrate the fourth anniversary of the revolution against Muammar Gaddafi at Martyrs' Square in Tripoli, February 17, 2015. REUTERS/Ismail Zitouny (LIBYA - Tags: POLITICS CIVIL UNREST ANNIVERSARY)

تأسيس الوهم
تفعيل الإيهام
الربيع وتعطيل آليات الإيهام

كل الأحداث في المنطقة العربية تؤكد اليوم أن الخيار الوحيد للخروج من الأزمة الحضارية الكبيرة هو التعويل على الذات وعلى الإنسان العربي بعمقه الإسلامي الممتد قبل كل شيء، وبطلاق أبدي مع كل الأيديولوجيات والتحالفات الخارجية التي بان زيفها. وهو السبيل القادر على ترميم البناء الحضاري للأمة وربط أواصر الجسد الواحد كشرط أساسي للتحرر والنهوض والتقدم.

تأسيس الوهم
قبل أن تكشف الثورة السورية زيف مقولتي "الممانعة والمقاومة"، وقبل أن تعري واحدا من أكثر الأنظمة دموية وتوحشا في التاريخ المعاصر كانت الأيديولوجيات السياسية قد أنهت طورا هاما من أطوار تعطيل العقل العربي الخارج للتو من صحراء الوعي الاستعماري المباشر من جهة والداخل إلى عقود من جدب الوعي الاستبدادي باعتباره أجلى وجوه الاستعمار الداخلي من جهة أخرى بدءا بمنتصف القرن الماضي.

مكنت الأيديولوجيا السياسية المستجلَبة على ظهور "نُخب التغريب المحلية" من إغراق العقل العربي في مستنقع الخطاب الأيديولوجي ذي الأقفال المغلقة والأبواب الموصدة بمختلف مرجعياته الماركسية والقومية والليبرالية وحتى الدينية ذات الخلفية الحزبية الضيقة التي ترفع لواء الحقيقة المطلقة وطوق النجاة الوحيد.

مكنت الأيديولوجيا السياسية المستجلَبة على ظهور "نُخب التغريب المحلية" من إغراق العقل العربي في مستنقع الخطاب الأيديولوجي ذي الأقفال المغلقة والأبواب الموصدة بمختلف مرجعياته الماركسية والقومية والليبرالية وحتى الدينية ذات الخلفية الحزبية الضيقة التي ترفع لواء الحقيقة المطلقة

نجحت هذه "المنوالات" المُلغية ـ في أغلبها ـ لملكة النقد وحق الاختلاف والمشحذة لخلايا التعصب والتطرف والعنف في ترسيخ التقسيم الذي دشنه وعي "سايكس بيكو" منذ مطلع القون الماضي بأن كانت امتدادا في تصوراتها ومقارباتها للتقسيم المادي الذي فرضته المعاهدة الاستعمارية على الأرض. مَنعت بذلك التصوراتُ الأيديولوجية الأمة من استنبات الهياكل الفكرية الذاتية داخل التربة العربية الإسلامية بامتدادها الحضاري العميق وبأذرعها العلمية الضاربة.

فالدولة الإقليمية العربية التي أُنشئت استعماريا إثر نهاية الحرب العالمية الثانية إنما كانت تطبيقا هندسيا للاتفاقيات والمعاهدات المبرمة خلال الحربين الأولى والثانية في تقاسم واضح وصريح لمجال النفوذ الاستعماري بين القوى المنتصرة خلال الحربين وفرض التصور الرأسمالي على العالم.

حينها مثل التصور الاشتراكي خيارا آخر للنخب العربية التي تورطت في تبني هذه الرؤية حتى ابتلعتها وعطلت قدرتها على التحرك الذاتي بل وتحولت هي الأخرى بعد انهيار "الاتحاد السوفياتي" إلى إطار مرجعي للعصابات ولقانون "الأوليغارشيا المافيوي" وتجلت نظاما استعماريا توسعيا لا يقل شراسة عن النظام الرأسمالي مثلما أثبتت ذلك الثورة السورية العظيمة وقبلها ثورة الأحرار في الشيشان المسلمة.

أخطر إنجازات وعي سايكس بيكو وأكثرها دقة هو قدرتها على الإيهام بالاستقلال وبنشأة الدولة الوطنية في حين لم يكن التقسيم غير تقطيع وتمزيق لأواصر الأمة بهدف جعل الجزء المكون للكل كلا بنفسه يتطور نحو الاستقلالية عن المكون الأم بل ويتآكلان دوريا في نظام تعطيلي متواصل مثلما هو الحال اليوم في المنطقة العربية حيث تقوم الصراعات الداخلية والبينية بالدور الاستعماري القديم بشكل أكثر نجاعة ودموية.

تآكل الأجزاء كان محكوما بتوجيه الولاءات نحو مرجعية خارجية تتحدد بالاتجاه نحو المعسكر الاشتراكي أو المعسكر الغربي حسب ما تمليه رياح المنطقة العربية ونسائم ثرواتها، فكان بذلك مشروطا بأن يمنع الاتجاه نحو الداخل والتعويل على الذات باعتبارها البوصلة المركزية الرئيسية في تحديد المنطلق والمسار والهدف لكل حركة أو مشروع حركة.

تفعيل الإيهام
الإيهام أو التوهيم هو تحويل الوهم المُركز بما هو معطى ثابت ومكثف إلى جملة من الآليات الثقافية المبثوثة في كافة أوجه الفعل الإنساني والاجتماعي والحضاري.

الإيهام بالدولة الوطنية والعدالة والحرية والتقدمية ومحاربة الرجعية والمقاومة والممانعة وبناء الدولة الحديثة والديمقراطية والحداثة وحتى النشيد الوطني.. ليس إلا الوجه الأبرز لفعل الإيهام الذي كرسته الدولة الإقليمية العربية في شكلها الاستبدادي.

لم يكن النظام الرسمي العربي حارسا لحدود "سايكس بيكو" الترابية مثلما توهمنا بذلك أدبيات الممانعة والمقاومة، فهذه مهمة القوى الاستعمارية الكبرى. النظام العربي هو حارس للوعي الضامن لسلامة خطوط "سايكس بيكو" والقائم أساسا على آلية الإيهام والإلهاء التي مارسها إعلامه طوال عقود

لم يكن النظام الرسمي العربي حارسا لحدود "سايكس بيكو" الترابية مثلما توهمنا بذلك أدبيات الممانعة والمقاومة، فهذه مهمة القوى الاستعمارية الكبرى مثلما أثبتت ذلك حرب الخليج الأولى عقب الغزو العراقي للكويت حيث تدخل شرطي النظام العالمي بنفسه لإعادة حدوده إلى مكانها. النظام العربي هو حارس للوعي الضامن لسلامة خطوط "سايكس بيكو" والقائم أساسا على آلية الإيهام والإلهاء التي مارسها إعلامه بمنصاته المختلفة طوال عقود الاستبداد العسكري والسياسي بحرفية عالية.
تسعى آليات الإيهام إلى تحقيق هدفين أساسيين:

يتمثل الأول في التغطية على عمليات الفساد والنهب المنظم الذي ينخر جسد الأمة والذي دفع أجيالا بكاملها إلى منحدرات الهجرة والانحراف والتطرف والالتحاق بجماعات العنف العابرة للحدود. أما الثاني فيتجلى في منع ولادة أي بديل حقيقي قادر على تحقيق الشعارات التي تنادي بها، أي أن جوهر الفعل الاستبدادي العربي هو منع نشأة فعل البناء الحقيقي عبر الإيهام بوجود هذا الفعل وهذا هو أخطر أدواره وأكثرها بشاعة.

خذ مثلا فكرة "المقاومة والممانعة" بما هي واحدة من أخطر أشكال الإيهام، فقد ملأ الشعار وأصحابه مجال الفعل العربي طويلا وبشكل منع نشأة الفعل المقاوِم الحقيقي تفعيلا لمبدأ المرآة العاكسة الذي يتقنه النظام الرسمي العربي.

الربيع وتعطيل آليات الإيهام
لا يمكن الجزم بنهاية الوهم لأن كل آليات التوهيم والتزييف لا تزال قائمة بل وتضرب عميقة في كل مفاصل المشهد الاجتماعي والسياسي والحضاري وهي تحاول اليوم التكيف مع الواقع الثوري الجديد بتقنيات مستحدثة تتراوح بين تفعيل نظرية المؤامرة كحد أقصى أو التماهي مع الخطاب الثوري كحد أدنى؛ لكن من ناحية أخرى لا يمكن الجزم أيضا بأنها لا تزال تمارس نفس الفعل التزييفي وبنفس النسق الذي كانت عليه قبل انفجار ثورات الربيع العربي يوم 17 ديسمبر/كانون الثاني 2010 بالريف التونسي العميق.

فقد شكلت ثورات الربيع العظيمة أكبر تهديد وظيفي لوعي "سايكس بيكو" وللحاضنة الثقافية التي خلقها رغم الصمود الكبير الذي أبدته الدولة العميقة بكل تشكلاتها ولا تزال. تجليات التهديد تبرز خالصة المعالم في انهيار حائط الخوف السميك الذي كان يحصن هيكل الاستبداد صورة وتمثلا وردود أفعال، فالقمع الوحشي الذي لا يزال يمارسه النظام السوري مثلا أو وحشية النظام الليبي السابق لم يثنيا السوريين ولا الليبيين عن مواصلة الصراع حتى سقوط رمز الاستبداد.

تهديد الحاضنة المعرفية التي خلقها منطق "سايكس بيكو" الحضاري تتجلى أيضا في السقوط المرعب لنخب الأيديولوجيا السياسية العربية التي انكشفت، والتي تمثل صمامَ أمان للنظام الاستبدادي الذي عاشت توهم الناس بمقارعته في الوقت الذي كانت تمثل فيه أعظم شروط وجوده.

لا يمثل هذا الانكشاف في الحقيقة إلا الجزء الأصغر من الكشف الذي حققته موجة التغيرات الشعبية العربية الأخيرة بخاصيتها السلمية الفارقة قبل أن تحولها أنظمة الوكالة الاستعمارية إلى حروب أهلية دامية ومحاور للتهجير وللتطهير العرقي والطائفي المتوحش.

لقد حققت الثورات العربية في فترة وجيز جدا قفزة نوعية هائلة للوعي العربي وهي قفزة ما كان له أن يدركها إلا بعد عشرات العقود من السير التاريخي الطبيعي للوقائع، بل إن حجم القناعات الجديدة أصبح بالسرعة والكثافة التي يصعب معها استيعابه وتصديقه وتمثله

على طرف آخر أصيبت خلايا كثيرة من خلايا الإيهام العربي بالعطالة وفقدت بريقها الوظيفي الذي كان لها سابقا. فمعجم النضال وسرديات المقاومة بل وحتى شيطنة الحاكم وكل الأغطية الذي كانت تتلحف بهما النخب العربية المحلية طويلا ـمن وصل منها إلى السلطة ومن لم يصل ـ لم يعد فعالا، بل كشف أن هذا الخطاب نفسه هو جزء من الفعل الاستبدادي خاصة عند التيارات القومية ـ المتلحفة برداء "العروبة والوحدة ومحاربة الرجعية"ـ والمدارس الاشتراكية والليبرالية.

تعطلت كذلك آلية أخرى من أخطر آليات النظام الاستبدادي ممثلة في شبكة النسيج الرمزي للأفكار والرؤى والتمثلات الثقافية والتعبيرات الفنية والاجتماعية التربوية التي يشكل الإعلام والمدرسة رأسي حربة في نظامها الداخلي، وهو أمر يفسر إلى حد بعيد بروز تعابير ورؤي محافِظة ومستحدثة بعد الربيع العربي لا تزال في طور جنيني لكنها تتقدم بسرعة كبيرة مدفوعة بقوة وسائل التواصل الاجتماعي.

لقد حققت الثورات العربية في فترة وجيز جدا قفزة نوعية هائلة للوعي العربي وهي قفزة ما كان له أن يدركها إلا بعد عشرات العقود من السير التاريخي الطبيعي للوقائع، بل إن حجم القناعات الجديدة أصبح بالسرعة والكثافة التي يصعب معها استيعابه وتصديقه وتمثله.

قناعات كثيرة وخلاصات هامة ستمثل الأساس البديل لوعي سايكس بيكو من ناحية وستشكل كذلك قطيعة معرفية هي الأكبر في تاريخ القطائع المعرفية التي عرفتها الأمة عبر تاريخها الطويل في مكافحة الاستبداد باعتباره الوكيل المباشر والأشرس للاستعمار والممثل الرسمي لأطماعه ومصالحه في المنطقة العربية.

أول هاته القناعات هو زيف التحالفات الخارجية مهما بلغ حجم تطابقها الإستراتيجي مع الأمة في لحظة تاريخية ما؛ لأن تحالف بعض القوى الاستبدادية العربية مع الحليف الشيوعي سابقا والاشتراكي لاحقا لم تتمخض عن غير سوق محلية للخردة العسكرية التي لم تستعمل إلا لتقتيل الشعوب وذبحها كما فعل النظام الإجرامي في سوريا أو في مصر أو في الجزائر أو في اليمن أو في ليبيا.

إن ترميم الذات وإعادة صياغة التحالفات داخل البناء العربي نفسه قبل كل شيء ـ ومهما بلغ حجم التنازلات والتضحيات ـ هو السبيل الوحيد لتوجيه الوعي الناشئ من رماد الربيع العربي بالشكل الذي يعطل نهائيا آليات العنف والتخريب ويفعل من جديد آليات البناء الحضاري لأمة تملك كل شروط السيادة والاستقلال والتقدم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.