أحمد زويل والخطايا السياسية للعالِم

Egypt's Ahmed Zewail, Nobel prize winner for chemistry, poses at a news conference in Stockholm December 7, 1999. REUTERS/Stringer/File photo **SWEDEN/NORWAY OUT**NORWAY OUT. NO COMMERCIAL OR EDITORIAL SALES INNORWAY. SWEDEN OUT. NO COMMERCIAL OR EDITORIAL SALES IN SWEDEN

شخصية زويل
ضريبة باهظة
أحلام العالم

لا يشكك منصف في جدارة الفيزيائي والكيميائي الراحل أحمد زويل بالمكانة العلمية الرفيعة التي وصل إليها؛ تلك التي بلغت قمتها بحصوله على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999 عن تصويره جزيئات المواد الكيميائية أثناء تفاعلها، خاصة أن المجال الذي كرمه العالَم فيه قليلا ما تدور حوله الشكوك بوجود محاباة في منح الجوائز الخاصة به، على عكس الحال فيما يخص جوائز نوبل للسلام والأدب مثلا.

إلا أن الرجل ظلم نفسه حين اتخذ موقفا غير عادل من الخلاف السياسي المحتدم في مصر منذ الانقلاب العسكري الذي قام به الجيش في يوليو/تموز عام 2013، وكذلك فصل من قبل بين انتمائه إلى ثقافته وقومه وبين طموحه العلمي للتفوق؛ فكيف يمكن لنا قراءة هذا الموقف وذاك في ضوء مسيرة حياة هذه الشخصية العربية المهمة بعيدا عن التشنجات والمبالغات الكثيرة التي طفحت بها مواقع التواصل مع الرجل أو ضده؟

شخصية زويل
عند قراءة ما كتبه أحمد زويل عن نفسه، نجد أن طموحه العلمي الكبير -الذي لم تتحكم فيه عوامل مادية بالأساس كما تكشف سيرته الذاتية- مع تفوقه وتعلقه الفطري بالعلم والتحليل هو الذي قاد خطوات حياته، وتغلّب هذا على كل العوامل الأخرى التي صنعت شخصيته؛ من انتماء ديني ووطني.

1- فالبيئة التي تربى فيها الرجل كانت متدينة بشكل قوي: سواء في داخل البيت "اتسمت والدتي -كما يقول- بالورع والتقوى، وحرصها على أداء الصلوات الخمس في ميعادها، وهي بالفعل اسم على مسمى؛ فاسمها روحية، وهي روحانية بكل ما تعني الكلمة" (عصر العلم ص 35). أمْ في الحي الذي عاش فيها قريبا من مسجد الصوفي الشهير إبراهيم الدسوقي: "ولمسجد سيدي إبراهيم الدسوقي أهمية خاصة في حياتي؛ فقد حدد هذا المسجد معالم طفولتي المبكرة، فقد كنت ورفاقي من الأطفال نجد أنفسنا منجذبين إلى المسجد للصلاة والمذاكرة، وقد شكل هذا المسجد بالفعل نواة للدراسة الجدية في ذلك العمر.. ومن ثم شكل المسجد محور حياتي وحياة أهل المدينة كلها، وكان بمثابة القوة الجاذبة لنا جميعا على العمل والحياة معا في جو من التناسق والوئام" (ص 32- 33).

2- ولم يكن والده بعيدا عن التدين، ولكنه أضاف إلى ابنه معنى آخر مهمّا قال عنه فيما بعد: "ربما كان أعظم شيء تعلمته من والدي هو أنه لا يوجد تناقض البتة بين الحب الشديد للعمل والإخلاص له وبين حب الحياة والاستمتاع بها" (ص 35)؛ لهذا أحب زويل الموسيقى، وعشق غناء أم كلثوم، وآمن بضرورة الابتعاد عن منغصات الحياة، وآمن بأن الإنجاز العلمي هو أكثر شيء يمكن أن يبدع فيه، وتتحقق له من خلاله السعادة، حتى بدت أميركا في عينيه "أرض الفرص" (ص 60).

3- ولم يكن زويل ضعيف الانتماء إلى وطنه مصر، فقد ظل متعلقا بها إلى آخر حياته بوصيته أن يدفن في ترابها، لكنها لم تكن هي الأرض التي يمكن أن تستوعب طموحه في الظروف التي تعيشها؛ فـ "الخروج من مصر -كما يعبر- يكون صعبا لأسباب الارتباط الوجداني بالوطن الأم.. وهو شعور يملأ القلب بالمواجع والعيون بالدموع. وكان لابد للأيام أن تسير، ويبحث المرء عن مستقبل يجعل منه إنسانا قادرا على العطاء في مجاله، وقادرا أيضا على التعايش في منظومة تصقل المواهب، وتهيئ حرية الفكر والإبداع" (ص 61).

لكن هذه المنظومة التي تكلم عنها زويل لم تكن لتحتضنه وتعطيه الفرصة الكاملة بدون أن تخضعه لنظامها؛ فهي لا تمنح هذا النوع الخطير من الخبرة في علوم مؤثرة على موازين القوى وتتعلق بصناعة السلاح مباشرة، بدون أن تخضعه للمصالح والمواقف السياسية والثقافية للدولة الحاضنة والجهات الممولة رسمية وغير رسمية.

ومن هنا بدا الثمن الذي دفعه الرجل باهظا بإزاء الفرصة التي أعطيت له، فقد خدم بخبرته العلمية الولايات المتحدة الأميركية خدمات جلَّى -وهذا طبيعي وعليه قليل من الغبار على أية حال- لكن أن يخدم به إسرائيل، ويعد علاقته بعلمائها ومعاهدها العلمية التي يشرف عليها الجيش الإسرائيلي علاقة علمية خالصة وبريئة ولا صلة لها بالسياسة، فهو أمر إن لم يكن ناتجا عن ضغط لا يبرر هذه السقطة، فهو ناتج عن سذاجة؛ لا يُغفَر لقامة علمية مثل زويل أن يقع فيها.

وقد دافع الرجل عن نفسه عدة مرات بأنه "لا سياسة في العلم ولا علم في السياسة"! وهو موقف غريب من عقلية بهذا الحجم؛ خاصة أن تكنولوجيا الليزر التي تتعلق مباشرة بدراساته كانت من الأدوات التي قتلت بها إسرائيل كثيرا من الفلسطينيين وهم آمنون في عقر بيوتهم، وهدمت كثيرا من المساجد التي ليست أقل حرمة من مسجد الدسوقي، وقتلت كثيرا من الأطفال الذين ليست دماؤهم أقل حرمة من دماء أحفاده!!

وتنبهنا هذه الإشكالية إلى ضرورة التركيز على عدم تجريد الدراسات العلمية التجريبية في بلادنا -مهما بلغت دقتها وتوسعها- من الدراسات الثقافية والدينية التي تغرس في الطلاب تمسكهم بهويتهم، وحرصهم على انتمائهم إلى شعوبهم وبلادهم.

ضريبة باهظة
ولكي ندرك تماما أصل الأزمة التي تعيشها العقول العربية المهاجرة إلى الولايات المتحدة وأوروبا، لابد أن نفهم أن جذور مشكلة زويل وعشرات الآلاف مثله من العلماء المهاجرين من بلادنا إلى الغرب مرجعها إلى ظلم سياسي واقتصادي طويل جرّف هذه البلاد، وأباح خيراتها الكثيرة لحفنة قليلة من المتحكمين في المجتمع والدولة بلا أهلية ولا استحقاق، في مقابل إفقار الشعوب، وإخلاء المعامل ومراكز البحوث والجامعات والمستشفيات من الإمكانات التي تستوعب المواهب، وتفتح أمامها أبواب الاكتشاف والإبداع العلمي.

وخروج العالم من أجواء هذه البلاد -التي تعمدوا أن يبقوها متخلفة- هو خروج من الموت العلمي بحق، لكن ليس إلى بلاد الحرية المطلقة؛ خاصة لمن يهتمون بالدراسات العلمية الحساسة. والإنسان العالم الذي يخرج إلى هذه البلاد ينبغي أن يعرف هذا جيدا، فدوائر القرار، وجماعات التأثير، والمؤسسات الاقتصادية والإعلامية الكبيرة لها تأثيرها الحاسم على مسيرته العلمية في البلاد التي يهاجر إليها.

وهنا يبدو التناقض فاضحا حين يتحالف العالم المهاجر أحمد زويل مع الظلم السياسي في مصر؛ ذلك الذي ضيع عليه فرصة التفوق في وطنه، ودفع به وبغيره من أصحاب المواهب والكفاءات إلى الهجرة إلى بيئة ترهن القادم إليها بحساباتها، وتأسره بمنحها، وتعرض وجوده للخطر حين يبدي أي مقاومة أو مخالفة.

وإذا كان العالم الباكستاني عبد القدير خان قد استطاع أن يهرب من الغرب بخبرة نووية نادرة إلى بلاده، حيث حقق التوازن النووي مع الهند بصناعة أول قنبلة نووية وطنية، فقد بادر الموت الغامض أو الاغتيال الصريح زملاء له كانت لديهم خبرة مقاربة؛ مثل: مصطفى علي مشرفة، وسميرة موسى، ويحيى المشد، وسعيد بدير رحمهم الله.

أحلام العالم
وقد حاول زويل بعد أن نال شهرته العلمية الواسعة المشاركة في الحياة السياسية المصرية كأحد الفاعلين فيها، وهو حق له بلا شك، إلا أنه يلفت نظرنا إلى ظاهرة ملحوظة في عالم الاقتصاد والسياسة أكثر منها في دنيا المعامل والكشوف العلمية، وهي أن الدولة التي تحقق لنفسها قوة اقتصادية تتجه مع الوقت إلى أن تكون قوة عسكرية، والشخص الذي يبرز في مجال العمل التجاري تظهر لديه طموحات سياسية، وكم من رجال أعمال صاروا سياسيين بين يوم وليلة؛ بدءا من البحث عن عضوية المجالس النيابية، وصعودا إلى الحقائب الوزارية، ثم رئاسة الوزراء، والمال هو اللاعب الرئيس في كل هذا.

أما أن يترك العالم طيلسان الجامعة، ويتجه إلى السياسة فهذا أمر ليس معهودا كثيرا، وقد أشيع في عهد مبارك أن أحمد زويل سوف ينافس على رئاسة الجمهورية، فتعرض الرجل -الذي دلّلته الصحافة المصرية طويلا- لحملة شرسة دعته إلى أن يعلن أنه مشغول بأعماله العلمية، ولا وقت عنده للسياسة.

ولم تكن هذه هي الحقيقة، فقد صرح الرجل بعد ثورة 25 يناير بأنه ربما فكر في المنافسة على المنصب المهم، وانشغلت وسائل الإعلام بهذا، لكن لما التهبت الساحة المصرية بالمنافسات الحامية بين الثورة ودولة مبارك التي قطعت الثورة رأسها العجوز فقط، أعلن زويل تراجعه عن هذا الموقف، وكان يحمد للرجل أنه تجنب هذه المهاترات التي لا يصلح لها رجل عالم كما يحمد لأينشتاين رفضه أن يكون رئيسا لدولة إسرائيل!

كان يمكن للرجل بعد انسحابه أن يطل من بعيد على المشهد المصري من محل إقامته بالولايات المتحدة لا يقول خيرا ولا شرا على أقل تقدير، ولكنه لأسباب نجهلها تورط في تعبيرات ومواقف داعمة للنظام الدموي الذي أفسد التجربة الديمقراطية المصرية، وحولها إلى نموذج يسخر منه الناس للغباء السياسي والتخلف الاقتصادي والعقلي الذي يخيم على البلاد!

لكن لابد من رصد التطور في هذا الموقف؛ حتى تبدو الحقيقة للقارئ كاملة، فقد اعترف زويل في عهد الرئيس محمد مرسي بأن من حق الإخوان أن يحكموا بعد أن انتخبهم الشعب، وأن التجربة الديمقراطية تعطيهم الحق في أن يأخذوا فرصتهم، وقد يأتي بعدهم غيرهم في عملية تداول صحيح للسلطة.

لكنه رجع وأيد الانقلاب، واعتبر السيسي منقذا للبلاد في وقت كان فيه النظام يشيع أن الجيش بنفسه سيبني مدينة زويل العلمية. وأخيرا خرج علينا الدكتور زويل قبل شهور من وفاته -كما زعمت ذلك مواقع إعلامية في حينه- ليصرح بأن "الشعب المصري أصبح في مأزق، ويجب التخلص من ‏السيسي‬ لإعادة بناء الدولة من جديد، وأنا أعتذر عن مشاركتي في أي شيء بعد مهزلة 30 يونيو".

إنه الفصل الخطير بين قيم الانتماء وبين الطموح الشخصي إلى تحقيق الإنجاز، حتى يفهم الرجل متأخرا جدا قضية في غاية الجلاء مثل خطيئة وأد التجربة الديمقراطية في مصر، وحتى يغيب عنه أن الإنجاز العلمي العبقري الذي تعاون فيه مع الإسرائيليين هو أداة من أدوات الاحتلال لقتل الأبرياء.

ولعل الوصية الأخيرة لزويل بأن يدفن في تراب مصر نوع من التكفير عن بعض هذه التصرفات، لكن يبقى للتاريخ أن يقول كلمته العادلة، ويكل أمر الغيوب إلى عالمها سبحانه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.