حزب العدالة المغربي و"فرضية" التحكم

بن كيران يخاطب مؤيدي العدالة والتنمية في انتخابات 2015- المغرب


في لقاء جمعه بشبيبة حزبه، حزب العدالة والتنمية، أواخر شهر يونيو/حزيران الماضي، اعترف عبد الإله بنكيران جهارا وبالمباشر الحي بأن "المغرب يتوزع بين دولتين: دولة رسمية بقيادة الملك محمد السادس، ودولة ثانية لا يعرف من أين تستمد قراراتها وتعييناتها".

ويتابع رئيس الحكومة وأمين عام حزب العدالة والتنمية، بنبرة استباقية واضحة تشي بشكل ما ستفرزه الانتخابات التشريعية للسابع من أكتوبر/تشرين أول القادم: إن الحزب "سينتصر في الانتخابات المقبلة لأن هذه هي مصلحة البلد ومصلحة الدولة الرسمية التي يرأسها الملك محمد السادس، وليس تلك التي لا ندري من أين تأتي قراراتها وتعييناتها".

ويضيف، في إشارة ضمنية إلى تخوفه من احتمال التحكم المسبق في العملية الانتخابية: "إما نجاح حقيقي وإلا فالكل سيؤدي نتائجه وعواقبه".

لا تحتمل المقتطفات أعلاه كثيرا من التفسير والتأويل، إذ هي من ناحية أولى، إقرار صريح بوجود جهة أو جهات "نغصت" ولا تزال تنغص على رئيس الحكومة المغربية، وتلميح مباشر، من ناحية ثانية، من لدن أمين عام حزب العدالة والتنمية، إلى أن التلاعب بنتائج الانتخابات بهذه "الصيغة التحكمية" أو تلك، ستترتب عنها نتائج وعواقب سيؤدي الكل ثمنها عاجلا أم آجلا.

وقد أشار، بخصوص هذه النقطة إلى احتمال لجوئه لحركة 20 فبراير (الصيغة المغربية للحراك العربي الذي انطلق بفبراير/شباط ثاني من العام 2011) للنزول إلى الشارع، هو الذي ناهض الحركة إياها وحاربها واعتبر الثاوين خلفها قاصرين، وكان لها الفضل مع ذلك (وبالمفارقة الغريبة) في إيصاله إلى كرسي رئاسة الحكومة، بعدما منحه الدستور المعدل إمكانية ذلك، ولأول مرة في تاريخ المغرب الحديث.

ما الذي يقصد حزب العدالة والتنمية وأمينه العام، بمصطلح التحكم الذي تمارسه تلك "الدولة الثانية، التي لا يعرف من أين تستمد قراراتها وتعييناتها؟"

إنها الآلية التي تتم بمقتضاها ومن خلالها صناعة الخريطة الانتخابية، بغرض تمكين هذا الحزب أو ذاك، إما بالتزوير المباشر أو بغض الطرف عن شراء الذمم، أو بالتقطيع المدروس للدوائر لترجيح كفة هذا والحيلولة دون ترجيح كفة ذاك، أو بابتزاز الفاعلين لثنيهم أو لتحديد سقف ترشيحاتهم، أو للحيلولة دون أن ينسقوا فيما بينهم، أو بإعمال الترسانة القانونية لاستبعاد هذا الطرف أو ذاك، أو بكل هذه الأدوات مجتمعة، بجرعات متفاوتة تفاوت القابلية للقبول والامتثال.

الكل يخضع في صلب هذا المعطى الثابت، لترتيبات مسبقة قد لا يعلم الفاعلون تفاصيلها بدقة، لكنهم يشعرون بها في قرارة أنفسهم، أو يتم تبليغهم بها بطرق مختلفة، أو يعمد إلى التلميح لهم بها، فيدفعون إلى الامتثال لشفرتها والتوافق بخصوصها وفق صيغة من الصيغ المباحة والمتاحة.

هي تقنيات معهودة في تاريخ الانتخابات في المغرب، حتى وإن خفت وتيرتها وحدتها منذ وصول الملك محمد السادس للسلطة. ثم هي تقنيات باتت جزءا من قواعد اللعبة، قد يتم الطعن فيها على مستوى الخطاب السياسي الرائج للفاعلين الحزبيين، لكن سرعان ما يتم القبول بها في المحصلة النهائية، إما على مضض (كما هو حال الأحزاب الديموقراطية) مخافة الإقصاء من اللعبة، أو بـ"ضمير مرتاح" بالنسبة للأحزاب الإدارية التي كانت الدولة تعمل على تفريخها للدفع بهذا الوافد الجديد، أو إعمالها لإفساد العملية برمتها وترك الأحزاب المتبارية تحت رحمة "الجهة المتحكمة"، أي دهاليز وزارة الداخلية وفق ما أشيع ولا يزال يشاع لحين كتابة هذه السطور.

إنه المضمون الأول للتحكم الذي يشير إليه أمين عام حزب العدالة والتنمية ويحذر من نتائجه وعواقبه، ويهدد -وإن بسياق مختلف- باللجوء إلى الشارع إن تم إعماله بطرق فجة قد يكون من شأنها إقصاء الحزب أو ترجيح كفة غريمه السياسي "التاريخي"، حزب الأصالة والمعاصرة، الذي ثوى خلف تأسيسه فؤاد علي الهمة، المستشار الحالي المقرب جدا من الملك.

بيد أن ثمة جانبا ثانيا من التحكم تثوي خلفه تلك "الدولة الثانية" على مستوى القرارات والتعيينات، ويتجاوز في وظيفته وأدوات اشتغاله صناعة الخرائط الانتخابية الموسمية ليطال مفاصل الدولة ومؤسساتها وأجهزتها، والعمل على توجيه قراراتها بصورة مباشرة أو من خلال تفريخ العشرات من البنى المؤسساتية والإدارية، لا سلطة للحكومة مباشرة عليها، ولا سبيل من لدنها لمراقبتها أو لممارسة الحد الأدنى من الوصاية عليها (هيئات استشارية، مجالس عليا، مؤسسات عمومية ذات طابع خاص، تعيينات بمناصب سامية.. الخ).

ويبدو أن هذا الجانب من التحكم هو الذي أشار إليه أمين عام حزب العدالة والتنمية ببدايات عهدته، عندما تحدث عن "العفاريت والتماسيح"، كونه لم يجد سبيلا لمحاصرتهم أو للحد من نفوذهم أو لتحييد فعلهم، أو إخضاعهم لسلطته باعتباره رأس القرار التنفيذي الرسمي الذي لا يعلى عليه بمنطوق الدستور إلا ما تم سنه للملك من صلاحيات ومن وضع اعتباري لا يتجاوز عليه أيا تكن الظروف والملابسات.

ومع أن تصريحات بنكيران كرئيس للحكومة ثم كأمين عام لحزب العدالة والتنمية، قد أثارت ردود فعل قوية من لدن أطراف عدة (لدرجة الحديث عن "غضبة ملكية" بهذا الخصوص)، فإن الرجل لم يأت بجديد يذكر على مستوى التشخيص؛ إذ ما "يصفه الفاعلون السياسيون بالتحكم هو الهيمنة والسيطرة على هامش الحركة المتاح أصلا في هذا الإطار، بمعنى هناك تحكم مقنن ويمنح هامشا محددا لجميع الفاعلين السياسيين، وهناك تحكم إضافي يحاول أن يسلب بعض الاختصاصات ويتدخل في سير المؤسسات المنتخبة وتوجيهها إلى العمل لفائدة أو ضد الفاعل السياسي.

وربما هذا ما يشكو منه رئيس الحكومة ويسميه تارة تماسيح أو عفاريت، لكونها تمتلك القدرة على تغيير القرارات بشكل غير منطقي، أو تعيق إخراج قرار قبل صدوره ولمجرد التفكير فيه. وهذا ما يؤشر على وجود جهات لم يسمها، تدخل على الخط بينه وبين المؤسسة الملكية وبينه وبين الوزراء وتؤثر على مشاريع قرارات لم تكتب على الورق، مما لا يقدر على فعله سوى العفاريت" (علي اسندال، هسبريس، 20 أغسطس/آب 2016).

إن عبد الإله بنكيران يدرك جيدا -لا سيما بعد أن تبوأ منصب الرجل الثاني في الدولة، ويمكنه الحديث بالحجة والبرهان وبالبناء على المعطيات المتوفرة لديه- يدرك جيدا أن لا جديد يذكر فيما تفوه به وصرح، على الرغم من ضرورة الاعتراف له بالجرأة في المجاهرة بأمر يضمره الآخرون، ولا يستطيعون الجهر به:

– إنه يدرك قبل وصوله إلى رئاسة الحكومة، أن ثمة "دولة ثانية" تسهر على صناعة الخرائط الانتخابية، فتعمد إلى تقديم هذا وتأخير ذاك، إلى مهادنة هذا وإقصاء ذاك. إنه يدرك أن لهذه "الدولة" ترتيباتها وحساباتها ومعاييرها في ضبط التوازنات.. ألم يكن هو نفسه، ضمن قادة الحزب عندما أبلغته الداخلية في استحقاق انتخابي سابق، بالعدول عن تغطية كل التراب، فامتثل دون مزايدة؟ ألم يكن على رأس الحزب عندما اقتطعت من هذا الأخير أكثر من رئاسة جهة لفائدة أحزاب لا تستحقها بمقياس ما حصلت عليه من أصوات.. ومع ذلك ارتكن إلى الخلف وامتثل مستسلما؟

– ثم إن الرجل يدرك تماما، قبل تعيينه رئيسا للحكومة، بأن النظام السياسي بالمغرب مرتكز على ازدواجية السلطة -وهذا من متاهات "معزوفة" الانتقال الديموقراطي- وأنه يتقاسم السلطة مع الملك، الذي هو رئيس مجلس الوزراء ورئيس الدولة بمنطوق الدستور، وبالعرف التاريخي أيضا.
إذا كان الرجل يدرك ذلك، وهو مدركه بالتأكيد أكثر من غيره، قبل وصوله لرئاسة الحكومة وأثناء ممارسته لصلاحياتها، فلم إثارته في هذا الوقت بالتحديد؟

يبدو لنا أن الرسالة التي يريد بنكيران إيصالها، واضحة، ولا تحتمل إلا قراءة من أحد شقين:
– الأول، شعوره "العفوي" -المبني على معطيات مدققة دون شك- بأن ثمة نية لإقصائه من لدن أطراف معينة بـ"الدولة الثانية" تراهن على غريمه السياسي الأبرز (حزب الأصالة والمعاصرة)، فتشتغل من وراء ستار لإفراز خريطة انتخابية تحرم حزبه من عهدة ثانية "مستحقة"، لا سيما وأنه يتباهى بإنجازات لحكومته يصفها بـ"الأسطورية".

– الشق الثاني ويتمحور حول أطروحة "المظلومية" التي يمكن للمرء أن يستشفها من أدبيات الحزب وخطابات قادته بالصف الأول. ومفاد هذه الأطروحة هو القول بأن الحكومة (بقيادة العدالة والتنمية) قد أنجزت جزءا كبيرا من تعهداتها، وأن سبب إخفاقها هنا أو هناك مرده إكراهات وضغوطات "الدولة الثانية" التي لم تتعاون ولم تتساهل، لا بل وناهضت العديد من المشاريع التي وعد بها الحزب والتزم بتنفيذها أثناء الحملة الانتخابية للعام 2012.

إننا لا نشك قيد أنملة في وجود سلط مضادة بالمغرب، ولا نشك في وجود لوبيات تناهض الإصلاح. تماما كما لا نشك في أن ازدواجية السلطة لا تمنح الوضوح الكافي للتباري بالبناء على البرامج والمحاسبة بناء على الإنجازات.

إلا أن كل ذلك لا يشفع لحزب العدالة والتنمية ولأمينه العام ولا يعفيهما من المسؤولية؛ إنهم كانوا يعلمون ذلك علم اليقين، ومع ذلك قبلوا باللعبة جملة وبالتفصيل. وأنا على استعداد للقول، بهذه الجزئية، إنه لولا مخافة سحب البساط من تحت أقدام الحزب وأمينه العام، لما نددوا فرادى وجماعات، بسلوك "الدولة الثانية"، فما بالك التحذير مما قد يترتب عن سلوكها من عواقب ونتائج.

ولذلك فإننا نعتقد جازمين بأن التصريحات التي قدمناها بمستهل هذه المقالة، إنما هي للاستهلاك الانتخابي الخالص، ولا تمت بأية صلة إلى تذمر مطلق من وجود "الدولة الثانية" فما بالك من سلوكها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.