الفقه السلفي الإصلاحي والفكرة الديمقراطية

العنف السلفي في تونس: الواقع والخيارات

مرت على الوطن العربي عقود من الصراع والجدل الثقافي العنيف، منذ أن أطلقت دعوات من مفكريه لمراجعات وميثاق، يتحد حوله أنصار مشروع النهضة للوطن العربي وإنسانه، وخاصة تفعيل قيم الحقوق المدنية والدستورية، والعدالة والشراكة الشعبية، والتي من الصعب تخلّقها دون أرضية قناعة لدى مختلف التيارات العربية، في الفهم الإنساني لمنطلقاتها الأيديولوجية، وضرورة العودة إلى صياغتها من جديد.

وهي دعوات تشمل كل التيارات، وليس التيار الإسلامي بأطرافه المتعددة وحسب، والتي باتت تفصل بينها مسارات ليست سهلة، بين مدرسة المقاصد ومدرسة التقليد الجديد الذي يعود إلى ظاهر النص بفصل كلي للمقصد، وبتفسير يميني حاد، لم يُطبق بهذه المعايير في أزمنة الإسلام الأولى، وإنما بعده عبر انحرافات الفقه السلطاني والحكم الجبري.

غير أن أحد جوانب القصور في ساحة النقد والفكر العربي هو الاشتغال بمساحة الصراع مع الإسلاميين، بدلا من آفاق التجديد داخل الطيف الإسلامي بما فيها الفكر السلفي الواسع، وأهمية الفصل بين آفاق الفكرة السلفية التي تحتاج إلى تشريح، وليس توضيح فقط، لتحقيق العدالة في نقدها، والذي يتداخل بين الهم العربي، وأزمة الإنسان في حدوده القومية، وبين الاستثمار الواسع غربيا تجاه هذا المصطلح، كجزء من أدوات التجريم وشرعنة التدخل.

فالسلفية الجهادية والسلفية اليمينية المتشددة، تختلفان عن السلفية العلمية والسلفية التقليدية والسلفية الإصلاحية، وهذه الأخيرة ظُلمت كثيرا، ولم يُعتن بتنظيم صعود فكرها النقدي الذي بدأ بمسألة التجرد من التقليد والخرافة، شجعته على ولوج المدرسة المقاصدية، وحتى التنوير المرتبط في فقه هذه المدرسة بالأصول الشرعية، من حيث قناعته بأن سلفيته لا تتعارض مع التجديد الفقهي بل تتفق معه.

والغريب أن الباحث الفرنسي شارل سان برو، في كتابه حركة الإصلاح في التراث الإسلامي، المنشور في عام 2010، قد وثّق للفكر السلفي التقدمي، مساحة تأصيل واسعة في مشتركات فكره مع الحالة المدنية، وقصة البحث عن النهضة، ما لم أطلع عليه في مصادر أخرى.

لكنه بالغ في تعظيمه لهذه المدرسة لدرجة كبيرة، مقابل هجومه الشرس على الإخوان كفكر وليس تنظيم فقط، وإسقاطه لأي مساهمة فكرية يمكن أن تكون صدرت منهم، وأثار صدور نسخة كتابه المترجمة إلى العربية بالتزامن مع إسقاط الربيع المصري موجة شكوك، في علاقته بالبعد الرسمي، لكنني شخصيا أرى أن مادته خاصة التي جمعها من المستشرقين مهمة للغاية للباحث العربي المستقل.

غير أن قوة التسييس والتوظيف الشرس للحالة السلفية، في داخلها أو صناعة جماعات عنف فكري باسمها في اتجاهين متضادين من حيث الإعلان السياسي، لا من حيث أصول العقيدة، وهما التيار الجامي وتيار داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)، أرهق كثيرا هذا المصطلح الذي عانى في الأصل من اختطاف خطاب الغلو السلفي لمصطلحاته والمتاجرة به، لحساب الأنظمة الرسمية ومصالحها مع واشنطن، قبل ميلاد الغلو المسلّح الجديد.

وكمؤشر لتفاعل الفكر السلفي المعاصر، برز تيار جديد وُلد من خلال مشروع الشيخ حازم أبو إسماعيل المرشح الرئاسي في العهد المدني القصير لمصر، وأحد أبرز المعتقلين في إسقاط ثورة 25 يناير، من الممكن أن يُطلق عليه سلفية المقاومة المدنية الذي يؤمن بأولوية تحقيق العدالة، ومقاومة الاستبداد بعيدا عن العنف أو عسكرة الجماعات السلفية المتعددة.

وفي ظني أن هذا الفكر لا يزال في طور التشكل، وقد يجذب مجموعات مختلفة مستاءة من تسليع السلفية لمصلحة الولايات المتحدة وأنظمة نقض الربيع العربي، أو جماعات العنف والسلفية الجهادية، وإن اشترك معها في مشاعر الضيم للعالم الإسلامي.

وهذا التيار الجديد بحاجة إلى مراجعات مهمة في مسألة الفكرة من الشراكة مع العلمانية الوطنية، وفي قضية مساحة التشريع في تطبيق الشريعة، وصورتها المتعددة عند الجماعات، وكيف تصل إلى متطلبات الوجوب الشرعي ومتى، قبل أن تستنزفها جولة جديدة من الخصومات، وتراكم التعبئة الدعوية الثورية التي سجنت الإخوان فكريا عقودا من الزمن.

وهذا لا يعني استبعاد الصراع ولا التنافس السياسي الشرس، ولا غدر جماعة من هذا التيار أو ذاك، لكنه مسار لفتح العقل المسلم المعاصر على معادلة التوازن بين المصلحة ودفع المفسدة، خاصة في الدماء والاستقرار المدني، والتوازن الدقيق بينهما.

وفي مسارات متعددة من جغرافية المدرسة السلفية الواسعة، ظلت هناك دعوات ظاهرة للتعاون، والاتحاد مع الشركاء الإسلاميين والوطنيين، لإنجاز معادلة وطنية للإصلاح والنهضة في أقطار الوطن العربي، ومعادلة مقاومة للاستعمار الغربي والصهيوني.

لكنها عانت من طغيان الخطاب الوعظي الشرس الغائب كليا عن أبجديات الوعي الفكري والتقدير السياسي، بل إن كارثة الدعم لفصائل سورية لإسقاط الجيش السوري الحر، كانت مرفوضة من قبل العديد من المشايخ السلفيين، ولكن الفكرة كانت تُدحرج بصوت شعبوي حاد، وتدخل قوة ناعمة دحرجتها إلى هذا المصير.

ومؤخرا طرح المفكر السلفي الشيخ حسن الحميد، رؤية اعتبرت صادمة لمن لا يتابع تطور هذا الخطاب، حيث قدم بيانا فقهيا، بفهم مدني عميق، أصّل فيه أن النموذج الديمقراطي في تداول الحكم، وتحقق العدالة الحقوقية والتعايش الاجتماعي، هو المشروع الأفضل لأي حالة انتقال سياسي، وهو ما يتضمن إشارات واضحة للخروج من دعوات مبهمة، استخدمت تطبيق الشريعة كذريعة لتفجير الثورات وإسقاطها، ومطاردة الإصلاح المدني بحجة نموذج الشريعة الذي يسوّق.

وهذا لا يعني أن الشيخ الحميد في طرحه الفكري، يقصد عدم وجود مبدأ أساس لتطبيق الشريعة، لكنه يتعامل هنا مع فقه الشريعة في ظل واقع المسلمين، كما أن فقه الشريعة، يحتاج إلى أدوات ضرورية لصناعة السياسة والاستقرار، تَعبر عبر الفقه الدستوري، لا منصات الواعظين.

ولقد سُبق الشيخ الحميد في داخل المدرسة السلفية بدعوات قديمة وحديثة مماثلة وبعضها في الخليج العربي، كدعوة الدكتور حاكم المطيري الذي أضر به وبفكره التوغل في القضية السورية، والصراع الحزبي السياسي في الخليج، مما أدى إلى انسحاب ضمني من معركة الفكر الإصلاحي، والقيم الديمقراطية في الشريعة، كما أن المدرسة المغربية السلفية ومن أبرز رموزها الشيخ فريد الأنصاري لها صوتٌ مختلف في المعاني الإنسانية لفقه الشريعة، وهو صوت مُكمّل لروح الدسترة والتعايش الوطني والأممي مع المسالمين.

من المهم أن تُتاح للمدارس السلفية الجديدة مساحة التعاطي والحوار والشراكة الحيوية، كما أنه من المهم جدا للجمهور السلفي أن يعلم أن قضية إنصاف الأمة من المعتدين لن تتحقق أبدا بإنشاء حرب تصحيح عقائد، وهيمنة هذا المذهب أو ذاك، وإنما بالحوار الأخوي مع كل فكرة، وبشروط النهضة التي تمنح القوة وتنظم دعم المقاومين، لا الوصاية عليهم.

وأما المسألة الثانية فهي ضرورة إدراك هذه الشخصيات والفكر السلفي الواعي أن اجتياحات الضجيج لتكفير السني المختلف، أو العلماني العربي، أو أبناء الطوائف، وخاصة المدنيين الشيعة، وتثبيت استباحة قتلهم ليس عملا عفويا أبدا، وإن تمكن من مشيخات وقنوات، وإنما هو برنامج يستخدم بانتظام، لتركهم في ساحة هذا الصراع، وإشعال حفلات "تويترية" لمنع أي تمرد واع، ووقود هذه الحرائق يكمن في نقص الوعي والسطحية السياسية، ولعلها أهم معوقات النهضة السلفية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.