الخرطوم وواشنطن.. مسيرة عرجاء

مبعوث أميركا للسودان يسعى لتحقيق سلام شامل

مسيرة علاقات البلدين
خدمات وأثمان بخسة
حصاد السراب

 

 

تساؤلات كثيرة تحتشد تحاول فك شفرة العلاقات السودانية الأميركية التي دخلت في تعقيدات تصادم الأيديولوجي بالسياسي منذ يونيو/حزيران 1989 حين وصل نظام الرئيس عمر البشير للسلطة في السودان بانقلاب عسكري.

فنظام الخرطوم موسوم بتبني أيديولوجية إسلامية وأدرجته واشنطن في قائمة الدول الراعية للإرهاب في 1993 لإيوائه جماعات تعتبرها إرهابية بعد الهجوم على سفارتها في العاصمة الكينية نيروبي، ومهد ذلك لفرض عقوبات اقتصادية صارمة منذ 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1997، حيث أثرت على قطاعات حيوية وتقدر خسائر تلك المقاطعة بنحو 41 مليار دولار.

في ذات الوقت لا تتأخر واشنطن عن اعتماد براغماتية انتهازية حينما تتطلب مصالحها التعامل مع نظام تصفه بالإرهابي. وتتطرف مواقف واشنطن تجاه الخرطوم لتصل لحد العمل العسكري المباشر، حينما أمر الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في 20 أغسطس/ آب عام 1998 بمهاجمة مصنع للأدوية بالعاصمة الخرطوم بصواريخ كروز من سفن حربية أميركية متمركزة في البحر الأحمر في عملية أُطلق عليها اسم "عملية الوصول اللانهائي"، واتهمت واشنطن الخرطوم باستخدام المصنع في تصنيع أسلحة كيميائية.

واليوم يرحب القائم بأعمال سفارة الولايات المتحدة الأميركية في الخرطوم بعودة التعاون المخابراتي بين البلدين خلال الاحتفال بالعيد الوطني لبلاده بحضور ضباط من جهاز الأمن السوداني من رتبة عقيد حتى رتبة فريق. ومن المقرر أن يغادر 50 ضابطا في سبتمبر/ أيلول المقبل إلى الولايات المتحدة لإجراء تدريبات حول مكافحة الإرهاب، والإتجار بالبشر، والجرائم الإلكترونية.

يشار إلى أنه بعد انهيار الأوضاع الأخير في دولة جنوب السودان طلب سلاح الجو الأميركي من الخرطوم استخدام مطار الأبيض عاصمة ولاية كردفان السودانية لإجلاء عدد من الدبلوماسيين والمواطنين.

مسيرة علاقات البلدين
يعود تاريخ اهتمام الولايات المتحدة بالسودان إلى العام 1910، حين قام الرئيس الأميركي الأسبق تيدور روزفلت بزيارة رسمية للخرطوم. كما زار السودان في أواخر خمسينيات القرن الماضي ريتشارد نيكسون نائب الرئيس الأميركي في عهد الرئيس دوايت إيزنهاور. وعرضت حينذاك المعونة الأميركية على السودان وقد تحفَّظ عليها حزب الشعب الديمقراطي المؤتلف مع حزب الأمة، وكان حزب الشعب وثيق الصلة بمصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر الذي لم يكن على وفاق مع واشنطن.

في عهد الرئيس جعفر نميري (1969- 1985) بدت العلاقات السودانية الأميركية حسنة في ظاهرها حين قامت شركة شيفرون الأميركية بالتنقيب عن البترول، ولكن قبل أن تبدأ الشركة مرحلة استخراجه توقفت وجمدت عملها بضغط من البيت الأبيض وجماعات الضغط الأميركية بسبب تطبيق الرئيس نميري قوانين الشريعة الإسلامية في سبتمبر/أيلول عام 1983، وقد تم رهن استئناف العمل في استخراج البترول بإلغاء تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية.

ولم يتم استخراج البترول إلا في عهد نظام الرئيس الحالي عمر البشير، الذي قال إن الخرطوم قامت من خلال طرف آخر بشراء حق التنقيب والاستخراج من شيفرون وانطلت الحيلة على شركة شيفرون وواشنطن.

وفي أواخر عهد الرئيس نميري زار السودان جورج بوش الأب نائب الرئيس الأميركي في عهد الرئيس رونالد ريغان، وكان من نتائج الزيارة تنفيذ عملية ترحيل اليهود الفلاشا من أثيوبيا عبر السودان إلى إسرائيل بإشراف المخابرات الأميركية في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1984. كما قام النميري في ذات الوقت بالإطاحة بحلفائه الإسلاميين بزعامة حسن الترابي وزج بهم في السجون وأصدر أحكاما بالإعدام على عدد من قياداتهم، ولم تنفذ بسبب تسلم وزير الدفاع الفريق عبد الرحمن سوار الذهب السلطة في أبريل/نيسان 1985 بالتنسيق مع قادة ما عرف بانتفاضة أبريل/نيسان من أحزاب ونقابات، ثم قام بتسليم السلطة للحكومة المنتخبة في العام التالي.

في عهد التعددية الحزبية التي أعقبت حكومة سوار الذهب تعاملت الإدارة الأميركية مع الحكومة المنتخبة برئاسة الصادق المهدي بعدم اهتمام واعتبرتها حكومة مترددة؛ إذ كانت واشنطن تعول عليها كثيرا في الغاء قوانين الشريعة وهذا ما لم تتمكن من الإقدام عليه.

خدمات وأثمان بخسة
في ظل نظام الرئيس عمر البشير الحالي بلغ التناقض والتأرجح في علاقات البلدين درجة بعيدة؛ فبعد ضرب مصنع الأدوية في العام 1998، بادرت واشنطن في العام 2001 إلى احتواء السودان في موقف اعتبر تحولا عن سياسة المواجهة، حيث نقل القائم بأعمال السفارة الأميركية في السودان رسالة إلى الرئيس البشير يهنئه فيها بفوزه في الانتخابات الرئاسية.

ورغم أن واشنطن ظلت حريصة على إبقاء مستوى تمثيلها الدبلوماسي في الخرطوم على مستوى القائم بالأعمال في عهد الرئيس البشير، فإنها قامت في ديسمبر/كانون الأول 2009 بافتتاح أكبر سفارة لها في أفريقيا بمساحة 40 كيلومترا مربعا. ونقل عن الإدارة الأميركية خططها لأن تكون السفارة مركزا للعمل الدبلوماسي الأميركي في أفريقيا، وأنها تعتبر الثانية في الشرق الأوسط بعد العراق من حيث التجهيزات. ولا يتناسب حجم السفارة مع حجم العلاقات السياسية أو التجارية بين السودان والولايات المتحدة.

في يناير/كانون الثاني 2011 قدمت واشنطن عرضا للخرطوم برفع العقوبات عليها إذا ما وافقت على نتائج الاستفتاء الذي أدى إلى فصل جنوب البلاد، وذكر حينها المبعوث الأميركي للسودان برنستون ليمان، أن السودان قد يزال من لائحة الدول التي تعتبرها واشنطن راعية للإرهاب اعتبارا من يوليو/تموز من نفس العام، في حال احترام الخرطوم لنتائج استفتاء الجنوب ووافقت الخرطوم على نتائج ذلك الاستفتاء الكارثي، بيد أن واشنطن نكصت عن وعدها، ويعد فصل جنوب السودان أبرز الخدمات التي قدمتها الخرطوم لواشنطن دون مقابل.

في فبراير/شباط من العام الماضي 2015 وجهت وزارة الخارجية الأميركية دعوة لإبراهيم غندور مساعد الرئيس البشير ونائبه في حزب المؤتمر الوطني الحاكم للقيام بزيارة رسمية لواشنطن وأعدت له برنامج لقاءات مع كبار المسؤولين بالإدارة الأميركية تتصل بالعلاقات بين الخرطوم وواشنطن. وفي أول تعديل حكومي عقب الزيارة عُين غندور وزيرا للخارجية. وعلقت شبكة "بلومبرغ" الأميركية على تعيينه قائلة إنه "رجل أكاديمي، وليست لديه خلفية عسكرية أو أمنية أو دينية، مما يعني أنه قد يكون شخصية برغماتية في التعاطي مستقبلا مع الولايات المتحدة".

عقب ذلك وبعد شهور قليلة أعلنت السفارة الأميركية في الخرطوم في خطوة اعتبرت مفاجئة عن استئناف إصدارها تأشيرة الدخول للولايات المتحدة من السودان للمرة الأولى، منذ نحو 20 عاما؛ إذ كان الحصول على التأشيرة يتطلب من السودانيين التوجه إلى السفارة الأميركية في القاهرة لتكملة إجراءاتهم.

وكانت آخر أزمة بين البلدين خلال الشهرين الماضيين، عندما كررت واشنطن رفضها منح تأشيرة دخول للرئيس البشير للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، فضلا عن رفضها منح مسؤولين آخرين التأشيرة مثل وزير الداخلية الذي كان ينوي المشاركة في مؤتمر عن المخدرات بنيويورك.

وترى الخرطوم أن واشنطن تقوم بخرق لوائح دولة المقر التي مهمتها تسهيل وتيسير عمل المنظمة الأممية. وبدت الخرطوم غاضبة جدا لأنها ظنت أن تغييرا إيجابيا لدى واشنطن قد حدث تجاه السودان.

حصاد السراب
لا شك أن السودان يحتل مكانة محورية في التفكير الإستراتيجي الأميركي بالنظر لموقعه الجغرافي وموارده الاقتصادية المتعددة، بما في ذلك مخزونه من الثروات النفطية والمعدنية لا سيما اليورانيوم، فضلا عن امتلاكه مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية ومصادر متنوعة من الموارد المائية. ومن المؤكد أن السودان يقع في قلب أتون الصراع الإستراتيجي الدولي، وهو صراع يدور حول الطاقة والمياه والأراضي الزراعية والموقع الإستراتيجي.

ومن المعلوم أن سياسة الولايات المتحدة الخارجية مبنية على المصالح، ولكن ليس من المؤكد ما إذا كانت الخرطوم تستوعب هذه النقطة جيدا أم أن ما يبدو من إشكالات في علاقة البلدين ناتج عن تضارب المصالح؟

فواشنطن من جانبها لا تزال تطلب المزيد من الخرطوم ولم تكتف بما قدمته لها حتى الآن من تنازلات. ويشير التساؤل اليائس والمرير لوزير الخارجية إبراهيم غندور الشهر الماضي حين قال: "السؤال الأهم ماذا تريد أميركا من السودان، لأنها لم تقل في يوم من الأيام ماذا تريد من السودان". إلى أن البلدين لم يصلا بعد إلى نقطة التوازن في ظل طغيان التفوق الأميركي. وفي ذات الوقت أقر رئيس البرلمان السوداني الذي زار الولايات المتحدة فبراير/شباط الماضي بعدم حدوث أي اختراق في أي من الملفات العالقة بين الخرطوم وواشنطن، وقال: "لم نقنعهم ولم يقنعونا".

ولذا تعتقد الخرطوم أن علاقتها بواشنطن ظلت عصية الفهم. وتؤكد الخرطوم أنها تتعاون مع واشنطن منذ عام 2000 في مجال مكافحة الإرهاب مما دفع واشنطن للإشادة بها في تقاريرها السنوية المتعلقة بمكافحة الإرهاب إلا أنها مع ذلك لا تزال منذ عام 1997 تبقي اسم السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب.

ورفضت الإدارة الأميركية طلبات سودانية متكررة لرفع اسم البلاد من هذه القائمة السوداء بسبب مبررات تقول الخرطوم إنها "ذرائع سياسية لا علاقة لها بالإرهاب"، ومع أن توازن المصالح الحقيقي يتحقق مع توازن القوة، سيبقى ما تتطلع إليه الخرطوم في علاقاتها مع واشنطن سرابا تحسبه ماء.

لقد عمدت الإدارات الأميركية المتعاقبة خلال عقود طويلة مضت إلى خلق أزمات في عدة مناطق من العالم تنفيذا لإستراتيجية الهيمنة الأميركية. يقول جيرارد جالوشي الدبلوماسي الأميركي الذي شغل منصب القائم بالأعمال في سفارة بلاده بالخرطوم في الفترة بين 2003 و2004، إن دوائر داخل حكومة بلاده في تلك الفترة كان هدفها تغيير النظام بدلا من الحل السلمي للنزاع، في إشارة منه للفترة التي تلت توقيع اتفاقية السلام الشامل في عام 2005 عندما نشطت واشنطن في تقديم الدعم لمتمردي الحركة الشعبية بجنوب السودان قبل أن تنتقل إلى دعم متمردي دارفور بعد اندلاع التمرد هناك في 2003.

وتتحمل واشنطن مسؤولية كثير من المصاعب السياسية والاقتصادية التي تدفع بالبلاد نحو الهاوية من خلال عقود طويلة من الحصار والعقوبات الأحادية، وحتى الاستهداف العسكري المباشر. يساعدها في ذلك نظام لا يستجيب لأي قدر من الإصلاحات السياسية التي يمكن أن توحد الجبهة الداخلية في مواجهة الإستراتيجية الأميركية.

إن أبعد ما يمكن أن تصل إليه السياسة الخارجية السودانية في ظل أوضاع البلاد الراهنة والمأزومة سياسيا واقتصاديا هو التعاون في ملفات مشتركة تحقق مصالح آنية ومحدودة، بينما تمضي واشنطن بخطى واثقة في تحقيق إستراتيجيتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.