المغرب والانتخابات القادمة.. استحقاق بطعم التقاطب

A Moroccan man casts his ballot in a polling station for municipal elections in Casablanca, Morocco, Friday Sept. 4, 2015. Moroccans are voting in regional and communal elections, the first since the central government gave its regions greater autonomy. (AP Photo/Abdeljalil Bounhar)

في المغرب أحزاب سياسية ذات تجذر تاريخي مشهود به، إما باعتبارها كانت حاملة للواء المطالبة بالاستقلال منذ أربعينات القرن الماضي، وإما لكونها كانت مكونا وازنا في المشهد السياسي المغربي طيلة عقود ما بعد الاستقلال.

 

 

وبموازاة هذه الأحزاب، انتشرت أحزاب أخرى كالفطر، في سياق معين ودونما احتكام إلى سياق حتى، نكاد لا نلحظ من تواجد لها من بين ظهرانينا إلا في المناسبات، أو لدى المناداة عليه لتأثيث هذا التجمع الخطابي الرسمي أو ذاك.

-1-

درجت الأدبيات السياسية على تسمية الفصيل الأول بالأحزاب الوطنية، بحكم إسهامها في مد "الحركة الوطنية" التي التفت حول "ثورة الملك والشعب من أجل نيل الاستقلال"، وسميت كذلك أيضا -ولو جزئيا- لكونها لم تكن تتلقى الأوامر والتوجيهات من لدن الدولة (الدولة العميقة، من منطوق الربيع العربي)، بل كانت صاحبة قرارها وسيدته في الحل والترحال.

أما الصنف الثاني، فقد درجت ذات الأدبيات على نعته بـ"الأحزاب الإدارية"، ليس فقط لأنها صنيعة الإدارة (رمز الدولة)، ولادة ورعاية وتبنيا، ولكن أيضا لأنها تأتمر بأوامرها وتسير بتوجيهاتها وتتقاضى "الأجر" على ذلك، عبارة عن ضمانة بالتواجد على الساحة السياسية في الظروف العادية كما في المحطات الكبرى، وضمنها بالتأكيد محطة الانتخابات البلدية والتشريعية، و"اختيار" ممثلي النقابات والغرف المهنية بالمستويات التمثيلية الدنيا.

وإذا كانت عقود المد والجزر التي لازمت ولأكثر من خمسين سنة مضت حركية المشهد الحزبي في المغرب، قد أفرزت "كائنات سياسية" هجينة، فإن ذات العقود قد كانت كافية أيضا لتطويع جزء من أحزاب الحركة الوطنية وإدماجها في مستويات السلطة والحكم، حتى تحول جزء منها (لا سيما بعد فشل تجربة التناوب السياسي) إلى أحزاب عادية أكلت الانشقاقات من شرعيتها تدريجيا، وعصفت بها رياح في الواقعية شارفت على الانتهازية والقبول بما جادت به اللعبة، لعبة الدولة العميقة بمحصلة المطاف.

ولعل ما سرع من تآكل بنيانها هو وصول حزب جديد (حزب الأصالة والمعاصرة) أنشئ من عدم (من عل يقول البعض) وتسابقت للانضمام إليه نخب من كل حدب وصوب، وضمنها جزء كبير من نخب "الأحزاب الديموقراطية"، وبات هذا الحزب هو صاحب القول الفصل في المشهد العام؛ يؤخر هذا ويقدم ذاك، يبتلع هذا الحزب وعينه مصوبة على ذاك، ولا يتوانى في الجهر بنيته بلوغ السلطة وتدبير الشأن العام، وإن بصورة قسرية عبر التلاعب بنتائج الانتخابات.

صحيح أن "موجة الربيع العربي" بصيغته المغربية، قد أفسدت على الحزب بعضا من الطموحات والترتيبات (أجلتها فقط بمنطوق المتتبعين)، لا سيما وأن جزءا من شعارات ذات الموجة قد كانت موجهة لأتباعه، إلا أنه سرعان ما استجمع قواه من جديد، بعدما تبين بالواضح الجلي أن ذات الموجة لم تكن إلا عاصفة خريف عابرة، سرعان ما انفرط عقدها، حتى وإن أوصلت للسلطة حزبا إسلاميا (حزب العدالة والتنمية) شاءت الأقدار والظروف أن يكون هو لا غيره من يدير المرحلة، مرحلة ما بعد 20 فبراير/شباط 2011.

-2-

كل ما سبق إنما سقناه في أسباب وسياق النزول، أو لنقل تدقيقا لوضع الإطار العام الذي دارت في ظله انتخابات ما بعد دستور 2011 (التشريعية والجهوية على حد سواء)، والذي ستدور في ظله أيضا انتخابات أكتوبر/تشرين أول القادم.

ولعل إحدى مميزات المشهد السياسي بالمغرب خلال السنوات الخمس الماضية -والتي ستحكم حتما حركية الانتخابات التشريعية المقبلة- هي بروز قطبية من نوع خاص، تجاوزت على القراءات الملازمة لما كان سائدا عندما كانت لأحزاب الحركة الوطنية بعض من القول:

– فنحن من جهة، إزاء "قطب" متمحور حول حزب العدالة والتنمية، ثوت ولا تزال تثوي خلفه زمرة من الأحزاب السياسية تضمن له بالكاد الأغلبية بالبرلمان، وهي التي يراهن عليها لرئاسة الحكومة من جديد لو تسنى لهم مجتمعين أن يحصلوا على تزكية الناخبين، بل ويرتب معهم ذات الحزب ومنذ مدة برنامج العمل الحكومي للمرحلة القادمة.

– ونحن، من جهة أخرى، إزاء "قطب" ثان، عصبه الأساس حزب الأصالة والمعاصرة، تسند بنيانه مجموعة أحزاب صغيرة أيضا، لكنها قادرة بالآن ذاته على تجميع أغلبية برلمانية، قد يعطى بموجبها رئاسة الحكومة، ومن ثمة دفع مكونات القطب الأول تلقائيا في صف المعارضة بهذا الشكل أو ذاك.

بالتالي، فالمشهد قد لا يبدو معقدا في مظهره، بل لطالما تم نشدانه للخروج من وضعية البلقنة الحزبية التي أفرزها تفريخ الأحزاب لأكثر من خمسين سنة مضت؛ بيد أن التدقيق في سياق نشأة "القطبين" وصيرورتهما لا يمكن إلا أن يستوقف المتابع بأكثر من منحى:

– فـ"القطبان" معا يعانيان من عقدة عدم "التجذر التاريخي"؛ فحزب العدالة والتنمية حزب حديث النشأة نسبيا، وإن كان له أن يبحث عن نسب ما، ففي حزب الراحل عبد الكريم الخطيب، سليل الأحزاب الإدارية التي ترهلت، فامتطى "إخوان بنكيران" ناصيته لطمأنة الدولة والتمهيد للتطبيع معها بهذه الصيغة وتلك.

أما حزب الأصالة والمعاصرة، فلم ير النور إلا أواسط العشرية الأولى من هذا القرن، ولم تتحدث وثائقه التأسيسية والتنظيمية لا عن "تاريخ نضالي" ولا عن إطار إيديولوجي واضح ولا عن تصور في تصحيح مسار المشهد السياسي المبلقن.

الحزبان معا لقيطان إذن -يقول البعض- بمعيار التراكم التاريخي الذي من شأنه منح هذا الحزب أو ذاك، شرعية من طينة خاصة.

– و"القطبان" لا يتموقعان بزاوية يكون من السهل معها تصنيفهما، إن لم يكن من ناحية المرجعية، فعلى الأقل من وجهة نظر التقسيم السياسي بين يمين ويسار ووسط؛ فأدبيات حزب العدالة والتنمية -ذي المرجعية الإسلامية تجاوزا- لا تحيل على هذا التقسيم -ولا تستسيغه حتى- ولا تتخذ منه مطية لتحديد هوية الحزب إياه، بل يعتبر نفسه فاعلا وصاحب خصوصية تتجاوز على التقسيمات المعيارية وعلى التصنيفات الأكاديمية التقليدية.

بالآن ذاته، فحزب الأصالة والمعاصرة لا يركب هو الآخر ناصية هذه الاعتبارات "النمطية"، بل نكاد نراه يمزجها في "قالب ما" عندما يجمع من حوله أطيافا من اليسار وأحزابا من اليمين وشخصيات كانت "مستقلة" ومنحت بطاقة الحزب والتزكية بالانتخابات، وهكذا.

بهذه الزاوية أيضا، يبدو أن "القطبين" معا غير قابلين للتصنيف، اللهم إلا من منظور يتجاوز أبجديات علم الاجتماع السياسي.

– ثم إن "القطبين" معا لا يتطلعان للفعل خارج المنظومة المادية والرمزية القائمة والضابطة لإيقاع اللعبة، بل يتبنيان معا طرح أن "الخيارات الكبرى محسومة والاجتهاد في التنفيذ هو القائم"؛ وهو أمر لا يشي فقط بمركزية دور الملك على المستوى التنفيذي العام، بل يشي أيضا بغياب المشروع المجتمعي من بين ظهراني هذا وذاك من الحزبين/القطبين.

-3-

لو سلمنا جدلا بالمعطيات السابقة، فسنسلم بالقطع بأن الانتخابات التشريعية القادمة لن تتمحور بالقطع لا حول المزايدة بالارتكاز على "الشرعية التاريخية"، ولا حول التدافع بالبناء على المرجعيات الإيديولوجية، ولا حول التمنع المحكوم بالممانعة بين المشاريع المجتمعية، بل ستتمحور تحديدا وعمليا حول سبل وآليات تحصيل أكبر عدد من المقاعد، تفسح لهذا الحزب أو ذاك في المجال لتأمين أغلبية تضمن له سبل رئاسة الحكومة، أو ضمان المشاركة المعتبرة من بين ظهرانيها.

ولذلك، فإن الذي سيتم في أكتوبر/تشرين أول القادم لن تغذيه الحاجة إلى تحالفات سياسية يبنيها كل قطب على حدة حول نفسه، بل سيتغذى من استقطابات حزبية بحسابات انتخابية صرفة، وليس على أرضية تناسقية المرجعية والتصور والمشروع المشترك.

كل الأحزاب الأربعين المتواجدة ستلتحق كل فيما يخصها، بالجهة (أعني بأحد القطبين) التي تضمن لها بعضا من التواجد، إن لم يكن بالحكومة، فعلى الأقل تمثيلا على مستوى البرلمان.

ومعنى هذا أن كل حزب من هذه الأحزاب (خارج القطبين) إنما هو بصدد البحث عن موطئ قدم بجانب هذا القطب أو ذاك (أو بصلبه) وليس بالاتكاء على المرجعية المشتركة أو على البرنامج الموحد؛ وهو ما يبدو جليا مثلا في حالة حزب التقدم والاشتراكية ذي المرجعية الشيوعية (كان يسمى الحزب الشيوعي المغربي لدى التأسيس في أربعينات القرن الماضي) المشارك في الحكومة "الإسلامية" الحالية، والرافع لمطلب استمرارية الحكومة إياها "لاستكمال الأوراش المفتوحة".

وهو الأمر ذاته في حالة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ذي الحمولة التاريخية المتجذرة، والذي يغازل حزب الأصالة والمعاصرة، صنيع الإدارة، بغرض الاصطفاف إلى جانبه عله يتحصل على بعض من فتات مقاعد قد لا يستطيع إدراكها لوحده، فيكون خارج اللعبة جملة وتفصيلا.

إن قصدنا مما سبق (وقد نعدد الأمثلة الهجينة لتوضيح ذلك) هو القول إننا، مع اقتراب انتخابات أكتوبر إنما بتنا إزاء "تقاربات" حزبية هي إلى الاصطفافات الانتخابية الخالصة أكثر منها إلى التحالفات السياسية الطبيعية المعهودة. إننا إزاء تسابق محموم للظفر بتزكية هذا القطب أو ذاك، ولسنا إزاء تنسيق حزبي مرتكز على الحد الأدنى من المرجعية المشتركة والتصور المتقارب، أو المحكوم برؤية موحدة جامعة لما ستكون عليه البرامج.

ولذلك، فإذا لم يكن بإمكاننا القول والحالة هذه، بـ"بوار السياسة" في المغرب وهو على أعتاب انتخابات محورية، فإنه ليس من المبالغة في شيء القول مع ذلك إننا بتنا إزاء ما يمكن تسميته بانتفاء الحس السياسي الذي من المفروض أن ينير البصيرة ويخفف من ضبابية البصر عند الدولة أولا، ثم عند أحزاب لم نعد نفهم سلوكها، فما بالك أن ندرك لفائدة من تشتغل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.