عن أفق الصراع في الصحراء بعد رحيل عبد العزيز

Officials and attendees pray over the coffin of Western Sahara's Polisario Front leader Mohamed Abdelaziz during his funeral in Tindouf, Algeria June 3, 2016. REUTERS/Ramzi Boudina

بمجرد الإعلان الرسمي عن وفاة محمد عبد العزيز بأحد المستشفيات الأميركية في 30 مايو/أيار الماضي، تعددت التكهنات والقراءات، واختلفت بقوة في، وعن مآلات جبهة البوليساريو.

كما تعددت التكهنات أيضا بشأن "الوجهة" التي ربما يركب الصراع ناصيتها، في منطقة من العالم لا يكاد المرء يستشف حلا ما لأزماتها حتى تذوب آفاقه وتتبخر، بل وتدك تحت هضاب الرمال المتموجة، ويشرع في البحث عن بدائل لها، وهكذا دواليك منذ ما يناهز نصف قرن من الزمن، هو عمر انفجار الصراع بين المغرب وجبهة البوليساريو.

(1)

محمد عبد العزيز (المراكشي يضيف المغاربة)، زعيم الجبهة (و"رئيس الجمهورية الصحراوية" في عرف بعض دوائر القرار) ليس "ظاهرة" عرضية ينقضي مفعولها ويتراجع بمجرد أفول نجمها أو انسحابها من المشهد الجاري.. إنه شخصية مركزية في عمر الصراع، واكبت منعرجاته الدائرة منذ أواسط سبعينات القرن الماضي، وتماهت لدرجة الاندغام مع ما تسميه أدبيات الأمم المتحدة بـ"مشكل الصحراء الغربية".

ثم إن اسمه لازم الصراع منذ بداياته الأولى، فلا نكاد نجد عبارة جبهة البوليساريو إلا وهي مصحوبة باسم الرجل وصفته، زمن الاحتقان كما زمن المفاوضات مع المغرب على حد سواء.

ولذلك، لا يستطيع المرء المكابرة في الاعتراف بأن بصمة الرجل كانت، ولربما ستبقى طاغية، إن لم يكن على مستوى "نجاحه" في إبقاء الملف مفتوحا ومراودا لنقطة البدء، فعلى الأقل في فرض استمراريته وراهنيته بأروقة المنظمات الدولية، ذات البعد القانوني والحقوقي، كما المهتمة بالجوانب الإنسانية لجزء من ساكنة الصحراء تعيش على المعونات وعلى ما تجود به عطايا ومنح المنظمات الأهلية والجمعيات الحكومية وغير الحكومية على حد سواء.

‪كان الراحل محمد عبد العزيز فاعلا مباشرا وشاهد عيان على كل تموجات ومنعرجات الملف الصحراوي‬ كان الراحل محمد عبد العزيز فاعلا مباشرا وشاهد عيان على كل تموجات ومنعرجات الملف الصحراوي (رويترز)
‪كان الراحل محمد عبد العزيز فاعلا مباشرا وشاهد عيان على كل تموجات ومنعرجات الملف الصحراوي‬ كان الراحل محمد عبد العزيز فاعلا مباشرا وشاهد عيان على كل تموجات ومنعرجات الملف الصحراوي (رويترز)

بيد أن كل هذا لا ينفي في المقابل، حقيقة أن الرجل كان -بأعين العديدين- خلف إدامة آماد الصراع؛ فلا هو قبل -يقول هؤلاء- بالحلول الوسط المقترحة عليه (وضمنها مقترح المغرب عن الحكم الذاتي الموسع)، ولا هو رضي بـ"رفع الحصار" على ساكنة هناك بتخوم الصحراء الأفريقية الكبرى، عرضة للهشاشة في أبشع صورها ولظروف العيش في أقسى مراتبها. بل إن العديد من غرماء الرجل كانوا يتهمونه بالمتاجرة في حياة الناس، واتخاذهم دروعا بشرية في قضية باتت المثال الصارخ، من لدن هذا الطرف كما من لدن ذاك، لغياب المرونة الضرورية التي لا بد منها لوضع حد لنزاع طال أكثر من اللازم، ولا يبدو أن ثمة أفقا لحله بهذا الشكل أو ذاك.

وعلى الرغم من أن الرجل كان فاعلا مباشرا وشاهد عيان على كل تموجات ومنعرجات "ملف الصحراء" سلما وفي زمن الاحتقان والاحتراب، فإنه قد يكون من باب المبالغة حقا اختزال الملف في شخصه وذاته، أو اعتبار أن انحسار مد الحل طيلة العقود الماضية، كان بسببه أو نتاج تدبير مستقل من لدنه، هو ومن سايره النهج من أعضاء الجبهة المقربين.

والمقصود هنا القول إن الملف لم يعد من مدة بعيدة (في حياة الرجل ولربما بعد مماته أيضا) ملف طرفين متنازعين، تتكفل الأمانة العامة للأمم المتحدة بترتيب لقاءاتهما كما الحال في النزاعات الدولية المألوفة، بل بات مكمن حسابات إقليمية ودولية تتقارب وتتباعد أولوياتها حسب المصالح الآنية والمستقبلية في المنطقة، وحسب أجندات الدول أيضا يقول خبراء العلاقات الدولية.

والمقصود كذلك هو تأكيد القول بأن سبل الحل لم يكن لها أن تتأتى من تفاوض مباشر بين طرفين متنازعين، بل قل لا يمكن أن تتأتى إلا حينما تجد كل الأطراف ضالتها، المغرب بالتأكيد، ثم جبهة البوليساريو ومن يحتضنها بالمباشر الحي أو من وراء ستار، وكذا الأميركيون والأوروبيون وغيرهم ربما.

(2)

وإذا كان الرجل قد حمل معه "قضيته" إلى قبره، في ملابساتها وأدق تفاصيلها، فإن أوراقها بقيت وستبقى معلقة بين يدي من سيخلفه، تسائل عن مدى قدرتهم على استنباط الدروس من حوالي نصف قرن من وضعية اللاسلم واللاحرب، ومن تعذر سبل الحل المرضي للطرفين، بل وانتفاء أرضية التفاوض بين جهة تعتبر أن أقصى ما تستطيع تقديمه هو "الحكم الذاتي الموسع"، وبين أخرى لا ترى من سبل للحل خارج منظومة "الحق في تقرير المصير"، على غرار ما جرت عليه العادة في العديد من دول العالم، يقول أصحاب هذا التصور.

ولذلك، فإن المشاهد المستقبلية للحل لا يمكن أن تخرج في نظرنا، عن واحد من الحلول الممكنة التالية:

– قبول القيادة الجديدة لجبهة البوليساريو بحل "الحكم الذاتي الموسع" المقترح من لدن المغرب، باعتباره شكلا من أشكال الاستقلال الذاتي، مادام أن المغرب لا يشترط في ذلك إلا رفع العلم والقبول بتداول نقوده بـ"الجهة" المزمع إقامتها، والتي شرع المغرب من مدة في رسم شكلها الجغرافي وبنيانها المؤسساتي.

اللجوء إلى إعمال مبدأ الاستفتاء في إطار منظومة الحق في تقرير المصير، مع الالتزام باحترام نتائجه من لدن هذا الطرف كما من لدن ذاك، برعاية دولية وبضمانات واضحة للمغرب في حال الانفصال.

– الإبقاء على الوضع القائم إلى حين نضوج حل قد يكون من شأنه إيجاد صيغة للتسوية مؤقتة أو مرحلية أو انتقالية تفسح المجال أمام حل دائم وإن على المدى المنظور. وهو ما بدأت تدفع به بعض الجهات من خلال الاستئناس بحل دول الكومنويلث أو الكونفدرالية أو ما سوى ذلك.

لا يستطيع المرء التنبؤ حقا بالحل المأمول، أي بالحل المبني على التراضي والصيغ الوسطية الواقعية. وتعذر التنبؤ هنا لا يأتي فقط من اختلاط الأوراق وتعدد الحسابات الجهوية والدولية، بل أيضا من مراهنة كلا الطرفين (المغرب وجبهة البوليساريو) على الزمن وعلى تحولات موازين القوى في المنطقة ولربما في العالم أيضا. توظيف عامل الزمن هنا جوهري وأساسي ليس فقط بانتظار نضج الظروف، بل لربما أيضا بإعمال مبدأ الاستنزاف، الذي من شأن ركوب ناصيته التسليم بالممكن والمتاح.

بيد أن تحليلا عابرا لسياقات الحلول المطروحة يشي بأن لا أفق من الناحية العملية واردا في المدى المنظور:

– فالمغرب يعتبر الصحراء جزءا لا يتجزأ من ترابه، ومبدأ السيادة على "الإقليم" أسمى لديه من أي اعتبار آخر، اقتصادي أو أمني أو جيو/إستراتيجي أو ما سواه. ولما كان الأمر كذلك، فهو لا يبدي استعدادا ما لمناقشة حل آخر خارج "الحكم الذاتي الموسع"، الذي يمنح لذات الإقليم وضعا سياسيا واقتصاديا متقدما، لكن دون أن يحيل ذلك على أي تصور في الانفصال عن "الوطن/الأم" عاجلا أو آجلا.

وهو طرح تجاريه فيه العديد من دول العالم، لكنها (هذه الأخيرة أقصد) سرعان ما تتحفظ على مضمونه وشكله، تحت ذريعة ألا قيمة له على الأرض طالما لا يلقى رضا الطرف الآخر، أي جبهة البوليساريو على وجه التحديد.

– وجبهة البوليساريو (زمن عبد العزيز وربما بعد رحيله) لا تمانع في مناقشة هذا الطرح، طرح "الحكم الذاتي الموسع"، لكنها تشترط أن يكون ذات الطرح خيارا ضمن باقي الخيارات ليس إلا، على اعتبار أن الأمم المتحدة ذاتها (وهي الراعية للملف منذ أمد بعيد) قد اعتمدت سبيل الحوار المباشر بين الطرفين، لكن دون أن يخضع ذات الحوار لشروط مسبقة من لدن هذه الجهة أو من لدن تلك.

ومع أن الجبهة تبدي انفتاحا شكليا بهذه الزاوية ولا تتذرع بممانعة ما في ذلك، فإنها سرعان ما تخرج ورقة الاستفتاء كمدخل من مداخل الحق في تقرير المصير. إنه رهانها الأول والأخير حتى وإن قبلت بالتداول في رهانات أخرى. وبقدر تماهي العديد من الدول مع طرح المغرب، فإن ثمة العديد من الدول أيضا تتبنى طرح جبهة البوليساريو، لا سيما بالأمم المتحدة، حيث هيمنة وسيادة أطروحة "تصفية بقايا الاستعمار" و "حق الشعوب في تقرير مصيرها" وما سوى ذلك.

(3)

لحين كتابة هذه السطور، يبدو أن كل المسارات متوقفة، اللهم إلا الآلة الدبلوماسية التي تعمل هذه الجهة كما تلك على تحريكها لتحصيل هذا الاعتراف الشكلي أو ذاك، أو للتذكير بأن ثمة "مشكلا إقليميا" عالقا، يحتاج إلى المعالجة عل غرار باقي الملفات الدولية الشائكة والمتداولة هناك في نيويورك.

والسر في توقف المسارات أعلاه متأت من تصلب كلا الطرحين، بل ويزعم البعض أن هذا التوقف مرده العناد الذي لازم "القضية" منذ بداياتها الأولى، أو مخافة هذا الطرف كما ذاك من "إضاعة ماء الوجه" الذي قد يرتد عليه إن تسنى له أن يسلم أو يتنازل، أو لأن الملف برمته لم يعد ملكا لطرفي النزاع، بل بات "ملف الكبار"، لهم أن يثيروه فيما بينهم ويجدوا له المخرج المناسب.

هل ثمة أمل ما في أن تتم حلحلة الملف بعد رحيل محمد عبد العزيز؟

سيكون من السابق لأوانه حقا تقديم بعض عناصر الجواب المعتبرة؛ فجبهة البوليساريو لم تعين أمينا عاما جديدا لها، يمكن بالبناء على مواصفاته استشراف طبيعة "الموقف الجديد".. لكن صدور بعض التصريحات هنا وهناك يشي بأن المسار لن يعرف تغيرا ذا بال، ليس فقط لأن المسألة لم تعد مرتبطة بهذا الشخص أو ذاك، ولكن أيضا لأن الحسابات الإقليمية والدولية لا تساعد كثيرا في تقارب طرحي الطرفين. إن المسألة أعقد مما نتصور، إنها تستوجب شجاعة نادرة ليس لحل معادلتها، بل على الأقل لتحريك مياهها الراكدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.