التوزيع الإستراتيجي لثورات الغضب العربية

جانب من المتظاهرين خلال ذكرى الثورة التونسية/العاصمة تونس/يناير/كانون الثاني 2016 مصدر الصور:خميس بن بريك-تونس

المتغيرات المراقَبة والحرة
التوزيع الإستراتيجي الجديد
داعش أو فوضى الضرورة

إن كل التحركات السياسية والعسكرية ومجموع التحالفات المتجددة اليوم في المنطقة إنما تعود رأسا إلى نقطة البدء ممثلة في الانفجار التونسي الكبير يوم 17ديسمبر/كانون الأول 2010.

"عاصفة الحزم" أو "عملية رعد الشمال" أو حتى ما يطلق عليه "الحرب العالمية على الإرهاب" يضاف إليها الانسحاب الروسي من سوريا وكذلك "اعتداءات بلجيكا" ومجمل التحركات العربية الأخيرة؛ إنما تجد جذورها الحقيقية في ثورات الغضب أو بالتحديد في العوامل والفواعل والشروط والواقع الجديد الذي خلقته هذه الثورات.

لا نقتصر هنا على تصوير الربيع إطارا زمنيا للحوادث المتعاقبة اليوم في كامل المنطقة بل نبحث أساسا في تحديد الفواعل الوظيفية التي خلقها الحدث الكبير وفي تداعياته التي لا تزال تتفاعل كل يوم.

المتغيرات المراقَبة والحرة
علميا يتحكم في طبيعة نشأة الأشياء وتمددها واندثارها نوعان من المتغيرات: أولها المتغيرات المراقَبة وهي مجموع العناصر التي يمكن مراقبتها والسيطرة عليها أو التحكم بها وحتى توجيهُها. أما النوع الثاني من المتغيرات فهي المتغيرات الحرة التي لا تقبل المراقبة أو التحكم وهي عناصر تقع خارج نطاق السيطرة.

كان زلزال الثورات كاشفا عن حجم الفراغات المرعبة التي تركها العرب حضاريا مما سمح بتمدد الإمبراطوريات المجاورة لمجالهم الإقليمي سواء في شكلها التوسعي الغازي مثل إيران أو في شكلها التجريبي العسكري مثل روسيا أو في شكلها الاختراقي الأمني مثل إسرائيل

خذ مثلا تربية الطفل كنموذج للتطور السلوكي، فهناك في تربيته عناصر كثيرة تمكن مراقبتها في المحيط والمدرسة ونوعية التعليم والعائلة والتغذية.. فهي عناصر تقبل المراقبة والتوجيه؛ لكن من جهة أخرى تقع عناصر أخرى كثيرة جدا خارج نطاق السيطرة والتحكم والمراقبة ولا يمكن بأي حال من الأحوال التحكم بها أو مراقبتها.

هذا المنوال التحليلي العلمي ينطبق حتما على التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الكبرى والصغرى التي تخص الإنسان والعلوم المرتبطة به.

فإذا كان هامش المراقبة في العلوم الصحيحة أكبر منه في بقية العلوم والمجالات الأخرى فإن العلوم الإنسانية ـبحكم طبيعتها الكيفية الغالبة وغير الكمية- لا تخضع كثيرا لعناصر المراقبة وتصمد أمام محاولة جعلها علوما صحيحة مثل بقية العلوم الأخرى.

ثورات الحرية العربية بما هي تغيرات اجتماعية وسياسية واقعة داخل مجال الحقل الإنساني والاجتماعي إنما تصمد كثيرا أمام المراقبة الكمية والصحيحة خاصة إذا كان الحدث بالتعقيد الكبير الذي يميز التغيرات الاجتماعية الكبرى مثل الثورات، وذلك لأن عوامل كثيفة ومعقدة تدخل جميعها في إنجاز هذا الحدث التاريخي المركب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وأمنيا.

هذه الخاصية الداخلية العميقة التي تميز التغيرات الأخيرة في المنطقة العربية هي التي تفسر حالة الفوضى وانعدام الرؤية الواضحة في التصور والقراءة والتحليل، لكن كل ذلك لا يمنع من تبين العناصر الكلية في التجربة الإنسانية بما هي معطيات ثابتة لا تقبل الدحض مثل نزوع الإنسان العربي إلى الحرية ورفضه للاستبداد، أو مثل وصول النظام القمعي العربي إلى لحظة نهاية الفعل الثقافي أو أيضا معطى الخلل الحضاري الداخلي الذي سهل تكالب الخارج على الأرض العربية.

التوزيع الإستراتيجي الجديد
لكن أهم المعطيات التي يمكن الإقرار بها بعد خمس سنوات من عمر الثورات هو أنها أعادت توزيع الأدوار بشكل كامل وجذري في بعض الأحيان بين مختلف القوى الحاضرة في المجال العربي وحتى خارجه في بعض الحالات.

لقد أدرك النظام الرسمي العربي بشكله السابق قطيعتَه الكبرى سنة 2011، أي أن الشكل القديم للبناء السياسي الرسمي قد عرف صدمة قوية خاصة في شكله الجمهوري أو الجماهيري بعد انهيار خمسة أنظمة كبرى في مصر وسوريا وليبيا وتونس واليمن.

هذا السقوط يعكس فضلا عن خاصية القابلية للسقوط وصولَ هذا الشكل السياسي إلى أقصى مداه بمعنى أنه لم يعد يستجيب لشروط البقاء والفعل والتمدد. إن رفض النظام الاستبدادي الأخْذَ بشروط التجدد التي يفرضها التطور الطبيعي للمجتمعات ـ عبر إعادة قراءة آليات فعله وتقييمها- هو الذي عجل بسقوطه مقارنة بالأشكال السياسية العربية الأخرى مثل أنظمة الحكم الوراثية في دول الخليج العربي أوفي الأردن و المغرب.

لم ينجح أي طرف في وأد الموجة الأولى للربيع وتحويلها إلى مجال خصب للفوضى المتحركة وحزام لجذب القوى التوسعية التي تحيي أطماعها الاستعمارية مثلما نجح في ذلك داعش، فهو الشماعة التي تعلق عليها الثورات المضادة جرائمها الكبيرة، وهو الممر الذي تعبده من أجل بلوغ السلطة من جديد

أما مظاهرات ميدان اللؤلؤة في البحرين فقد كانت واقعة خارج نسق الحركة الإقليمي لأنها اختُرقت إيرانيا منذ البداية، وانكشف الوجه الطائفي للتحركات الاحتجاجية سريعا بأن سعت إيران إلى الإيهام بثورة إسلامية جديدة من أجل الإجهاز على الخليج العربي وإلحاقه نهائيا بمجال الثورة الخمينية في بعدها القومي؛ وهو ما تجلى ظاهرا في الثورة السورية والثورة اليمنية وفي منع الثورة العراقية.

كان زلزال الثورات كاشفا كذلك عن حجم الفراغات المرعبة التي تركها العرب حضاريا مما سمح بتمدد الإمبراطوريات المجاورة لمجالهم الإقليمي سواء في شكلها التوسعي الغازي مثل إيران أو في شكلها التجريبي العسكري مثل روسيا أو في شكلها الاختراقي الأمني مثل إسرائيل، بل وحتى في شكلها الإمبراطوري التجددي مع إعادة تنفيذ الحضور التركي العثماني في المشرق العربي.

لا تتركُ الفراغاتُ القاتلة التي ندفع ثمنها الحضاري اليوم خيارات كثيرة للنظام الرسمي العربي بمكوناته المختلفة وتجلياته المتباينة حيث أصبح التضامن أو التنسيق في حده الأدنى شرطا ضروريا ووجوديا لأنظمة كثيرة وعلى رأسها بعض الأنظمة الخليجية المستهدَفة بإعادة تدوير الفوضى في المشرق.

إن مشهد ما بعد ثورات الحرية قد كشف أخطاء إستراتيجية وتكتيكية كبيرة في حساب قوى إقليمية عظمى، لأن الدول التي راهنت على الانقلابات على إرادة الشعوب عمقت من جراحها وزادت من كشف مجالها الحيوي لصالح قوى إقليمية نجحت في تطويع الربيع لصالحها، حيث أبقت إسرائيل على عمقها الإستراتيجي الوظيفي في مصر وسوريا. أما إيران فبعد أن عدلت من موقفها الإستراتيجي من الثورات عندما طال التغيير مجالها السوري ـبعد أن وصف خامنئي الثورتين التونسية والمصرية بأنهما امتداد للثورة الإسلاميةـ تحولت إلى أكبر المستفيدين من حالة الفوضى التي ساهمت بشكل كبير في خلقها.

دعمُ الانقلابات أو التطبيع معها بحجة المحافظة على وحدة الصف العربي ومنع التسلل الإيراني لا يمثل في الحقيقة إلا رؤية قاصرة عن تصور مجمل الظاهرة العربية ولا يمثل غير حل ترقيعي ظرفي سيُكتشف زيفه بعد وقت قصير.

إن التمكين لاستبداد ما، كما هو الحال في الملف المصري ودعم الانقلاب الدموي عربيا لن يكون غير خطأ جديد لا يختلف عن الخطأ الإستراتيجي الفادح الذي سمح بسقوط البوابة الشمالية للجزيرة العربية في العراق خلال تسعينات القرن الماضي رغم كل الكوارث التي تسبب بها النظام العراقي حينها.

داعش أو فوضى الضرورة
لم ينجح أي طرف في وأد الموجة الأولى للربيع العربي وتحويلها إلى مجال خصب للفوضى المتحركة وحزام لجذب القوى التوسعية التي تحيي أطماعها الاستعمارية مثلما نجح في ذلك تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الإرهابي فهو الشماعة التي تعلق عليها الثورات المضادة جرائمها الكبيرة، وهو الممر الذي تعبده من أجل بلوغ السلطة من جديد.

اليوم تطور هذا التنظيم الغامض من مكون مجهري مجهول النسب داخل المجال المشرقي للوطن العربي إلى تنظيم أخطبوطي يمتد على كامل المجالات العربية والإسلامية الشاسعة وينشط بشكل مشبوه داخل مجال الربيع وفي إطار المساحة التي خلفها سقوط الأنظمة الاستبدادية.

في اليمن وفي العراق وفي سوريا وفي ليبيا وفي تونس وفي لبنان وفي مصر وفي تركيا وفي المملكة السعودية.. بل وفي قلب البيت الأوروبي قد يضرب التنظيم كما فعل في باريس خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني الفارط.

فبعد خمس سنوات من عمر الثورات وحجم المآلات التي بلغتها يمكن القول إن الحكم على البعد الوظيفي للتنظيم بات ممكنا بفضل الأهداف الكبيرة التي حققها لصالح القوى الاستبدادية من ناحية أولى، ولصالح القوى الاستعمارية الجديدة من ناحية ثانية.

راهنت البنى العميقة للأنظمة الرسمية على تفعيل سلم التوحش الجديد بالقدر العبثي الذي يُلغي مطالب الحرية ويؤجلها ويفرض توزيعا جديدا لأولويات الشعوب والأوطان التي هي في حقيقة الأمر أولويات الأمم الاستعمارية ووكلائها في المنطقة ممن عرتهم ثورات الحرية العربية وكشفت زيف مقاومتهم وممانعتهم

ما كسبه النظام الاستبدادي العربي هو أن داعش أنقذه من سقوط محقق بأن ألغى شروط الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية التي طالبت بها الجماهير عبر أرقى أشكال السلمية في تاريخ الشعوب، وفرَض شرط الأمن والسلامة بسبب الفوضى والإرهاب والقتل والتدمير وخاصة بسبب غياب المشروع أو الإيهام بمشروع مزيف كما فعل التنظيم الإرهابي.

أما ما كسبته القوى الاستعمارية الجديدة المتمددة في المشرق العربي فهو أكثر من ذلك بكثير، حيث سمح لها التنظيم ـ الذي شاركت بشكل كبير في صناعته واختراقه وتوجيهه ـ بتجديد أجنداتها الاستعمارية وإعادة توزيع أولوياتها التوسعية حسب ما تمليه الشروط الجديدة المتمثلة في انهيار الأنظمة الإقليمية وضخامة المساحات الفارغة التي تركها الاستبداد في وعي الإنسان العربي من جهة أولى، وفي النظام الحضاري المدني من جهة ثانية.

نجح التنظيم بذلك في استقطاب تيارات اليأس وموجات الإحباط عند الشباب العربي المسلم المضرج بالهزائم، وبفعل الاستبداد وأنيابه القمعية القاطعة موجها "جنودَ الحق" إلى "حروب الشيطان" و"محارق إبليس".

هكذا راهنت البنى العميقة للأنظمة الرسمية على تفعيل سلم التوحش الجديد بالقدر العبثي الذي يُلغي مطالب الحرية ويؤجلها ويفرض توزيعا جديدا لأولويات الشعوب والأوطان التي هي في حقيقة الأمر أولويات الأمم الاستعمارية ووكلائها في المنطقة ممن عرتهم ثورات الحرية العربية وكشفت زيف مقاومتهم وممانعتهم بأن فضحت ارتباطهم الوثيق بالإرهاب وبأدواته المتحركة والثابتة في المنطقة.

إن تبخر أعمدة الدخان التي كانت تحجب القراءة الموضوعية للمشهد العربي قد صاغ وعيا جنينيا جديدا جوهره الإقرار بأن تجديد آليات الممارسة السياسية والحضارية صار حتمية وجودية لا فكاك منها من أجل تحقيق هدفين أساسيين وهما الحرية من ناحية والعدالة الاجتماعية من ناحية أخرى بما هما السبيل الوحيدة لإنقاذ السفينة بمن فيها.

لا يتعلق الأمر اليوم بهذا النظام أو ذاك وهو يبحث عن خلاصه وخلاص عرشه بل الأمر أكثر تعلقا بالبناء العربي ككل، فأخطر الخيارات هو الإيهام بالتحول وبالتغيير والإبقاء على نفس الآليات القديمة للممارسة السياسية والحضارية بقناع جديد لأن هذا الخيار هو أكثر الخيارات خطرا على الوجود العربي ككل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.