الحراك الاجتماعي العربي.. هل يتحول إلى ثورة؟

تعدد الرسائل الحاضة على العصيان المدني في السودان

تحدى الرئيس السوداني عمر حسن أحمد البشير مؤخرا نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي الذين دعوا إلى عصيان مدني يوم 19 ديسمبر/كانون الأول الحالي بقوله "إذا أردتم إسقاط النظام واجهونا مباشرة في الشارع لكني أتحداكم أن تأتوا إلى الشارع لأنكم تعلمون ما حدث في السابق".

وكانت الخرطوم قد شهدت استجابة جزئية في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي لدعوة العصيان المدني الذي دعت له مجموعات شبابية لمدة ثلاثة أيام احتجاجا على حزمة من الإجراءات التقشفية القاسية أعلنتها الحكومة السودانية التي تمر بأزمات اقتصادية خانقة، فقد وصلت ثورة الغضب الشعبي التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي ذروتها إثر ارتفاع أسعار الأدوية في أعقاب توقف بنك السودان المركزي عن توفير النقد الأجنبي لاستيراد الأدوية ضمن خطة حكومية لرفع الدعم عن المحروقات والسلع بما فيها الأدوية التي زاد سعر بعضها إلى ما يقارب 300%.

وكان دعم الحكومة للأدوية يأتي من خلال توفيرها العملات الصعبة للشركات العاملة في استيرادها بما يعادل 7.5 جنيهات للدولار الأميركي الواحد، قبل أن يصدر قرار رفع الدعم عن الأدوية مما يلزم شركات الأدوية إلى شراء الدولار بما يعادل 15.8 جنيها. وكان البنك المركزي يخصص في السابق 10 في المئة من النقد الأجنبي العائد من الصادرات غير البترولية لدعم استيراد الأدوية، لكن هذا الأمر توقف.

بعد ذلك القرار، تزايدت معاناة المرضى في السودان، ودعا اتحاد الصيدليات في ولاية الخرطوم إلى تنفيذ اضراب شامل وإغلاق الصيدليات للضغط على الحكومة حيث تزامن هذا الإضراب مع حملة شعبية غير مسبوقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي دفعت الحكومة إلى التراجع "المؤقت" عن زيادة سعر الدواء بإعلانها أنها سوف تقوم بمراجعة الأسعار الجديدة للأدوية. والجدير بالذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تتراجع فيها الحكومة السودانية تحت ضغط شعبي أو نتيجة لإضرابات من اتحادات مهنية عن قرارات سابقة أو تقوم ببعض الإصلاحات كما حدث مع إضراب أطباء السودان قبل حوالي شهرين حيث رضخت فيه الحكومة للعديد من المطالب التي تقدم بها الاتحاد.

وصلت ثورة الغضب الشعبي بالسودان التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي ذروتها إثر ارتفاع أسعار الأدوية مؤخرا في أعقاب توقف بنك السودان المركزي عن توفير النقد الأجنبي لاستيراد الأدوية ضمن خطة حكومية لرفع الدعم عن المحروقات والسلع بما فيها الأدوية

ومما ساعد على اشتعال جذوة الغضب الشعبي ما كشفته صحف سودانية عن تلاعب شركات بالأموال المخصصة للأدوية وحصولها على الدولار بالسعر الرسمي من بنك السودان المركزي دون قيامها فعليا باستيراد الأدوية. ولا ريب أن ضعف كفاءة الإدارة السياسية والاقتصادية لدى الدولة يجعل من الصعب تمرير بعض السياسات التي تعتبرها الحكومة إصلاحات اقتصادية وتطالب الشعب بالتضحية وتحمل فاتورتها باعتبارها إصلاحا اقتصاديا دون اتخاذ خطوات جدية لمواجهة الفساد المستشري في كل مكان.

ولكن الخرطوم ليس استثناء فالكثير من المدن العربية تمر بنفس حالة السخط الشعبي ضد الحكومات فالقاهرة وطرابلس وبغداد وبيروت وتونس وصنعاء. ففي خطوة مشابهة أعلن البنك المركزي المصري قبل ثلاثة أسابيع تحرير سعر صرف الجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية حيث أثارت هذه الخطوة الكثير من التساؤلات والسخط الشعبي لما سوف يترتب عليها من زيادة كبيرة في كل السلع والخدمات وبالتالي المزيد من الضغوط الاقتصادية على المواطن المصري.

وبصورة عامة، تغيرت الوجوه والسحنات واختلفت ملامح الشوارع وتباينت أسماء المدن ولكن تشابهت المطالب وتوحدت الأصوات. فبين كل حين وآخر، تندلع المظاهرات الشعبية والاحتجاجات المطلبية التي تنادي الحكومات العربية للقيام بمسؤولياتها لتوفير الخبز والماء والكهرباء والدواء والمواصلات العامة وخدمات جمع النفايات وتحسين خدمات الاتصالات والتنديد بغلاء الأسعار وفساد الحكام، وغيرها من مطالبات مشروعة. بل وأحيانا يتسع الغضب الشعبي احتجاجا على إقامة السدود وتهجير السكان ونزع الأراضي لصالح أشخاص نافذين أو بيعها لمستثمرين أجانب. فكم من ملايين السنين الضوئية تحتاج الحكومات العربية للعبور إلى مصاف الحكومات المؤتمنة على حقوق شعوبها؟

ففشل غالبية الحكومات العربية في تحقيق التنمية المرجوة لشعوبها شكل حافزا قويا للتحركات الاجتماعية التي ساهمت بشكل كبير في انفجار انتفاضات الربيع العربي والتي بدورها ساهمت في إيقاظ الوعي المجتمعي وتنمية إدراك الشعوب العربية، بصفة عامة، بقوتها الحقيقية؛ حيث أدت هذه الثورات إلى قلب أنظمة حكم راسخة سيطرت على شعوبها بقبضة من حديد لعقود من الزمن، وما كان ليخطر على بال أحد أن قادة هذه الشعوب سوف يجدون أنفسهم في يوم من الأيام مطاردين أو باحثين عن اللجوء في دول أخرى، أو أن يكون مصيرهم الموت أو خلف القضبان! كما أدت هذه الثورات إلى زيادة الوعي بحقوق المواطنة ورفع تيرمومتر الحساسية الشعبية ضد تقصير الكثير من الحكومات العربية تجاه مواطنيها. فما كان بالأمس واقعا معاشا يستسلم له مواطنو هذه الدول صامتين صاغرين صار اليوم يندرج تحت مظلة الحقوق التي إذا لم تعط تنتزع.

ومهما قيل عن الريف وطاقاته إلا أن المدن تظل هي المراكز الحساسة للتغيير الاجتماعي، ولذلك كثيرا ما نقرأ ونسمع ونرى على شاشات الأجهزة التلفزيونية المئات من المتظاهرين يجوبون شوارع العواصم العربية ومدنها احتجاجا على عجز الحكومات عن إيجاد حلول لأزماتها المتفاقمة.

ورغم ما يبدو من تحسن في المؤشرات المتعلقة بالفقر والتعليم وتحقيق بعض التقدم في الإصلاحات الهيكلية في بعض البلدان العربية إلا أن ثورات الربيع العربي قد كشفت النقاب عن حجم المعاناة وارتفاع معدلات البطالة وسوء الأحوال المعيشية لمواطني الدول العربية غير النفطية على الأخص.

رغم ما يبدو من تحسن في المؤشرات المتعلقة بالفقر والتعليم وتحقيق بعض التقدم في الإصلاحات الهيكلية في بعض البلدان العربية فإن ثورات الربيع العربي قد كشفت النقاب عن حجم المعاناة وارتفاع معدلات البطالة وسوء الأحوال المعيشية لمواطني الدول العربية غير النفطية على الأخص

ولا ريب أن أكثر القضايا التي تثير السخط العام هي تخلي الدولة عن مسؤولياتها ورفع الدعم عن المحروقات والسلع الرئيسية والتي عادة ما تلجأ اليها الحكومات العربية لمواجهة فشلها الاقتصادي وأزماتها المالية المتكررة والتي لا تجد لها مخرجا سوى أسهل الحلول وذلك بمد يدها داخل جيوب المواطنين بدلا من السعي والابتكار لإيجاد حلول بديلة تسهم في توفير الحياة الكريمة لشعوبها.

لذلك ليس بمستغرب إطلاقا أن يأتي ترتيب مدن وعواصم معظم البلاد العربية في ذيل قائمة التصنيفات العالمية التي تقام سنويا لتقييم أفضل وأسوأ مدن في العالم من حيث جودة الحياة. وتقوم بهذه الدراسات سنويا هيئات استشارية أو مجلات متخصصة مثل وحدة الاستخبارات الاقتصادية بمجلة الإيكونومست بغرض مساعدة شركات عالمية كبرى لتحديد أماكن افتتاح فروع تابعة لها وتحديد المخصصات المالية لموظفيها الدوليين. وتعتمد مثل هذه الدراسات على عشرات المعايير منها الظروف الاجتماعية والاقتصادية والصحية والبنى التحتية والتعليم والإسكان والبيئة ووسائل النقل العام والترفيه.

على سبيل المثال تميزت فيينا -التي احتلت المركز الأول عالميا في عام 2016، ويعيش فيها 1.7 مليون نسمة- بالمقاهي الثقافية والمتاحف والمسارح ودور الأوبرا، وقلة تكلفة السكن والإيجارات وتوفر وسائل النقل العام المتاحة على مدار الأربع وعشرين ساعة وانخفاض تكلفتها. وجاءت دبي في المرتبة 75 عالميا والأولى عربيا بينما حلت أربع عواصم عربية في ذيل القائمة لأسوأ المدن عالميا وهي صنعاء ودمشق والخرطوم وبغداد التي حازت على لقب أسوأ مدينة للعيش فيها على مستوى العالم.

ولعل أكثر ما يلفت النظر في معظم الشعارات المطلبية التي تجوب مدن وعواصم البلاد العربية هي ربط السياسة بقضايا الحياة اليومية من خبز وماء وكهرباء وخدمات صحية وتعليمية ومواصلات عامة وليس فقط بالقضايا الإستراتيجية من حقوق وحريات وديمقراطية. وفي ذات الوقت لم تنج دول الخليج العربي والتي يعيش مواطنيها في رخاء وحياة اجتماعية مرفهة من المطالبة بضرورة إحداث اصلاحات في الحريات العامة وأنظمة الحكم والتعددية السياسية عبر التداول السلمي للسلطة.

وقد ذكر البنك الدولي في دراسة له أن مواطني بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يعانون من ضعف الخدمات الحكومية، وأرجع ذلك الى غياب آليات المساءلة لقياس مدى تلبية هذه المؤسسات لاحتياجات المواطنين، لافتا إلى أن ضعف الخدمات المقدمة وترديها تدفع المواطنين إلى فقدان الثقة في الحكومات مما يقلل من الطلب على الخدمات العامة الجيدة كما يقلل الضغط على الدولة للمطالبة بالمساءلة، ويفضي ذلك إلى المزيد من التردي في الخدمات.

والمفارقة المهمة هنا هي أن تردي الخدمات يلقي بأعباء ومعاناة إضافية على كاهل الفقراء أكثر من الأغنياء وذلك لغياب البدائل أمام الفقراء حيث لا يكون أمامهم سوى خيارين إما العزوف عن الخدمة المطلوبة أو محاولة الحصول عليها بثمن أعلى من قيمتها الحقيقية ويفوق مستوى دخلهم بكثير.

على سبيل المثال تبلغ التكلفة الشهرية للاستهلاك المنزلي للمياه في الخرطوم ما بين 50-75 جنيها سودانيا ولكن أزمات المياه المتكررة تدفع بمواطني الأحياء الطرفية أو الشعبية والتي تعاني أكثر من غيرها من انقطاع المياه المتكرر إلى شراء برميل المياه بما يعادل 75 جنيها سودانيا لتغطية احتياجاتهم اليومية، كما تدفع بساكني المدن الأخرى والتي تعاني من الإمداد المائي المتقطع إلى الحصول على المياه بنفس المبالغ الباهظة وبتكلفة تفوق كثيرا ما يدفعه سكان العاصمة الخرطوم للحصول على المياه!

رغم خيبة الأمل التي أصابت الكثيرين جراء استمرار حالة الهشاشة والاضطرابات وعدم حدوث التغيير الإيجابي المنشود في دول الربيع العربي، فإنه من الأهمية بمكان أن تستمر المطالبات من أجل الإصلاحات المأمولة وأن تتحول من مطالبات وقتية إلى مطالبات منهجية صلبة

وما يثير الدهشة حقا هو مبالغة الحكومات العربية في رد فعلها تجاه الاحتجاجات الشعبية وجاهزيتها وردود فعلها السريعة لإجهاضها واحتوائها حتى لو استدعى الأمر الاستخدام المفرط للقوة والذي يمكن أن يصل إلى درجة إطلاق الرصاص الحي ضد مظاهرات سلمية ومواطنين عزل. وأكثر ما يثير الحيرة هو المفارقة الواضحة بين حماسة هذه الحكومات وهمتها العالية في قمع مواطنيها، وتراخيها وقعودها عن عمل أي شيء آخر يلبي طموحاتهم ويحقق تطلعاتهم المشروعة!

ولا ريب أن عدم وجود أنظمة حكم ديمقراطية في هذه الدول أدى إلى إضعاف أسس الحكم الرشيد وإنهاك منظمات المجتمع المدني، وبالتالي ضعف آليات المساءلة والمحاسبة وعدم تعزيز أسس الشفافية ومراعاة مبدأ العدالة الاجتماعية فيما يختص بالإنفاق الحكومي على البنيات الأساسية. ويرجع هذا بالأساس إلى أن الكثير من النخب الحاكمة في الدول العربية تنطلق أساسا من فكرة أن الدولة هي الكائن العقلاني الوحيد، وأن الفئات المجتمعية الأخرى كيانات هلامية غير واعية بذاتها وغير مدركة لمصالحها لذا يجب التعامل معها بمبدأ القطيع والتجاهل والسيادة المطلقة.

ولعلنا ما زلنا نذكر المقولة الشهيرة للرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، وهو يحاول تهدئة أجواء الثورة التونسية في بداياتها الأولى بتوسل لا يحسد عليه" أنا خلاص فهمتكم" والتي تلخص لنا وببساطة شديدة حالة الغيبوبة التامة التي يعيشها هؤلاء القادة والبون الشاسع الذي يفصل بين الصفوة الحاكمة والشعب المحكوم في المنطقة العربية!

وعلى الرغم من خيبة الأمل التي أصابت الكثيرين جراء استمرار حالة الهشاشة والاضطرابات وعدم حدوث التغيير الإيجابي المنشود في دول ما سمى بالربيع العربي مع الاستثناء النسبي لتونس فإنه من الأهمية بمكان أن تستمر المطالبات من أجل الإصلاحات المأمولة وأن تتحول من مطالبات وقتية إلى مطالبات منهجية صلبة تدعو بإلحاح إلى التخلص من استبداد السلطات واحتكارها المطلق للقرارات المصيرية التي تؤثر على حياة مواطنيها وللتخلص من الجهل والفقر والمرض والتي تعد من أسباب الاستبداد ونتائجه أيضا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.