ما مدى حاجة الأوروبيين لأوروبا؟

European Union flags flutter outside the EU Commission headquarters in Brussels, Belgium, April 20, 2016. REUTERS/Francois Lenoir
في خطابه الأخير أمام البرلمان الأوروبي في عام 1995، استعمل الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران -حيث كان تدهور صحته واضحا للجميع- عبارة لا تنسى لوصف بلاء أوروبا الكبير: "القومية تعني الحرب!" 
 
وخلال حياة ميتران السياسية، عاش تجارب القومية والحرب، ولم يشِر إلى الماضي المروع فقط، النصف الأول من القرن العشرين، مع الحروب العالمية الأولى والثانية، والحكم الاستبدادي، والمحرقة. بل كان يرى أن القومية تشكل أكبر تهديد للسلام والديمقراطية والأمن الأوروبي في المستقبل.

على الرغم من أن الحرب القومية مزقت يوغسلافيا في ذلك الوقت، فان عددا قليلا جدا من الذين استمعوا إلى ميتران في ستراسبورغ في ذلك اليوم كانوا يظنون أنه بعد 21 عاما، ستشهد القومية انتعاشا على صعيد أوروبا. لكن الساسة القوميين الذين كان هدفهم تدمير الوحدة والتكامل السلمي في أوروبا قد فازوا الآن في الانتخابات الرئيسية والاستفتاءات الديمقراطية.

قد تم النظر إلى الأزمة المالية لعام 2008 وما تلاها من ركود عالمي بشكل واسع ومبرر كفشل ذريع "لمؤسسة" الدولة. وقد استمرت المشاعر المعادية للنخبة في تقويض التضامن بين بلدان أوروبا والثقة المتبادلة، كما أضحى الاتحاد الأوروبي غارقا في نوبة طويلة من النمو البطيء وارتفاع معدلات البطالة

إن قرار المملكة المتحدة في يونيو/حزيران مغادرة الاتحاد الأوروبي يمثل نهاية عابرة للقومية المنبعثة، لكن يمكن للمرء أيضا ملاحظة هذا التوجه في المجر، بولندا، وفرنسا، حيث اكتسبت مارين لوبان وجبهتها الوطنية اليمينية المتطرفة قوة في فترة الاستعداد للانتخابات الرئاسية للعام المقبل. كيف يمكن حدوث ذلك، رغم تجربة أوروبا الأولى مع السلطة الوطنية التدميرية في القرن العشرين، عندما تسبب ذلك في قتل الملايين وتدمير قارة بأكملها؟

بداية، لقد تم النظر إلى الأزمة المالية لعام 2008 وما تلاها من ركود عالمي بشكل واسع ومبرر كفشل ذريع "لمؤسسة" الدولة. وقد استمرت المشاعر المعادية للنخبة في تقويض التضامن بين بلدان أوروبا والثقة المتبادلة، كما أضحى الاتحاد الأوروبي غارقا في نوبة طويلة من النمو البطيء وارتفاع معدلات البطالة.

كما يسود شعور عام بالتراجع والإحباط في الدول الغربية، وذلك بسبب تحول الثروة والسلطة العالمية نحو آسيا. وقد انسحبت الولايات المتحدة من الناحية الجيوسياسية، في حين أحيت روسيا طموحاتها كقوة عظمى تتحدى الهيمنة والقيم الغربية. في جميع أنحاء العالم، هناك استياء متنام من العولمة والرقمنة، والتجارة الحرة، يرافقه تحول بطيء نحو الحمائية.ويبدو أن الأوروبيين، على وجه الخصوص قد نسوا أن الحمائية والقومية ترتبطان ارتباطا وثيقا، لا يمكن أن تتواجد واحدة دون الأخرى.

وأخيرا، يسود خوف من المجهول، كما تواجه العديد من البلدان القضايا المتعلقة بتدفقات الأجانب – سواء اللاجئين أو المهاجرين- والتغيرات الداخلية الناجمة عن تزايد التمكين الاقتصادي والسياسي للمرأة والأقليات. وأثارت هذه التطورات التي تزامنت مع تحولات واسعة النطاق وتصدعات في أوروبا بدأت في عام 1989، مخاوف بخصوص فشل الأحزاب السياسية والمؤسسات الديمقراطية في معالجة هذه القضايا.

كما هو الحال دائما، عندما ينتشر الخوف في أوروبا، يرى الناس الخلاص في القومية، والانعزالية، والتجانس العرقي، والحنين إلى الماضي (الأيام الخوالي)، في وقت من المفترض أن يكون كل شيء فيه على ما يرام في جميع أنحاء العالم. ناهيك عن أن الماضي الفوضوي والدموي لم يكن مثاليا. ويعيش القادة الوطنيون ومؤيدوهم اليوم في واقع "ما بعد التجريبي"، حيث الحقيقة والتجربة ليست لهما قيمة.

مع القرب الجغرافي لروسيا، وتركيا، والشرق الأوسط وأفريقيا، تعيش أوروبا أجواء صعبة ومليئة بالتحديات. ولا تتمتع برفاهية أميركا وبضمان أمنها بسبب الجغرافيا. بدلا من ذلك، يجب الدفاع باستمرار عن سلامة وازدهار أوروبا من خلال السياسة، والتي هي عبارة عن جهد مشترك وضروري

كل هذا يعكس تغييرا عميقا في كيفية رؤية الأوروبيين لأنفسهم. بعد حربين عالميتين وخلال الحرب الباردة، كان التكامل الأوروبي واضحا. لكن الفهم المشترك بأن الوحدة توفر السلام والرخاء والديمقراطية قد ضعف مع مرور الوقت بسبب الأزمات المستمرة، ويمكن الآن أن يضيع تماما إلا إذا تم تعزيزه من خلال رسالة تطلعية.

ومن غير المنطقي الاعتقاد أن الدول القومية التاريخية في أوروبا هي الجواب على الحقائق السياسية والاقتصادية والتكنولوجية المعولمة في القرن الحادي والعشرين. إذا كان الأوروبيون يعتقدون ذلك، فيجب أن يكونوا على استعداد لدفع الثمن لتكامل أقل، في شكل احتمالات وتبعيات جديدة. لن يتم اتخاذ القرارات العالمية الأكثر أهمية في هذا القرن ديمقراطيا في أوروبا، بل ستتخذ من طرف واحد في الصين أو في منطقة أخرى.

وتتميز اللغات والثقافات في أوروبا بتاريخ طويل. لكن -لكي ننسى- فإن دولها القومية هي الأحدث تطورا، خاصة خارج أوروبا الغربية. سيكون من الخطأ الفادح الاعتقاد أنها تمثل "نهاية تاريخ" أوروبا. على العكس من ذلك، إذا فاز نموذج الدولة القومية على خيار الاندماج والتكامل، فإن الأوروبيين سيدفعون ثمنا باهظا في هذا القرن. كيف ستدفع الدول الأوروبية الثمن في المستقبل هو السؤال الذي لا يمكن الإجابة عليه إلا بشكل جماعي، وليس على أساس بعض المصالح الوطنية المحددة بشكل فردي، كما كان الحال في القرن التاسع عشر.

وعلاوة على ذلك، مع القرب الجغرافي لروسيا، وتركيا، والشرق الأوسط وأفريقيا، تعيش أوروبا أجواء صعبة ومليئة بالتحديات. ولا تتمتع برفاهية أميركا وبضمان أمنها بسبب الجغرافيا. بدلا من ذلك، يجب الدفاع باستمرار عن سلامة وازدهار أوروبا من خلال السياسة، والتي هي عبارة عن جهد مشترك وضروري.

السؤال المركزي بالنسبة لمستقبل أوروبا هو مدى القوة التي يحتاجها الاتحاد الأوروبي من أجل ضمان السلام والأمن لمواطنيه. ولا يمكن أيضا معالجة هذا الأمر إلا بشكل جماعي. ما هو واضح بالفعل هو أن الأوروبيين لن يحتاجوا فقط المزيد من أوروبا، بل أيضا أوروبا مختلفة وأكثر قوة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.