المتقاعدون والشعبوية

Republican presidential nominee Donald Trump appears at a campaign event in Geneva, Ohio, U.S., October 27 2016. REUTERS/Carlo Allegri

إذا خسر دونالد ترامب الانتخابات الأميركية، هل سيكون تيار الشعوبية الذي يهدد بالسيطرة على العالم بعد تصويت البريكست في طريقه إلى الزوال؟ أم أن الثورة ضد العولمة والهجرة ببساطة ستأخذ شكلا آخر؟

ويعتقد الملاحظون أن صعود الحمائية والمشاعر المعادية للمهاجرين في بريطانيا وأميركا وأوروبا له علاقة بركود الدخل، واتساع عدم المساواة والبطالة الهيكلية، وتخفيف القيود النقدية المفرطة. لكن هناك عدة أسباب للتشكيك في الارتباط بين السياسة الشعبوية والضائقة الاقتصادية.

بداية، نجد أن معظم الناخبين الشعبويين ليسوا فقراء ولا عاطلين عن العمل، كما أنهم ليسوا ضحايا العولمة، والهجرة، والتجارة الحرة. تشمل أغلب المجموعات السكانية التي ساندت مناهضة مؤسسة الدولة أشخاصا خارج القوى العاملة: المتقاعدون وربات البيوت في منتصف العمر، والرجال من ذوي المؤهلات التعليمية المنخفضة والمستفيدين من دفعات الإعاقة.

 

في بريطانيا، حيث تتوفر الآن تحليلات مفصلة حول الأصوات المدلى بها في استفتاء البريكست، فالمجموعة الأكثر تأثرا بمنافسة الأجور المنخفضة وبالمهاجرين والواردات الصينية (الشباب تحت سن 35) صوتوا ضد البريكست بفارق كبير، من 65٪ إلى 35٪. وفي الوقت نفسه، صوت 60٪ من المتقاعدين لصالح "المغادرة"، وكذلك 59٪ من الناخبين ذوي الإعاقة. وعلى النقيض من ذلك، فقد صوت 53٪ من العاملين بدوام كامل لصالح بقاء بريطانيا في أوروبا، كما هو الحال لنسبة51٪ من العاملين بدوام جزئي.

وتشير البيانات البريطانية إلى أن المواقف الثقافية والعرقية وليس الدوافع الاقتصادية، هي الأسباب الحقيقية وراء التصويت المناهض للعولمة. وردا على سؤال عما إذا كانت "الليبرالية الاجتماعية" هي "قوة من أجل الخير" أو "قوة من أجل السوء" أجاب 87٪ من ناخبي "البقاء"، أنها تشكل قوة من أجل الخير، في حين قال 53٪ من ناخبي المغادرة إن الليبرالية "قوة للسوء". بخصوص "التعددية الثقافية" كان الفرق أقوى بكثير فـ65٪ من ناخبي المغادرة كانوا ضدها، في حين أن 86٪ من المصوتين للبقاء وافقوا عليها. كما يشير تحليل آخر نشرته البي بي سي بعد الاستفتاء إلى أن الدعم لعقوبة الإعدام شكل واحدة من أقوى عوامل التنبؤ بالتصويت لصالح المغادرة.

في أميركا،تشير استطلاعات الرأي إلى أن النوع الاجتماعي هو مؤشر على دعم ترامب أكثر من السن أو التعليم. في وقت مبكر من هذا الشهر، عندما كان ترامب قريبا من كلينتون في الدعم الشامل، قامت جريدة استطلاع بمقارنة أهداف التصويت مع انتخابات 2012. فوجدت أنه ليس فقط الرجال البيض هم الذين يؤيدون ترامب بفارق 40 نقطة مئوية، لكن دعمهم لترامب كان أعلى بنسبة 13 نقطة من التي كانت بحوزة ميت رومني، المرشح الجمهوري لعام 2012.

أما النساء البيض، فقد دعمن كلينتون بشكل هامشي، وقد تأرجح دعمهن بنسبة 15 نقطة مئوية ضد الجمهوريين. وفي أوساط الناخبين دون التعليم الجامعي، كان الفرق بين الجنسين أقوى من ذي قبل: فقد صوت الرجال البيض الأقل تعليما لصالح ترامب بفارق 60٪ محولا الدعم لصالح الجمهوريين بنسبة 28 نقطة مئوية، في حين انتقلت أصوات النساء من عشر نقاط مئوية في الاتجاه المعاكس، وقامت بدعم ترامب بشكل هامشي.

على ما يبدو فإن الصراعات ليس مردها إلى المظالم الاقتصادية والعولمة بل سببها في الواقع النزاعات الثقافية التي قسمت المجتمعات الغربية منذ أواخر عام 1960. وهناك رابط رئيسي بالاقتصاد، حيث خلقت الأزمة المالية لعام 2008 الظروف الملائمة لرد فعل سياسي من قبل كبار السن والناخبين المحافظين الذين خسروا المعارك الثقافية بسبب العرق والنوع الاجتماعي والهوية الاجتماعية.

وقد سمحت هيمنة أيديولوجية السوق الحرة قبل الأزمة بالعديد من التغيرات الاجتماعية المثيرة للجدل، والتي تتراوح بين عدم المساواة في الدخل والمنافسة الحادة في الأجور وبين المساواة بين الجنسين والعمل الإيجابي، لتصبح بلا منافس. ويبدو أن الليبرالية الاجتماعية "التقدمية" واقتصاد السوق الحر "المحافظ" سيكونان وجهين لعملة واحدة. لكن عندما فشلت الليبرالية الاقتصادية للسوق الحرة في أزمة عام 2008، لم يعد بإمكان التحديات السياسية والليبرالية الاجتماعية أن تنحرف من خلال مناشدة القوانين الاقتصادية.

لكن، إذا لم يعد ممكنا شرعنة التغيير الاجتماعي كشرط ضروري للتقدم الاقتصادي، يبدو من المستبعد أن تصوت الديمقراطيات الآن لإعادة الأوضاع الاجتماعية قبل صعود الليبرالية الاقتصادية والعولمة. وأضحت المساواة العرقية والجنسية مدعومة اليوم من قبل أغلبية كبيرة في الولايات المتحدة وبريطانيا ومعظم الدول الأوروبية، وحتى السياسات الشعبية مثل الحمائية التجارية وضوابط الهجرة الصارمة نادرا ما تجمع أكثر من 30 إلى40٪ من الدعم في استطلاعات الرأي. لماذا إذن فاز البريكست، ولماذا لا يزال من المرجح أن يصير دونالد ترامب الرئيس المقبل للولايات المتحدة؟

إن كلا من البريكست وترامب مدعومان من قبل تحالف غير مستقر بين حركتين مختلفتين ومتناقضتين جدا. أغلب أنصارهم في الواقع من المحافظين الاجتماعيين والحمائيين الذين أرادوا التراجع عن التغييرات الاجتماعية التي بدأت في أواخر عام 1960.

ومن الشعارات الأكثر فعالية لحملات بريكست وترامب شعاران اثنان: "استعادة السيطرة" و "أريد استرجاع بلدي". لكن المحافظين الاجتماعيين المتأثرين بمثل هذه المشاعر الرجعية والاستبدادية لا يشكلون الأغلبية في أي دولة غربية. ولا يمكن للمحافظين الاجتماعيين جمع أكثر من 30 إلى40٪ من الناخبين لوحدهم. وللفوز بالأغلبية على الحمائيين المحافظين التكتل مع حركة بقايا تاتشر– ريغان الذين يشعرون بالاستياء من الإدارة الاقتصادية التدخلية لفترة ما بعد عام 2008 ويريدون تكثيف المنافسة، ورفع القيود، والعولمة التي يستاء منها المحافظون الاجتماعيون.

وبدا هذا التكتل السياسي غير المستقر يحل الآن في الولايات المتحدة، وكذلك في بريطانيا، حيث انقسمت حكومة رئيسة الوزراء تيريزا ماي بين القوميين الأيديولوجيين والليبراليين الاقتصاديين. وإذا أكدت الانتخابات الرئاسية الأميركية في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني فشل ترامب في ربط المحافظين الاجتماعيين والليبراليين الاقتصاديين بائتلاف فائز، فإنه من المرجح حدوث تفكك مماثل وسط الأوروبيين الشعبويين أيضا.

في هذه الحالة، سوف يبدو تصويت بريكست وكأنه حالة شاذة وليست بداية اتجاه جديد قوي نحو القومية والحمائية، وإزالة العولمة، بل نهاية رد فعل عنيف ضد الحداثة من قبل تحالف غير مستقر بين السلطويين الاجتماعيين والليبراليين المؤيدين لاقتصاد السوق. وسيكون الرمق الأخير للجيل القديم الذي حاول فرض حنينه المحدود على جيل الشباب العالمي، لكنه نجح فقط في دولة واحدة بائسة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.