حزب العدالة المغربي.. نجاحات وتحديات

أمام مقر حزب التقدم والاشتراكية ليلة الجمعة الماضية

أسدل الستار على انتخابات تشريعية مفصلية في المغرب، وضع خلالها مسار الإصلاح على المحك، فإما نكوص وإجهاض للمشروع الإصلاحي في بداياته، أو عبور وتجاوز لنقطة اللاعودة.

فاز حزب العدالة والتنمية المغربي وتعززت شعبيته؛ إذ رفع عدد مقاعده من 107 إلى 125، وكلاهما أرقام قياسية في التاريخ السياسي المغربي. هذا الإنجاز غير المسبوق أبقى المغرب -وحزب العدالة والتنمية- استثناء عربيا واعدا يتطلع إلى نجاح تجربته كل العرب المحبطون من الجمود ومن فشل الثورات التي ضيعتها نخب عاجزة وانتهازية. وتتعاظم قيمة الإنجاز باعتبار أن العدالة والتنمية ترأس لمدة 5 سنوات حكومة ائتلافية بصلاحيات محدودة في وجه معارضة معرقلة متغلغلة في مفاصل الدولة وفي وجه إعلام متحامل، وباعتبار أن العدالة والتنمية أحدث إصلاحات مؤلمة، لطالما تجنبتها الأحزاب والحكومات خوفا على الشعبية. ورغم كل ذلك تعززت شعبيته فتأكدت سلامة منهجيته المراهنة على الشعب والمشروع.

أنجز المغرب انتخابات نزيهة رغم ما شابها، عرفت تنافسا شديدا بين تيارين متباينين، تيار الردة الذي لم يدخر جهدا أو وسيلة للعودة بالمغرب إلى ما قبل 2011 وتحديدا إلى عهد الديمقراطية النخبوية الجوفاء والمشوهة، وتيار إصلاحي متشبث بمشروعه يعرضه بكل وضوح ويطلب من الشعب تفويضا للاستمرار في تنفيذ ما بدأه من إصلاحات. فكافأه الشعب بتفويض وثقة ما انفكا يتعاظمان خاصة بعد موجات الربيع العربي.

وسيحفظ التاريخ والشعب لهذا التيار موقفه الرافض لمهادنة تيار الردة والإصرار على مقاومته، محافظا بذلك على توهج المشروع الإصلاحي وسلامته من الاحتواء والتجويف والشبهات والدنس، مما أحدث في الحياة السياسية ديناميكية غير مسبوقة في الدول العربية، وأعطى الانتخابات معنى وقيمة، ووضع أسسا صلبة لديمقراطية سليمة يصر العدالة والتنمية أن تكون تنافسا بالبرامج والسياسات والإنجازات، بعيدا عن الثرثرة والخزعبلات.

ومن المفارقات أن المغرب الذي كانت فرصته في التغيير هي الأضعف كان أكبر مستفيد، وربما المستفيد الوحيد، من موجات الربيع العربي، وبدون أي تكاليف، وذلك بسبب صلابة وحكمة هذا التيار الإصلاحي وثباته على مبادئه ومنهجيته.

انتصر المغرب وطنا وشعبا وقيادة. فهنيئا لهم بهذا الإنجاز وبهذه القيادة الوطنية الصادقة والحازمة التي افقتدها غيرهم. فنحن في زمن عز فيه وجود قيادة، فضلا على أن تتوفر فيها الخصال الثلاثة أو حتى بعضها.

قطعا لا المغرب أصبح دولة متقدمة ولا ديمقراطيته اقتربت من الاكتمال أو الشفاء التام، وإن كانت تكتمل وتتعافى باضطراد. وبالانتخابات الأخيرة ونتائجها قطع المغرب شوطا آخر مهما في المسارين: مسار الإصلاح الاقتصادي والتقدم ومسار العدل والشفافية وترسيخ الديمقراطية. ولعل عبور المحطة الأخيرة بنجاح قد حصن المغرب إلى حد كبير ضد الردة والانتكاس.

لم تنته في المغرب آفات التحكم والفساد واستغلال النفوذ، ولكنها ستظل في تراجع وانحسار بعد أن رفعت عنها الحصانة وأصبحت تواجه مقاومة شرسة من تيار مجتمعي قوي ومتجذر.

لم يكن ذلك لا نتيجة ثورة أسقطت نظاما وفتحت طريق التغيير والإصلاح، ولا نتيجة دستور عظيم، فالدستور المغربي لم يتغير كثيرا. ولم تكن المشكلة في الدول العربية أبدا مشكلة دستور ولا قانون. وعدد من الدول العربية الغارقة في الفساد والاستبداد والتخلف لها دساتير معقولة، وأصبح لها -خاصة منذ الثمانينات- انتخابات دورية تعددية وبرلمان تعددي. المشكلة كانت دوما في الواقع المزيف الذي لا يمت بصلة للدستور. وكذلك القانون فقد كان الخلل دوما في تطبيقه، حيث تضيع الحقوق بفعل الفساد والبيروقراطية والمحسوبية. بل تحقق ما تحقق في المغرب بسياسة الأمر الواقع، بخلق واقع جديد ورأي عام جعلا أوضاع المغرب والممارسة السياسية فيه متقدمة على دستوره ومتقدمة على سائر الدول العربية التي خاضت تجربة ديمقراطية، وجعلا ديمقراطيته تترسخ وتستعصي تدريجيا على الانقلاب.

هذه الطريقة التي تراهن على الشعب والميدان هي أضمن في تحصين الديمقراطية من أي كلام يكتب في الدستور، فلا عجب أن تكون بريطانيا أعرق الديمقراطيات من دون أن يكون لها دستور مكتوب، ولا عجب أن تتردى الأوضاع وتنحدر الممارسة السياسية في تونس رغم إنجازها لدستور متقدم جدا.

لقد تبنى حزب العدالة والتنمية أحدث وأنجع الإستراتيجيات التي تعتمد في كسب المنافسة ليس على السعي للتفوق على الخصوم، بل على تغيير "قانون اللعبة". لقد أدخل الحزب تغييرا جذريا على الممارسة السياسية برمتها من إدارة الحزب إلى إدارة الدولة مرورا بالحملة الانتخابية. فهذا هو الحزب العربي -ربما الوحيد تقريبا- الذي يدار بطريقة ديمقراطية شفافة، وملتزم بالصدق والوضوح، وفيه تداول على القيادة، ولم يقترب من أي تمويل مشبوه أو مشروط من الداخل أو الخارج، ونأى بنفسه تماما عن أي ارتباطات أو أجندات إقليمية أو دولية.

أما في الحملة الانتخابية فقد وقف الحزب وصمد في وجه تيار عالمي جارف أفرغ الانتخابات من الصدق ومن أي محتوى وحولها إلى عملية جوفاء تتنافس فيها الأحزاب في الدعاية الفارغة والوعود الكاذبة والمال السياسي وكل طريقة أو وسيلة تجلب الأصوات.

اختار الحزب الصدق والوضوح وعرض ما ينوي القيام به فعلا من سياسات وإصلاحات حلوها ومرها محكوما في كل ذلك بمصلحة الوطن ومصلحة الشعب ولو على المدى البعيد، معيدا بذلك العملية الانتخابية إلى مسارها الصحيح باعتبارها عرضا واضحا وصادقا لبرنامج حقيقي وطلبا لتفويض شعبي لتنفيذه، بدون أي خداع أو مراوغة. ولقد رسخ الحزب هذه المنهجية في الحملات الانتخابية اللاحقة (بعد ترؤسه الحكومة) فدافع بدون أي مواربة عن إنجازاته وإصلاحاته وبعضها مؤلم، واعتذر عن أي تقصير في الإصلاحات وأكد أنه مستمر في نفس المنهج ولم يتورط في الوعود.

أما النجاح الأكبر فقد حققه الحزب في الاختبار الأكبر، اختبار السلطة. التزم قادته ببنود العقد الذي بينهم وبين الشعب فعملوا على تنفيذ ما عرضوه عليه طلبا لصوته. قدموا للشعب الدواء المر الذي تتجنبه الحكومات، وتفضل عليه المسكنات، والذي لا مفر منه لإنقاذ اقتصاد البلاد ووضعها على طريق النهوض، معرضين بذلك شعبيتهم ومستقبلهم السياسي للخطر.

نجحوا بدرجة معقولة في إحداث توازن شبه مستحيل بين تشجيع المقاولة والاستثمار والانحياز للطبقات الفقيرة وتجسير الهوة بين الطبقات والتقدم خطوات ملموسة على طريق العدالة الاجتماعية وتوفير العيش الكريم وتكافئ الفرص لكل المواطنين. مارسوا السلطة بكل صدق وشفافية ونزاهة، باعتبارها تفويضا مؤقتا لتنفيذ برنامج، وليست غنيمة ولا حصنا يحتمي به الحزب من الخصوم ومن الشعب ومن المحاسبة.

أما في النزاهة ونظافة اليد فلم يقتربوا حتى من المنطقة الرمادية، ولم يتورطوا في أي محسوبية، ورغم النقلة الصاروخية في موقع الحزب في الحكومة والسلطات المحلية لم يطرأ أي تغيير على قادة الحزب وكوادره لا في معيشتهم ولا في معاملاتهم ولا في سلوكهم ولا في خطابهم. فلا نشوة ولا كبر ولا ثراء، ولم يتنكروا لمبادئهم ولم يخذلوا الشعب الذي أوصلهم، بل ظلوا قريبين منه متواصلين معه.

لم ينشغلوا لا بأنفسهم ولا بالخصوم، بل ظل تركيزهم على الشعب وعلى المشروع، وظلت الجهود موجهة لتنفيذ المشروع وشرحه من خلال التواصل مع الشعب مباشرة ومن خلال البرلمان، بخطاب بسيط واضح وصادق يقطر وطنية ورأفة بالشعب، وربطوا نجاحهم ليس بمكاسبهم أو موقعهم في السلطة، بل بأحوال شعبهم وتقدم وطنهم.

تلك العوامل مجتمعة جعلت العدالة والتنمية يقف على أرضية صلبة، فلم يتنازل عن مشروعه ولم يضطر للتوافق مع قوى الردة ولا لمهادنة الفساد، ولم ينشغل كثيرا بوجوده في السلطة أو خارجها.
باختصار نجح العدالة والتنمية في العبور الذي فشل فيه كل نظرائه تقريبا، العبور من الدعوة إلى السياسة إلى السلطة، فسقط من سقط في العبور الأول وسقط الباقون في العبور الثاني، حيث ارتبكوا فتهوروا أو استكانوا فأصبحوا جزء من المنظومة التي ما قاموا إلا لتغييرها.

وأختم بخمس ملاحظات حول هذا الحدث الكبير:
أولا: التراجع المستمر في نتائج الأحزاب الإيديولوجية والعريقة أكد أن الانتخابات تحسمها ثقة الشعب التي تتأسس على الصدق والوضوح والإخلاص والإنجازات، ولا وزن للإيديولوجيات والعراقة والشعارات. وربما سحب الحزب الأول والثاني من الأحزاب الأخرى كثيرا من الأصوات التي خيرت أن يكون صوتها مفيدا ويذهب إلى حزب مرشح للفوز، بما قد يؤشر إلى اتجاه العملية السياسية في المغرب نحو الثنائية الحزبية، هذا إن ظل حزب الأصالة والمعاصرة متماسكا. فهو في الحقيقة ليس حزبا بل شبكة مصالح لم يجمعها سوى الوقوف في وجه العدالة والتنمية ومشروعه الإصلاحي.

ثانيا: بحفاظه على ثقة المغاربة وصدارة المشهد، أسقط العدالة والتنمية ما تبقى من الحجج الواهية التي يبرر بها الفاشلون فشلهم. فهذا حزب حاكم واجه معارضة شرسة لم تدخر جهدا أو وسيلة لعرقلته، ومع ذلك لم تنقص شعبيته بل زادت، مؤكدا بذلك ما أثبته العدالة والتنمية التركي من قبل، حيث حافظ على شعبيته في انتخابات محلية وبرلمانية ورئاسية متتالية على مدى عقد ونصف من حكمه لتركيا. فالشعبية إذن لا ينقصها الحكم بل ينقصها الفشل والنكوص وخيبة الأمل. كما برهنت التجربة المغربية أن ليس صحيحا أنه لا بديل عن السيناريو المصري إلا السيناريو التونسي لمن يريد أن يتجنب السيناريو السوري أو الليبي أو اليمني. كما أثبتت أنه ليس صحيحا أن العرب محرم عليهم أن يحلموا بأكثر من تجنب الحرب الأهلية أو الدولة الفاشلة، وأن كل ما دون تلك السيناريوهات القاتمة يعتبر إنجازا ونجاحا ومفخرة.

ثالثا: على قادة العدالة والتنمية ألا يقعوا في أي مطب من المطبات التي تجنبوها إلى حد الآن، والتي أوقع غيرهم، وأن يثبتوا على مبادئهم ومنهجيتهم والتحامهم بالشعب، ويحافظوا على التوازن الدقيق بين الإصلاح والاستقرار، ويتمسكوا بعوامل نجاحهم من صدق ووضوح وشفافية وعمل مؤسسي واستقلال للقرار وحرص على الشعب وإعلاء للمصلحة الوطنية، وأن ينظروا إلى هذا الإنجاز على أهميته على أنه مجرد خطوة إلى الأمام في طريق طويل نهايته تحرر ونهوض وتقدم وديمقراطية كاملة، فلا نشوة ولا استرخاء ولا غرور.

رابعا: التحدي القادم هو تحول المشروع الإصلاحي للحزب إلى مشروع وطني ملهم ومحفز لجمهور المغاربة وتحول الحزب إلى حزب وطني جامع يلتف حوله جمهور المغاربة وينخرطون في مشروعه الوطني للإصلاح. وليكن الهدف في قادم الانتخابات نسبة مشاركة أعلى بكثير واقتراب عدد مقاعد الحزب من الأغلبية، التي تمكنه من تسريع وتيرة الإصلاحات.

خامسا: أفرزت نتائج الانتخابات استقطابا حادا بين حزب إسلامي رافع لراية الإصلاح وحزب الأصالة والمعاصرة الذي يمثل المنظومة القديمة، منظومة التحكم والفساد، وهو ذات الاستقطاب الذي أفرزته الانتخابات التشريعية في تونس.

وتشير الأرقام إلى أن حزب العدالة والتنمية سيجد صعوبة في تشكيل حكومة ائتلافية حوله مشروعه الإصلاحي، مما قد يضطره إلى دراسة إمكانية التوافق مع حزب الأصالة والمعاصرة. وهنا أقول لقادة العدالة والتنمية إياكم ثم إياكم والتوافق المغشوش مع قوى الردة، فإنه انتحار للحزب ومصداقيته، وخراب للوطن وخذلان للشعب وتمييع للسياسة وحاضنة للفساد، وقضاء على الشفافية والمحاسبة وعلى أي أمل في الإصلاح والتغيير والنهوض وإقامة ديمقراطية حقيقية.

فأكرم لكم ألف مرة إن فشلتم في تشكيل ائتلاف حكومة حول مشروعكم الإصلاحي أن تعاد الانتخابات أو تتركوا الحكم وتدفعوا بمشروعكم من موقع المعارضة وتطلبوا من الشعب في قادم الانتخابات تفويضا أكبر، على أن تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير فتقدموا مشروعكم قربانا لبقائكم في الحكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.